أشرت في الجزء الأول من هذا المقال إلى أن الأستاذ المحبوب حاول في كتابه "فصول في حريق الجنوب السوداني" أن يخرج شعرة الحركة الإسلامية من عجينة حريق الجنوب، في المرحلة ما قبل إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989 ولأكن أكثر دقة حتى العام 1986، وهي الفترة التي غطتها المقالات المنشورة بين دفتي كتابه الذي صدر في العام 1989. لم يكتف المحبوب بمحاولته إخراج الشعرة من العجين، بل عمد إلى طمس معالم عدة حقائق عن دور الحركة الإسلامية في حريق الجنوب السوداني، وتشمل تلك الحقائق دور الحركة الإسلامية في التحولات التي حدثت للنظام المايوي بعد المصالحة في 1977، وأهمها التحول إلى النهج (الإسلامي)، وكذلك دورها في تقسيم الجنوب ودق آخر مسمار في نعش إتفاقية أديس أبابا، ثم تهيؤها للإنقضاض على السلطة بخطتها لإختراق الجيش، هذا غير فهمها الخاص لمسألة الديمقراطية.
يستنكر الأستاذ المحبوب الربط الجدلي الذي تحاول بعض التحليلات السياسية سوقه كمبررات لعودة الحرب في الجنوب وظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د. جون قرنق التي أعلنت عن نفسها في 16 مايو 1983م، وبين قضيتين أساسيتين. الأولى هي القرار الجمهوري رقم واحد الذي قسم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، وكان قد صدر في 5 يونيو من نفس العام، اما الثانية هي إعلان قوانين الشريعة الإسلامية التي أعلنت في سبتمبر 83م. إلا أنه يعود ليقول أن هذين السببين إضافة لتطورات مجمل الأوضاع في الجنوب مهدت الطريق أمام ظهور الحركة الشعبية. وطبعاً هنا واضح جداً محاولة التلاعب بالتواريخ حيث يجد القارئ العربي (البعيد عن الواقع السودان والمستهدف بالرسالة) أن ظهور الحركة الشعبية سابق للحدثين المفصليين، وهذه حقيقة إذا ما قرأناها هكذا معزولة عن سياق الأحداث التي سبقتها خلال سنوات مضت.
لن أجد تعبيراً، أتكئ عليه في جملة تأملاتي هذه، أبلغ من جملة نافذة إلى جوهر إستنكار المحبوب لذلك الربط الجدلي بين السببين إضافة لأسباب أخرى، من حقيقة سطرها د. عبدالله علي إبراهيم في كتابه (الحركة الإسلامية واليسار والديمقراطية الليبرالية)، أزاحت كل الغبار الذي هاله أستاذ المحبوب على مجمل تطورات الأوضاع في الجنوب لتصل رسالته إلى القارئ العربي مبرأة من كل دور للحركة الإسلامية في ذلك الحريق. كتب الدكتور عبدالله علي إبراهيم رأيه ذاك وهو يود من باب الهداية لا الخصومة أن يرى شباب الإسلاميين أمرين، أولهما بطلان زعمهم عن براءة تحكيم الشريعة الإسلامية من إثارات الحركة الشعبية بحجة أن تمرد قرنق سبق أسلمة نميري للدولة واعتبرها ذر للرماد في عيونهم تحول دون رؤيتهم للحق في تعامل الحركة الاسلامية مع مسأله الجنوب ومسعاها لجعل السودان وطناً إسلامياً الحكم فيه للشريعة وذلك منذ يفاعتها في الخمسينات حتى أصبح لها بعض أمر الحكم في 1989. والأمر الثاني هو عشوائية الحركة الإسلامية في توبة الدولة إلى الدين. وذهب الدكتور إلى أكثر من ذلك وهو يحاصر محاولات تنصل الحركة الإسلامية من مسئولياتها تجاه ما يحدث حيث يقول "لا مهرب للاسلاميين وهم يقلبون تاريخ حركتهم بخلق النفس اللوامة من القبول الصعب بأن منهجهم في أسلمة السودان كان وما زال مسؤولاً عن قصورنا عن بلوغ الوطن المتآخي العذب الذي شغفنا به عند الاستقلال. ولا تقتصر تبعة هذا القصور كله بالطبع على الحركة الإسلامية. فالمذنبون كثر."
المحبوب نسف فكرته تلك ومحاولته إختزال دور الحركة الإسلامية في العملية الإجرائية لإجازة قوانين (سبتمبر)، حتى صدور قوانين الشريعة الإسلامية (قوانين سبتمبر) التي صدرت في العام 1983، وحمَّل وزر إصدارها للرئيس –وقتها- نميري ونظامه المايوي، بعد أن أجازها مجلس الشعب "لقد كانت تلك الجلسة، في اعتبارهم، تتمتع بصفة التاريحية إذ انها ستجيز الأوامر المؤقتة التي أصدرتها رئاسة الجمهورية في 25 أيلول "سبتمبر" 1983م وأحدثت تحولاً كبيراً في قانون العقوبات السوداني للعام 1973م. وذلك بتطبيق الحدود الإسلامية في السرقة وتعاطي الخمر والزنا والقصاص إيذاناً بعهد تطبيق الشريعة الإسلامية، الذي أعلنه النظام "المايوي" لجعفر نميري في نفس التاريخ السابق" ولم يعترض عليها سوى الأعضاء الجنوبيين في مجلس الشعب (30 عضواً) عدا واحد منهم وقد كان النائب الجنوبي المسلم الوحيد. ففي كتابه الثاني (الحركة الإسلامية دائرةالضوء وخيط الظلام) يقر المحبوب بأن الحركة الإسلامية التي امتدت بها السنوات في رفقة (النميري) وفهم دوافعه وتوجهاته، فقد كانت تعلم خوفه من نسبة التحول الإسلامي إليها، لا سيما القانوني منه، إلا أنها كانت تعلم كذلك أن التحول الذي جاء بجهدها كان دافعاً رئيسياً لإعلان تلك القوانين. تلك المصالحة التي حدثت بين النميري والجبهة الوطنية المعارضة في العام 1977، والتي على أثرها تحكر الإسلاميون في ككر الاتحاد الاشتراكي والمؤسسات المايوية، والتي اعتبرها الجنوبيون أول الخطوات نحو انحراف (ثورة مايو) عن اتجاهها الأصيل.
فمنذ تزمر الدكتور الترابي لمحرر صحيفة الشرق الأوسط الإنجليزية في سبتمبر 1979 بسبب الكسب المخيب للآمال لحركته الإسلامية نتيجة لعدم تبني الحكومة أمراً واحداً لتطبيق الإسلام، رغم المجهودات الكبيرة التي بذلها إبان ولايته لديوان النائب العام والعرق الذي سكبه مستعجلاً إستصدار القوانين الإسلامية التي صاغتها لجنة مراجعة القوانين لتتماشى مع الشريعة، وأصبحت بعض تشريعاتها مشروعات قوانين بفضل جهد مكتب النائب العام على عهده، وإلى أن قال، مبتهجاً إبتهاج من بلغ غاياته جميعاً، لصحيفة إيرانية في العام 1992 (حسبما أورد د. منصور خالد في كتابه أهوال الحرب وطموحات السلام) " إن السودان أصبح جمهورية إسلامية، بكل ما تعنيه الكلمة، كان ذلك فيما يتعلق بتطبيق الأوامر السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية. ففي الوقت الحالي، يسود الإسلام الحكم، كما تسود القيم الاسلامية المجتمع." منذ ذاك التذمر –وقبله بالتأكيد- بذلت الحركة الإسلامية كل مسعى ومسلك ليبلغ زعيمها الترابي حالة النشوة والابتهاج التي غمرته في 1992، حتى ولو جاءت اجنحة البهجة وحالة الإنتشاء على حساب الوطن، أو كما قال د. منصور خالد "خطأ الترابي هو أنه لم يدرك الاستقرار النسبي الذي ساد الجنوب لم يتم إلا بعد الوفاق على مبادئ معينة هدمها كلها مشروع دستوره الإسلامي، الأمر الذي أكده أروب مادوت أروب في كتابه (السودان، الطريق الشاق للسلام): أصيب الجنوبيون بخيبة أمل، إذ رأوا بأعينهم أن نميري الذي جلب لهم السلام قد تحول إلى رجل آخر. أصبح بالنسبة لهم سودانياً عربياً يعمل لمصلحة الشمال. لم يعد الأمر محتملاً. أصبح واضحاً أن النميري يقود حملة دينية لتقسيم كل الجنوب. كانت أيام قاتمة بالنسبة للجنوب.
ضمن المسالك التي إتخذتها كان طريق الجيش والمؤسسة العسكرية، هذا المسلك قال به محمد بن مختار الشنقيطي في كتابه (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي التنظيمي) "لما ادركت الحركة أن الجيش حاجز كثيف أمام التغيير الإسلامي، واداة فعالة من أدواته، تعاملت معه بمنهج ثلاثي الأبعاد (التحييد –الغزو من الخارج –الاختراق من الداخل)، استخدمت الحركة المنهجين الأول والثاني تكتلاً وتحالفاً مع الأحزاب، ولما لم يفلح لجأت للاختراق من الداخل، وهو أمر أثمر فيما بعد تمكين الحركة.
رغم ان المحبوب سكت في فصول حريق الجنوب السوداني عن هذه الحقيقة ومدى تأثيرها على مجريات الأحداث لاحقاً على صعيد أسلمة الدولة بما فيها القوات المسلحة وبالتالي الحرب في الجنوب، إلا أنه عاد وكتب عنها بوضوح في كتابه الثاني "جاءت المصالحة الوطنية وقد بدأت ملامح التغيير تسري على الصورة النمطية لسلوك الضباط ومكاتبهم وثكناتهم، وتظهر فيهم غاشية التدين، وبتوطد عهد المصالحة دخلت أعداد من الإسلاميين بخطة الحركة وتدبيرها إلى مختلف دفعات الكلية العسكرية وتزايدت عبر السنوات. ومع تبني الرئيس (النميري) لحكم الشريعة الإسلامية، فتح (المركز الإسلامي الأفريقي) أحد واجهات الحركة الإسلامية وثمار عملها الإنساني التعليمي الذي توجه نحو أفريقيا. فتح المركز أبوابه لدورات تدريبية فكرية وتربوية لعشرات الضباط، ومع مضيهم في تعميق فهمهم ودراساتهم، ازداد ولاؤهم لأطروحات إسلام الحياة العامة الذي تقوم عليه فكرة الحركة الإسلامية الحديثة."
هنا تجيء ملاحظة هامة بناءاً على تلك الحقيقة التي أوردها المحبوب حول إختراق الحركة الإسلامية للمؤسسة العسكرية، وهي أن إحدى مبررات الإنقلاب على النظام الديمقراطي في 1989 هي التقدم المطرد للجيش الشعبي لتحرير السودان في ساحات القتال، وتمدده شمالاً في مقابل ضعف أداء القوات المسلحة، مع العلم أن تزايد أعداد الإسلاميين في الجيش بدأ منذ عام المصالحة 1977، أي أكثر من عشرة سنوات. وما يعضد هذه الملاحظة هو واقع ساحات القتال بعد الإنقلاب وحتى توقيع إتفاقية السلام الشامل، وهو ما قال به المحبوب في كتابه الثاني إذ شمل "المؤسسة العسكرية ضمن مؤسسات الدولة الأخرى بمظاهر الشيخوخة التي بدأت عليها نحو أول العقد التسعين"، ونسب فضل سد النقص وإستدراك المفارقة الروحية والعملية للمجاهدين في الدفاع الشعبي الذين جاءوا للدفاع عن كيان دولة الإسلام تحدوهم روح الثورة ونداءات الجهاد والتوق إلى الشهادة. وليت الحركة الإسلامية عملت (حسب زعم المحبوب) بما استقر عليه رأيها بعد ثورة أكتوبر 1964 على العمل وفق أصول الديمقراطية التعددية التي تمنع كل تدخل للجيش في السياسة، إذ قر رأيها أن الجيش لن يعود إلى تسلم الحكم بعد الإجماع الشعبي الذي تجلى في الثورة لإخراجه.
من القضايا التي سكت عنها فصول في حريق الجنوب السوداني هو دور الحركة الإسلامية في تقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم وبالتالي دق آخر مسمار في نعش إتفاقية سلام أديس أبابا، وصوره كما صور مجمل الأشياء بأنه إحدى قرارات النظام المايوي. الكتاب يصور الأمر وكانه فقط صراع بين النميري وأنصار التقسيم من القيادات الجنوبية وبين القيادات الجنوبية الداعية للحفاظ على وحدة الإقليم. لكن أصابعي تشير بالاتهام مباشرة إلى الحركة الإسلامية في هذا الأمر التي لم تكتف بثلاثة أقاليم بعد إستيلائها على السلطة، كما لم تكتف -حسب أروب مادوت أروب (السودان، الطريق الشاق للسلام): بعد استلام السلطة بتسليم الأقاليم الجنوبية لإسلاميين جنوبيين هم أحمد الرضي جابر وأمين إسماعيل جولا وعلي تميم فرتاك بتعيينهم نواباً لحكام الأقاليم الجنوبية.، بل ولمزيد من التفرقة والسيطرة على الإقليم الجنوبي اختار الأمين العام للحركة الإسلامية د. الترابي ووزير الحكم الاتحادي أن يكتمل مشروع التقسيم "بالمضي نحو تجاوز وضع الولايات التسع المتصل منذ استقلال السودان، إلى (26) ولاية، علاجاً حاسماً مهما يكن صادماً فورياً لا يتدرج." هذا ما أورده المحبوب في كتابه الثاني وهو بلا شك يعزز هذا الاتهام خاصة بعد تنزيله على أرض الواقع بعد مرحلة التمكين مباشرة.
هذه بعض تأملات أسميتها في عشرينية المحبوب عبدالسلام، بعد قراءة ما كتبه قبل عشرين عاماً مقروناً مع ما كتبه مؤخراً وقد وجدت في الكتاب الثاني محفزاً لقراءة مختلفة للأول، عسى أن اكون لامست بعض النقاط التي رأيت أنه سكت عنها هناك، أما الديمقراطية ورؤية الحركة الإسلامية لها فهي قضية أخرى وطويلة سأكتب عنها لاحقاً.
يستنكر الأستاذ المحبوب الربط الجدلي الذي تحاول بعض التحليلات السياسية سوقه كمبررات لعودة الحرب في الجنوب وظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د. جون قرنق التي أعلنت عن نفسها في 16 مايو 1983م، وبين قضيتين أساسيتين. الأولى هي القرار الجمهوري رقم واحد الذي قسم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، وكان قد صدر في 5 يونيو من نفس العام، اما الثانية هي إعلان قوانين الشريعة الإسلامية التي أعلنت في سبتمبر 83م. إلا أنه يعود ليقول أن هذين السببين إضافة لتطورات مجمل الأوضاع في الجنوب مهدت الطريق أمام ظهور الحركة الشعبية. وطبعاً هنا واضح جداً محاولة التلاعب بالتواريخ حيث يجد القارئ العربي (البعيد عن الواقع السودان والمستهدف بالرسالة) أن ظهور الحركة الشعبية سابق للحدثين المفصليين، وهذه حقيقة إذا ما قرأناها هكذا معزولة عن سياق الأحداث التي سبقتها خلال سنوات مضت.
لن أجد تعبيراً، أتكئ عليه في جملة تأملاتي هذه، أبلغ من جملة نافذة إلى جوهر إستنكار المحبوب لذلك الربط الجدلي بين السببين إضافة لأسباب أخرى، من حقيقة سطرها د. عبدالله علي إبراهيم في كتابه (الحركة الإسلامية واليسار والديمقراطية الليبرالية)، أزاحت كل الغبار الذي هاله أستاذ المحبوب على مجمل تطورات الأوضاع في الجنوب لتصل رسالته إلى القارئ العربي مبرأة من كل دور للحركة الإسلامية في ذلك الحريق. كتب الدكتور عبدالله علي إبراهيم رأيه ذاك وهو يود من باب الهداية لا الخصومة أن يرى شباب الإسلاميين أمرين، أولهما بطلان زعمهم عن براءة تحكيم الشريعة الإسلامية من إثارات الحركة الشعبية بحجة أن تمرد قرنق سبق أسلمة نميري للدولة واعتبرها ذر للرماد في عيونهم تحول دون رؤيتهم للحق في تعامل الحركة الاسلامية مع مسأله الجنوب ومسعاها لجعل السودان وطناً إسلامياً الحكم فيه للشريعة وذلك منذ يفاعتها في الخمسينات حتى أصبح لها بعض أمر الحكم في 1989. والأمر الثاني هو عشوائية الحركة الإسلامية في توبة الدولة إلى الدين. وذهب الدكتور إلى أكثر من ذلك وهو يحاصر محاولات تنصل الحركة الإسلامية من مسئولياتها تجاه ما يحدث حيث يقول "لا مهرب للاسلاميين وهم يقلبون تاريخ حركتهم بخلق النفس اللوامة من القبول الصعب بأن منهجهم في أسلمة السودان كان وما زال مسؤولاً عن قصورنا عن بلوغ الوطن المتآخي العذب الذي شغفنا به عند الاستقلال. ولا تقتصر تبعة هذا القصور كله بالطبع على الحركة الإسلامية. فالمذنبون كثر."
المحبوب نسف فكرته تلك ومحاولته إختزال دور الحركة الإسلامية في العملية الإجرائية لإجازة قوانين (سبتمبر)، حتى صدور قوانين الشريعة الإسلامية (قوانين سبتمبر) التي صدرت في العام 1983، وحمَّل وزر إصدارها للرئيس –وقتها- نميري ونظامه المايوي، بعد أن أجازها مجلس الشعب "لقد كانت تلك الجلسة، في اعتبارهم، تتمتع بصفة التاريحية إذ انها ستجيز الأوامر المؤقتة التي أصدرتها رئاسة الجمهورية في 25 أيلول "سبتمبر" 1983م وأحدثت تحولاً كبيراً في قانون العقوبات السوداني للعام 1973م. وذلك بتطبيق الحدود الإسلامية في السرقة وتعاطي الخمر والزنا والقصاص إيذاناً بعهد تطبيق الشريعة الإسلامية، الذي أعلنه النظام "المايوي" لجعفر نميري في نفس التاريخ السابق" ولم يعترض عليها سوى الأعضاء الجنوبيين في مجلس الشعب (30 عضواً) عدا واحد منهم وقد كان النائب الجنوبي المسلم الوحيد. ففي كتابه الثاني (الحركة الإسلامية دائرةالضوء وخيط الظلام) يقر المحبوب بأن الحركة الإسلامية التي امتدت بها السنوات في رفقة (النميري) وفهم دوافعه وتوجهاته، فقد كانت تعلم خوفه من نسبة التحول الإسلامي إليها، لا سيما القانوني منه، إلا أنها كانت تعلم كذلك أن التحول الذي جاء بجهدها كان دافعاً رئيسياً لإعلان تلك القوانين. تلك المصالحة التي حدثت بين النميري والجبهة الوطنية المعارضة في العام 1977، والتي على أثرها تحكر الإسلاميون في ككر الاتحاد الاشتراكي والمؤسسات المايوية، والتي اعتبرها الجنوبيون أول الخطوات نحو انحراف (ثورة مايو) عن اتجاهها الأصيل.
فمنذ تزمر الدكتور الترابي لمحرر صحيفة الشرق الأوسط الإنجليزية في سبتمبر 1979 بسبب الكسب المخيب للآمال لحركته الإسلامية نتيجة لعدم تبني الحكومة أمراً واحداً لتطبيق الإسلام، رغم المجهودات الكبيرة التي بذلها إبان ولايته لديوان النائب العام والعرق الذي سكبه مستعجلاً إستصدار القوانين الإسلامية التي صاغتها لجنة مراجعة القوانين لتتماشى مع الشريعة، وأصبحت بعض تشريعاتها مشروعات قوانين بفضل جهد مكتب النائب العام على عهده، وإلى أن قال، مبتهجاً إبتهاج من بلغ غاياته جميعاً، لصحيفة إيرانية في العام 1992 (حسبما أورد د. منصور خالد في كتابه أهوال الحرب وطموحات السلام) " إن السودان أصبح جمهورية إسلامية، بكل ما تعنيه الكلمة، كان ذلك فيما يتعلق بتطبيق الأوامر السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية. ففي الوقت الحالي، يسود الإسلام الحكم، كما تسود القيم الاسلامية المجتمع." منذ ذاك التذمر –وقبله بالتأكيد- بذلت الحركة الإسلامية كل مسعى ومسلك ليبلغ زعيمها الترابي حالة النشوة والابتهاج التي غمرته في 1992، حتى ولو جاءت اجنحة البهجة وحالة الإنتشاء على حساب الوطن، أو كما قال د. منصور خالد "خطأ الترابي هو أنه لم يدرك الاستقرار النسبي الذي ساد الجنوب لم يتم إلا بعد الوفاق على مبادئ معينة هدمها كلها مشروع دستوره الإسلامي، الأمر الذي أكده أروب مادوت أروب في كتابه (السودان، الطريق الشاق للسلام): أصيب الجنوبيون بخيبة أمل، إذ رأوا بأعينهم أن نميري الذي جلب لهم السلام قد تحول إلى رجل آخر. أصبح بالنسبة لهم سودانياً عربياً يعمل لمصلحة الشمال. لم يعد الأمر محتملاً. أصبح واضحاً أن النميري يقود حملة دينية لتقسيم كل الجنوب. كانت أيام قاتمة بالنسبة للجنوب.
ضمن المسالك التي إتخذتها كان طريق الجيش والمؤسسة العسكرية، هذا المسلك قال به محمد بن مختار الشنقيطي في كتابه (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي التنظيمي) "لما ادركت الحركة أن الجيش حاجز كثيف أمام التغيير الإسلامي، واداة فعالة من أدواته، تعاملت معه بمنهج ثلاثي الأبعاد (التحييد –الغزو من الخارج –الاختراق من الداخل)، استخدمت الحركة المنهجين الأول والثاني تكتلاً وتحالفاً مع الأحزاب، ولما لم يفلح لجأت للاختراق من الداخل، وهو أمر أثمر فيما بعد تمكين الحركة.
رغم ان المحبوب سكت في فصول حريق الجنوب السوداني عن هذه الحقيقة ومدى تأثيرها على مجريات الأحداث لاحقاً على صعيد أسلمة الدولة بما فيها القوات المسلحة وبالتالي الحرب في الجنوب، إلا أنه عاد وكتب عنها بوضوح في كتابه الثاني "جاءت المصالحة الوطنية وقد بدأت ملامح التغيير تسري على الصورة النمطية لسلوك الضباط ومكاتبهم وثكناتهم، وتظهر فيهم غاشية التدين، وبتوطد عهد المصالحة دخلت أعداد من الإسلاميين بخطة الحركة وتدبيرها إلى مختلف دفعات الكلية العسكرية وتزايدت عبر السنوات. ومع تبني الرئيس (النميري) لحكم الشريعة الإسلامية، فتح (المركز الإسلامي الأفريقي) أحد واجهات الحركة الإسلامية وثمار عملها الإنساني التعليمي الذي توجه نحو أفريقيا. فتح المركز أبوابه لدورات تدريبية فكرية وتربوية لعشرات الضباط، ومع مضيهم في تعميق فهمهم ودراساتهم، ازداد ولاؤهم لأطروحات إسلام الحياة العامة الذي تقوم عليه فكرة الحركة الإسلامية الحديثة."
هنا تجيء ملاحظة هامة بناءاً على تلك الحقيقة التي أوردها المحبوب حول إختراق الحركة الإسلامية للمؤسسة العسكرية، وهي أن إحدى مبررات الإنقلاب على النظام الديمقراطي في 1989 هي التقدم المطرد للجيش الشعبي لتحرير السودان في ساحات القتال، وتمدده شمالاً في مقابل ضعف أداء القوات المسلحة، مع العلم أن تزايد أعداد الإسلاميين في الجيش بدأ منذ عام المصالحة 1977، أي أكثر من عشرة سنوات. وما يعضد هذه الملاحظة هو واقع ساحات القتال بعد الإنقلاب وحتى توقيع إتفاقية السلام الشامل، وهو ما قال به المحبوب في كتابه الثاني إذ شمل "المؤسسة العسكرية ضمن مؤسسات الدولة الأخرى بمظاهر الشيخوخة التي بدأت عليها نحو أول العقد التسعين"، ونسب فضل سد النقص وإستدراك المفارقة الروحية والعملية للمجاهدين في الدفاع الشعبي الذين جاءوا للدفاع عن كيان دولة الإسلام تحدوهم روح الثورة ونداءات الجهاد والتوق إلى الشهادة. وليت الحركة الإسلامية عملت (حسب زعم المحبوب) بما استقر عليه رأيها بعد ثورة أكتوبر 1964 على العمل وفق أصول الديمقراطية التعددية التي تمنع كل تدخل للجيش في السياسة، إذ قر رأيها أن الجيش لن يعود إلى تسلم الحكم بعد الإجماع الشعبي الذي تجلى في الثورة لإخراجه.
من القضايا التي سكت عنها فصول في حريق الجنوب السوداني هو دور الحركة الإسلامية في تقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم وبالتالي دق آخر مسمار في نعش إتفاقية سلام أديس أبابا، وصوره كما صور مجمل الأشياء بأنه إحدى قرارات النظام المايوي. الكتاب يصور الأمر وكانه فقط صراع بين النميري وأنصار التقسيم من القيادات الجنوبية وبين القيادات الجنوبية الداعية للحفاظ على وحدة الإقليم. لكن أصابعي تشير بالاتهام مباشرة إلى الحركة الإسلامية في هذا الأمر التي لم تكتف بثلاثة أقاليم بعد إستيلائها على السلطة، كما لم تكتف -حسب أروب مادوت أروب (السودان، الطريق الشاق للسلام): بعد استلام السلطة بتسليم الأقاليم الجنوبية لإسلاميين جنوبيين هم أحمد الرضي جابر وأمين إسماعيل جولا وعلي تميم فرتاك بتعيينهم نواباً لحكام الأقاليم الجنوبية.، بل ولمزيد من التفرقة والسيطرة على الإقليم الجنوبي اختار الأمين العام للحركة الإسلامية د. الترابي ووزير الحكم الاتحادي أن يكتمل مشروع التقسيم "بالمضي نحو تجاوز وضع الولايات التسع المتصل منذ استقلال السودان، إلى (26) ولاية، علاجاً حاسماً مهما يكن صادماً فورياً لا يتدرج." هذا ما أورده المحبوب في كتابه الثاني وهو بلا شك يعزز هذا الاتهام خاصة بعد تنزيله على أرض الواقع بعد مرحلة التمكين مباشرة.
هذه بعض تأملات أسميتها في عشرينية المحبوب عبدالسلام، بعد قراءة ما كتبه قبل عشرين عاماً مقروناً مع ما كتبه مؤخراً وقد وجدت في الكتاب الثاني محفزاً لقراءة مختلفة للأول، عسى أن اكون لامست بعض النقاط التي رأيت أنه سكت عنها هناك، أما الديمقراطية ورؤية الحركة الإسلامية لها فهي قضية أخرى وطويلة سأكتب عنها لاحقاً.
Very good.
ردحذفهذا المقال ربما يكون افضل ما نشر في هذه المدونة
ردحذف