جسر المك نمر-رواية- الفصل الخامس عشر

 

عدت من الزقاق هذه المرة مشوشاً تتجاذبني الهواجس والشكوك. لم يعد الزقاق كما كان قبل نصف قرن من الزمان، تغييرات كثيرة طالته، خاصة عندما حاولت السلطات إعادة تخطيط المدينة بعد أن صار في منتصفها بفعل تمدد العمران وانتشار العديد من الأحياء السكنية حوله. لكنه ظل كما هو زقاق تمتد على جانبيه ذات المنازل الستة عشر وإن كان شكلها قد تغير عما كانت عليه وتفرعت عنه عدة ازقة مجاورة ، فبعد بيوت الطين القصيرة أطلت على الزقاق بيوت اسمنتية بعضها تسامق عدة طوابق. كل ما استطاعت السلطات أن تفعله ، بعد استحالة عملها في طرقاته الداخلية، هو الشارع الأسفلتي الذي استقطعته من الجرف على الشريط النيلي من الناحية الشرقية للزقاق، وكذلك الشارع الواقع غربه حيث استثمر أصحاب البيوت المطلة عليه ذلك الوضع، بعد توسعة الشارع ، ليفتتحوا محال تجارية أصبحت مركزا ضخماً للعديد من الخدمات.

 

جسر المك نمر-رواية- الفصل الرابع عشر

 

من يشاهد عبد السيد بعد كل تلك السنوات في موقع محايد، تصيب معاقل الدهشة فيه شظية من الرغبة في الهتاف إعجاباً، بينما تلك العرجة التي بدت مؤخراً بائنة خفيفا في قدمه اليسرى والمتسقة مع الشيب الرمادي الذي صبغ معظم شعره واللحية المشذبة المحيطة بوجهه ، تضفي عليه شعوراً مُعذّباً من تأنيب الضمير كمًّن تسببت فيها، تجعله يتنحي جانباً ليسمح له بالمرور ويشدُّه صدره إلى الأمام في إنحناءة تنم عن تقدير واحترام ظاهرين. لكن يظل لون إنسان عينيه الأخضر مصدر تساؤل مستمر دون إجابة قاطعة سوى همس متسرب سرعان ما تنسد منافذه بلا سبب واضح. وهو ما جعل الصحف تطلق عليه إسم الأخضر في كل حدث مرتبط به بعد ان سطع نجمه في عوالم متعددة.

 

جسر المك نمر-رواية- الفصل الثالث عشر

 

لم يشغل كل ذلك عبد السيد عن الاهتمام بأخته ليلى من على البعد دون أن يلفت الأنظار إليه، تجنب التواصل معها مباشرة إلى أن تزوجت، فدخل عليها بصحبة الزاكي ليهنئها، واستمرت عنايته بالزاكي وأحواله بعد انتقاله مع أمه من الزقاق عقب وفاة مروان. هما معاً يحملان إسمه؛ لا سبيل لأن يتجاوز هذا الواقع، وكان أكثر حرصاً على استمراره مع علمه بأن الحقيقة لا علاقة لها بهذا الواقع. لم يهرب منه في مسارات الحياة التي أخذته بعيداً يوم أن حمل حقيبته ورحل. وقتها كان الزاكي صغيراً، يصغره بعدة أعوام وحينما سار ماشياً على قدميه، ظل ممسكاً بيديه تجنباً لعثرات المرحلة الأولى وخوفاً عليه من السقوط، كل هذا كان بعيداً عن نظرات مروان، قبل أن يعود راجعاً إلى حضن الرضية. لم يفكر في وداعه يوم أن غادر، لم يخطر بباله أن يودع الزاكي وأمامه الأفق مفتوح على سماوات لا تشبه تلك التي ظلًّتهما. عاوده الاهتمام به بعد رحيلهما هو ووالدته، لا يدرك كنه ذلك الشعور الذي ينتابه كلما رآه في سوق وسط المدينة، وكانا قد كبرا بما يكفي. يأخذه في حضنه ويدس بين يديه مبلغاً من المال بعد سؤاله عن أحواله. لم يشك الزاكي يوماً في صلته بعبد السيد وأن تلك الروح داخلهما لا تنفصلان، عندما يرى وجه أمه مقطباً حين ترد سيرة عبد السيد، يرجع السبب إلى أنها ليست أمه بل إبن ضرتها.

 

جسر المك نمر-رواية- الفصل الثاني عشر

 

بعد تلك الدموع التي ذرفها عبد السيد مع خروج آخر الجنود الانجليز، وذلك الاحساس باليتم الحقيقي الذي انتابه، استيقظ بعقل أكثر انفتاحا. ليس له سوى هذا العقل وهذين العينين الخضراوين لإدارة معاركه المقبلة. هؤلاء الناس الذين يراهم يتوافدون كل يوم إلى بيت سعاد الكبير، سيستغلهم ليفتحوا أمامه كل الأبواب فيما بعد. لا يشغل باله بالعوام الذين لا يهتمون كثيراً لأمثاله ولا فائدة يرجوها منهم سوى تلك الضحكات البائسة ونفحاتهم النادرة التي يهبونها له في غمرة سكرتهم أو إنتظاراً لإطفاء نيرانهم المشتعلة أسفل بطونهم في واحدة من تلك الغرف الضيقة، فهؤلاء لا يكترثون لشيء ولا يمكن الإمساك بسقطاتهم فهم أول من يعلنونها. عليه الاهتمام بأولئك الخائفين، الذين يأتون خلسة من علية القوم، يختبئون خلف الظلام، ويديرون نهار أعمالهم في الليالي الماجنة بعيداً عن الأعين.

 

جسر المك نمر-رواية- الفصل الحادي عشر

ذاك النهار مثل نقطة تحول أُعيد فيها ترتيب الأشياء، فما كان لها أن تمضي هكذا دون أن يعاد ترتيبها من آثار الفوضى التي اعترتها. تعود لطبيعتها لكنها تحمل داخلها بذور فوضى أخرى قادمة لا يدرك أحد ميقات تفجرها. هي طبيعة الأشياء نفسها أن تصير إلى الفوضى لتجد من يمسك أو ما يمسك بأطراف خيطها فيعيد نظمه، مثلما يجري النهر نحو المصب في سلاسة لا يعكر انسيابه سوى تلك الجزر الخانقة التي تعترض طريقه أحيانا، يجري كما أفعى تتربص بفريستها بعد حالة الفيضان التي تعتريه، ليحيل الأرض التي حوله إلى معركة تتجاذبها الأمواج ارتفاعاً وانخفاضاً إلى أن يحين موسم انحسار الماء عن الشواطئ. لكنه يكون قد أخذ في جوفه ما أخذ دون أن يلتفت أحد إلى ذلك بعد عودة السكون إلى الضفاف.

جسر المك نمر- رواية- الفصل العاشر

لم تهتم الرَّضية كثيراً عندما أخبرها الفتى الجالس أمامها أن أمه هي ليلى زوجة الزاكي، فكثيرون عبروا أمام عينيها وخرجوا من بين يديها أثناء مسيرتها كقابلة، دون أن يتركوا أثراً في نفسها يحفز قرون استشعار حب الاستطلاع لديها. ولكنها صمتت طويلاً وهي تنظر في عينيه الخضراوين تغالب انفعالاتها وتصارع لإخفاء دهشتها عندما علمت أن جدته "أم ليلى" هي سعدية أزرق.

جسر المك نمر- رواية- الفصل التاسع

 

مضت سنوات، منذ أن وطأت قدما عبد السيد صالة غردون أول مرة، ولكنها كانت كافية لتضعه على الطريق المرسوم بدقة. أدرك، وهو يشب عن الطق سنة بعد أخرى، أن الأمر لا يتعلق بلن عينيه فقط وإنما ذلك الدم الذي يسري في عروقه ويندفع في انسياب هاديء ليغذي عقله.

قذف بكل ترهات الزقاق التي كانت تؤرقه من حين لآخر رغماً عنه خلف ظهره. حتى الرَّضية ما عادت تؤرقه صورتها التي بدأت في التلاشي، مثل تلك الدموع التي استقرت على رأسه يوم أن غادرها ثم تبخرت وزال ملمسها وهو يحث الخطى بقديمه الصغيرتين وكل خطوة تتفتق تحتها ثقة كان قد افتقدها أثناء حصاره في الزقاق بإبن الحرام. هنا وجدته نفسه الضائعة لتتماهى مع ما حولها دون إحساس بالغرابة، وكأنها عاشت طوال حياتها بين تلك الأحياء وداخل جدران المدرسة وفي صالة غردون التي صار يعمل فيها في العطلات المدرسية.

 

جسر المك نمر- رواية- الفصل الثامن

 

لكن مروان ليس أباك، تلك الحقيقة التي نطقت بها طرقات الزقاق وروائحه وجدران مساكنه باتت أكثر وضوحاً في ذهن عبد السيد حين همست بها الرضية في أذنه، وهي تكمل طقوس الوداع الأخير، قبل أن يحمل أعوامه السبعة وحقيبته الصغيرة المهترئة الأطراف على كتفه، بعد أن احتضنته الرضية بقوة. تلك كانت آخر مرة يرتمي في حضنها مستسلماً لقدره، وهي تودعه وتوصي صديقتها سعاد بجملة وصايا لم يفهم منها شيئاً. حضن الرضية هذه المرة لم يكن كما سابق عهده، ليست فيه إشارات القلق وذبذباته التي كان يستشعرها دائماً، كان محتشداً بمشاعر السكينة رغم الدموع التي سقطت من عينيها وبللت اطراف رأسه وكأنها تغسل تعب صدرها بتحملها بقاءه معها وتبرئ ذلك الشرخ الذي بدأ رقيقاً داخله بعد أن صار يعلم حقيقة أن مروان ليس هو أباه، الحقيقة التي بات يراها في عينيه حين يطيل النظر إليها في صمت مؤخراً وهو عائد من مشاجرة مع الصبية وملابسه ممزقة. كان لا يدري لمن يوجه صراخه الذي يعتمل في صدر "لقد سئمت هذه الحياة"، وهو بلا أب وأم مجرد كذبة ولكنها كذبة جعلته متماسكاً يرمي بنظرات عينيه إلى أفق بعيد كلما جلس بجوار ضفة النهر يداعب الماء بقدميه الصغيرتين.

 

جسر المك نمر- رواية- الفصل السابع

 ليس هناك جديد، فالهمسات تخترق أذني عبد السيد منذ أن كان يخطو أولى خطواته صعوداً على سلم عتبات الوعي، وتحاول عيناه الإمساك بتفاصيل الأشياء في براءة طفل. السارة.. أمه التي أخرجته من رحمها، بالنسبة له روح متلاشية وها هو جالس على حافة النيل ونظره لا يمسك بشيء محدد في الأفق. هذا العالم الذي ينتهي عند حدود الزقاق لا يحفل به كثيراً، يكاد يخنقه.. يضغط على صدره الملوث بأحاديث المحيطين به. هو لا يعرف سوى هذا الزقاق الذي لم يبرح زواياه إلا عندما بلغ السابعة من عمره حينما قررت الرضية أن تلحقه بالمدرسة الأولية. تطرق أذناه همسات الكبار بأن أمه السارة، وفي همسات أكثر خفوتاً ينعتونه بإبن الزنا، أما الأطفال الذين يماثلونه عمراً فكانوا ينادونه بـ"ود السارة". لم يكن ذلك يعني شيئاً بالنسبة له، وإن كانوا يحاولون إذلاله وإهانته بتلك الكنية لكسر طوق التميز الذي تحيطه به الرضية. كان يكتفي بصدهم بنظرة حادة من حدقات عينيه الخضراوين التي تثير داخلهم الخوف من التمادي أكثر.

 

جسر المك نمر- راوية- الفصل السادس

 

بدأ زقاق الخواجة يأخذ ملامحه بعيداً عن عمق المدينة وازدحامها، بعد أن كانت فضاءات المكان خالية سوى من ذلك المركب الخشبي الراسي، المرسوم على جدران ذاكرة الناظرة العابرين كمشهد أزلي وهم يعبرون المسافة القليلة بين القرى المجاورة إلى سوق المدينة أو العكس، وقد حملوا حوائجهم مخترقين أفقاً آخر يخصهم بعيداً عن تلك الضجة التي لا تستهويهم كثيراً.

 

جسر المك نمر- رواية- الفصل الخامس

 وقتها كانت سماوات المدينة القلقة مشحونة بغيوم أنباء الحرب المتواترة من الأطراف الغربية. والدراويش كمارد منطلق من قمقمه تغافل عنه الصياد قبل أن يطلق ساقيه للريح. ليس الغرب وحده الآن مخترق بل عدة جبهات شرقاً وجنوباً وشمالاً، وصدْر المدينة يتنفس هواء الانتظار.. انتظار ما هو آتٍ.

 

جسر المك نمر-رواية- الفصل الرابع

 

البيت الكبير اكتملت جنباته، وحديقته بدت واضحة المعالم، بأشجارها التي تماسكت أغصانها وهي تزداد خضرة وتستجيب لمداعبات الريح، وكان العاملون قد شرعوا في زراعتها منذ تخطيط الأرض وقبل أن يوضع أساس السور المحيط بالبيت. موقعه على تلك الربوة المتاخمة لضفة النيل جعله مطلاً على عمق المدينة، بالرغم من بعده النسبي عن أحيائها السكنية، وكأنما تعمد الخواجة ذلك البعد ليعمق الفجوة بين وجدان المبروك وعائلته، وصديقه المكي أكبر أبنائه.

 

جسر المك نمر- رواية- الفصل الثالث

 

انسلت خيوط القصة من بين شفتي الرَّضية ووجهها المنفعل بمشاعر شتى، وهي تنفث دخان سيجارتها البرنجي في تلذذ. عادت بذاكرتها، إلى رواية أمها، ما قبل وفاة الشيخ المبروك الذي تفصله سنوات طويلة من اليوم الذي صادف خروج عبد السيد من رحم السارة. ليست صدفة إذاً أن يجيء في اللوح المحفوظ أن عبد السيد سيولد بعينين "خضراوين"، فالمخاض استمر طويلاً والميلاد لم يكن لحظتها، بل كانت بذرته مغروسة منذ زمن الغفلة مثلما جاء عبد السيد في غفلة من الزمن كما قالت تلك العجوز.

جسر المك نمر- رواية- الفصل الثاني

 الحقيقة.. لا يكاد أحد يجزم بمعرفتها، بعد أن صار زقاق الخواجة يتغير شيئاً فشيئا مع مرور السنين منذ أن غادره عمّي منذ سنوات بعيدة، لتنطمس معالمه في لجة تلك التغيرات وتنطمس بين طياتها جل الحقيقة. طرقات الزقاق الضيقة بدت أكثر اتساعاً وأناقة رغم تراكم الأوساخ الذي لم يفارق جنباتها كمشهد عادي، وأنا أقطعها من عدة اتجاهات بحثاً عن الدار التي تسكنها الرضية. المعالم التي حفظتها ذاكرتي من وصف عمي المتكرر للزقاق تغيرت ملامحها كثيراً، فصرت كالتائه أثناء تحسس بصري للبنايات القديمة. تلك البنايات التي تغيرت معالم بعضها تماماً بعد أن تم هدمها وإقامة مباني جديدة على طراز أكثر حداثة لكن دون تناسق جمالي مما يزيد من ارتباك العين ويدفعها بعيداً هرباً من هذه الفوضى، وبعضها صار مشوهاً بفعل التجديدات والتعديلات والإضافات التي طالت بعض أجزائه دون الأخرى، في إرتجال معماري لملاحقة الشراهة التناسلية، التي فاضت بها الأرجاء، واحتوائها .بعيداً عن أعين الفضوليين

 

جسر المك نمر - رواية - الفصل الأول

 

صلة قوية تربطني بعمي تتجاوز رابطة الدم إلى ما هو أقوى وأعمق، فقد ولدت مثله أخضر العينين، على عكس والدي الزاكي، مما جعل من حولي يتشاءمون بولادتي وكأني بذلك أعيد سيرة طواها الزمن قبل أكثر من مائة عام وها أنا أبعثها من جديد، أو هي سيرة لدم سيظل يجري في العروق لكي لا تنقطع دورة الخطيئة المقدسة. كانت ولادتي عادية جداً وفي منتصف نهار غائظ داخل غرفة في إحدى المستشفيات الحكومية. القابلات اللائي أشرفن على عملية ولادتي لم يهتمن لأمر لون عيني كثيراً، لما اكتسبنه من مناعة ضد الدهشة وهن يؤدين عملهن في رتابة ترقى لمستوى العمل الآلي أكثر منها مهنة إنسانية وتتعامل مع روح بشرية جديدة تخرج إلى العالم. إلاّ أن عودتي بصحبة أمي إلى المنزل وبعيني الخضرواين نصف المغمضتين أثارت موجة من المشاعر المتناقضة وسط العائلة التي لطالما انتظرت الحدث السعيد. حتى أن والدي، الذي حملني في لحظة فرحته الأولى بمولدي، توجس خيفة وهو يطيل التحديق في وجهي، وظل متنازعاً بين أن يحتمل وجوده قريباً من وجهي أم يرمي بي سريعاً إلى حضن أمي.