المسفِّر مفردة تطلق على الشخص الذي توكل إليه مرافقة (السفر مع) بضاعة ما مشحونة بالقطار منقولة من منطقة إلى أخرى، خاصة إذا كان نوع البضاعة المشحونة من الأهمية التي تتطلب مرافقة بشرية لصيقة إلى حين تسليمها لنقطة الوصول النهائية. وهذه المهمة يطلق على من يتولونها مفردة (المسفِّرين)، وهي مرتبطة بالنقل بواسطة السكة الحديد. عادة ما توكل هذه المهمة لعاملين في السكة الحديد أو لأبنائهم من قبيل الإستفادة من الدخل الإضافي الذي تدفعه الجهات المستفيدة من خدمات النقل سواء شركات أو أفراد مقابل هذه الخدمة أيضاً. طبعاً (ده كان زمان)، أما الآن فلست أدري إن كانت الأمور تسير كما هي أم أن الإنقاذ قضت على ما تبقى من منافذ تتسلل منها مثل تلك النفحات.
ولأن أحد هؤلاء المسفِّرين كان صديقي ود الشيخ المسكون بالحكي والملاحظات الفريد والطريفة، وهو تربية سكة حديد كما يقولون، فقد جذبتني إحدى اللوحات النابضة بالحياة التي رسمها لأولى رحلاته. وهي جزء من قصص كثيرة لا يمل روايتها تعكس جانباً من شخصيته اللماحة. بدأت رحلته عندما وقع الإختيار عليه لمرافقة بضاعة عبارة عن مواد كيميائية تخص إحدى الشركات العاملة في مجال البترول من مدينة بورتسودان إلى مدينة المجلد في بداية التسعينات من القرن الماضي.
بدا ود الشيخ سعيداً بهذه الرحلة لدرجة كبيرة بالرغم من أنها ليست الأولى بالنسبة له أن يسافر بالقطار، لكنه هذه المرة (سيقبض) أجراً مقابل عمل سيؤديه وهو مبلغ معتبر بحسابات تلك الأيام (فالدولار لم يقفز تلك الحواجز الخرافية بعد، والدنيا لا زالت بخير). كما إنها أول رحلة سيقتحم فيها مناطق مجهولة لأول مرة وهو العاشق للمغامرة بطبعه والمحب للجديد دائماً. لذلك مر الوقت أثناء تلك المسافة التي يقطعها عادة بالقطار ثقيلاً بلا طعم، خاصة وأن القطار مخصص فقط لنقل البضائع وليس للركاب، وكانت من مهامه أن يمنع أي محاولات للتسلل أعلى تلك العربات المحملة بالمواد الكيميائية من قبل بعض الذين تسول لهم أنفسهم الصعود إلى أعلاها لبلوغ محطاتهم التي يقصدونها، وذلك لخطورة تلك المواد عليهم.
عندما وصل القطار محطة الرهد متجهاً غرباً بعد أن قطع المسافات المألوفة، كانت الروح قد بلغت حلقوم ماكينات الوابور الديزل ليقف وسط ساحة المحطة جثة هامدة، قبل أن تبلغ الشمس مرحلة المغيب بعد. غادر جميع العاملين بالقطار، في حين جلس ود الشيخ القرفصاء وقد تملكته الحيرة فيما سيفعله وحده، وكيف سيترك تلك المواد وإلى أين سيذهب ليقضي يومه، ومتى ستعود الروح للقطار ليواصل رحلته وينجز المهمة التي بدأت تثقل كاهله؟
في غمرة تساؤلاته وحواره الداخلي هذا وقف أمامه شخص فارع الطول، حياه في مودة وقال له "أنا عبدالله دينق". وعبدالله دينق، كما يقول ود الشيخ بعد ذلك، موظف في السكة الحديد وهو من أبناء الدينكا. وعندما عرف مهمته أثناء قراءته للأوراق التي يحملها، قرأ ملامح وجهه أيضاً ليسأله " هل لك علاقة بود الجزار؟" وود الجزار هذا لقب والد صديقي الموظف أيضاً في السكة الحديد، وكان قد التقى بعبدالله دينق في عدة محطات صادف أن عملا فيها سوياً. وعندما علم أن الواقف أمامه هو أبن ود الجزار رفيقه، بدأ سلام بطعم آخر أكثر حميمية وذكريات كان حاضراً أثناءها (ذاك الشبل) في بيوت الطوب الأحمر المنتشرة في تلك المحطات.
رافقه ود الشيخ، تحت إلحاح مضيفه، إلى منزله القريب من المبنى الرئيسي للمحطة بعد إطمئنانه على مواده، ليعرفه على زوجته (من إحدى فروع السليم المنتشرة في النيل الأبيض) وإبنته، وفتح له باب الصالون مشرعاً. وبعد واجبات الضيافة الكاملة غادر مساءاً إلى النادي برفقة عبدالله دينق، والنادي واحد من معالم كثير من محطات ومجتمعات السكة الحديد التي يقضي فيها العاملون أوقاتهم ليلاً ويستفيدون منها في بعض الأحيان كرياض للأطفال نهاراً. كل المتواجدين في تلك الليلة عرفوا أن الذي برفقة زميلهم هو أبن ود الجزار ليقضي سبعة أيام بين دعوة غداء هنا وعشاء هناك وفطور عند ذاك، بل صار يمارس هوايته المحببة ويراه الجميع في ميدان كرة القدم يلعب مع شباب المدينة إلى أن أعلن ناظر المحطة صافرة إنتهاء الوابور من الصيانة وبدء رحلة جديدة من الرهد إلى مدينة بابنوسة.
قال لي ود الشيخ بطريقته التي تستحوذ على إهتمام من يتابع حكاويه: " قلت في نفسي ليت المدة تطول اكثر، والوابور يظل في حاله". ولأنه شخص يألف ويتأقلم مع محيطه بسرعة، وله قدرة على نسج العلاقات مع الآخرين بسرعة الصاروخ، بدت نبرة صوته حزينة وكأنه غادر الرهد الآن وليس منذ سنوات وأنها مجرد ذكريات. ثم ينطلق في فرح متناقض مع حالته الأولى ليقول "لكنني لم أدرك أن في انتظاري سبعة أيام اخرى سأقضيها في مدينة بابنوسة، لا تقل متعة عن تلك التي قضيتها في الرهد".
كان أول من التقاه في محطة السكة الحديد بمدينة بابنوسة هو موسى محمد زين، وهو من أبناء المعاليا يعمل في السكة حديد وإداري في نادي الهلال هناك. عندما شرح له موقفه والغرض من رحلته وأهمية أن يصل بسرعة لينهي مهمته في أقصر وقت ممكن، اكتشف من حديث مستقبله أن المسألة ليست بهذه البساطة إذ عليه الانتظار أسبوعاً آخر لحين إكتمال العربات المتوجهة إلى المجلد.
ثم كانت الرحلة المعتادة من محطة السكة الحديد إلى منزل موسى محمد زين ليتكرر ذات المشهد الأول في مدينة الرهد، ويقضي صديقي وقته منتقلاً من منزل إلى آخر وسط ترحيب وضيافة الجميع، بل بلغ الأمر بالبعض بتشجيعه وإغرائه بالبقاء في المدينة واللعب إلى أحد أنديتها، وهم يرون مهاراته في لعبة كرة القدم. وكاد يفعلها لولا أن أزفت ساعة الرحيل إلى المجلد.
المجلد كانت محطته الأخيرة حيث سيكمل تسليم المواد الكيميائية حسبما هو موجود في الأوراق المرفقة للمسئول عن الشركة في مكتبها بالمدينة، لتنتهي مهمته عند هذا الحد. لكنه يكتشف أن ذلك الشخص ليس موجوداً في المدينة وربما سيعود بعد عدة أيام. وهذا ما حدث فعلاً إذ قضى تلك الأيام في ضيافة أحد أبناء المسيرية ويدعى علي فوكس، الذي اصطحبه في عربته اللاندكروزر إلى منزله بالمدينة في انتظار عودة إبراهيم بانقا الذي تعود جذور والده إلى الجعليين وأمه من المسيرية.
في تلك الأثناء مارس صديقي هوايته المفضلة في نسج علاقاته الصاروخية مع أهل المدينة الذين استضافوه لدرجة أن قرر فعلاً البقاء هناك أطول فترة ممكنة. فقد أذهلته الذبائح والولائم التي كانت تقام من أجله إلى حين وصول إبراهيم بانقا. بل كان كل مصروف جيبه قد إنتهى بسبب طول المدة، ولم يشعر بذلك إلى أن فكر في العودة بعد تسعة أيام قضاها هناك، ليجمع له أهل المنطقة مبلغاً من المال ضعف المبلغ الذي استلمه من الشركة مقابل مهمته ك(مسفِّر)، ويودعونه إلى المطار العسكري الصغير في المدينة في زفة حيث استقل طائرة الشركة عائداً إلى الخرطوم.
الصورة: من وكالة السودان للأنباء
ولأن أحد هؤلاء المسفِّرين كان صديقي ود الشيخ المسكون بالحكي والملاحظات الفريد والطريفة، وهو تربية سكة حديد كما يقولون، فقد جذبتني إحدى اللوحات النابضة بالحياة التي رسمها لأولى رحلاته. وهي جزء من قصص كثيرة لا يمل روايتها تعكس جانباً من شخصيته اللماحة. بدأت رحلته عندما وقع الإختيار عليه لمرافقة بضاعة عبارة عن مواد كيميائية تخص إحدى الشركات العاملة في مجال البترول من مدينة بورتسودان إلى مدينة المجلد في بداية التسعينات من القرن الماضي.
بدا ود الشيخ سعيداً بهذه الرحلة لدرجة كبيرة بالرغم من أنها ليست الأولى بالنسبة له أن يسافر بالقطار، لكنه هذه المرة (سيقبض) أجراً مقابل عمل سيؤديه وهو مبلغ معتبر بحسابات تلك الأيام (فالدولار لم يقفز تلك الحواجز الخرافية بعد، والدنيا لا زالت بخير). كما إنها أول رحلة سيقتحم فيها مناطق مجهولة لأول مرة وهو العاشق للمغامرة بطبعه والمحب للجديد دائماً. لذلك مر الوقت أثناء تلك المسافة التي يقطعها عادة بالقطار ثقيلاً بلا طعم، خاصة وأن القطار مخصص فقط لنقل البضائع وليس للركاب، وكانت من مهامه أن يمنع أي محاولات للتسلل أعلى تلك العربات المحملة بالمواد الكيميائية من قبل بعض الذين تسول لهم أنفسهم الصعود إلى أعلاها لبلوغ محطاتهم التي يقصدونها، وذلك لخطورة تلك المواد عليهم.
عندما وصل القطار محطة الرهد متجهاً غرباً بعد أن قطع المسافات المألوفة، كانت الروح قد بلغت حلقوم ماكينات الوابور الديزل ليقف وسط ساحة المحطة جثة هامدة، قبل أن تبلغ الشمس مرحلة المغيب بعد. غادر جميع العاملين بالقطار، في حين جلس ود الشيخ القرفصاء وقد تملكته الحيرة فيما سيفعله وحده، وكيف سيترك تلك المواد وإلى أين سيذهب ليقضي يومه، ومتى ستعود الروح للقطار ليواصل رحلته وينجز المهمة التي بدأت تثقل كاهله؟
في غمرة تساؤلاته وحواره الداخلي هذا وقف أمامه شخص فارع الطول، حياه في مودة وقال له "أنا عبدالله دينق". وعبدالله دينق، كما يقول ود الشيخ بعد ذلك، موظف في السكة الحديد وهو من أبناء الدينكا. وعندما عرف مهمته أثناء قراءته للأوراق التي يحملها، قرأ ملامح وجهه أيضاً ليسأله " هل لك علاقة بود الجزار؟" وود الجزار هذا لقب والد صديقي الموظف أيضاً في السكة الحديد، وكان قد التقى بعبدالله دينق في عدة محطات صادف أن عملا فيها سوياً. وعندما علم أن الواقف أمامه هو أبن ود الجزار رفيقه، بدأ سلام بطعم آخر أكثر حميمية وذكريات كان حاضراً أثناءها (ذاك الشبل) في بيوت الطوب الأحمر المنتشرة في تلك المحطات.
رافقه ود الشيخ، تحت إلحاح مضيفه، إلى منزله القريب من المبنى الرئيسي للمحطة بعد إطمئنانه على مواده، ليعرفه على زوجته (من إحدى فروع السليم المنتشرة في النيل الأبيض) وإبنته، وفتح له باب الصالون مشرعاً. وبعد واجبات الضيافة الكاملة غادر مساءاً إلى النادي برفقة عبدالله دينق، والنادي واحد من معالم كثير من محطات ومجتمعات السكة الحديد التي يقضي فيها العاملون أوقاتهم ليلاً ويستفيدون منها في بعض الأحيان كرياض للأطفال نهاراً. كل المتواجدين في تلك الليلة عرفوا أن الذي برفقة زميلهم هو أبن ود الجزار ليقضي سبعة أيام بين دعوة غداء هنا وعشاء هناك وفطور عند ذاك، بل صار يمارس هوايته المحببة ويراه الجميع في ميدان كرة القدم يلعب مع شباب المدينة إلى أن أعلن ناظر المحطة صافرة إنتهاء الوابور من الصيانة وبدء رحلة جديدة من الرهد إلى مدينة بابنوسة.
قال لي ود الشيخ بطريقته التي تستحوذ على إهتمام من يتابع حكاويه: " قلت في نفسي ليت المدة تطول اكثر، والوابور يظل في حاله". ولأنه شخص يألف ويتأقلم مع محيطه بسرعة، وله قدرة على نسج العلاقات مع الآخرين بسرعة الصاروخ، بدت نبرة صوته حزينة وكأنه غادر الرهد الآن وليس منذ سنوات وأنها مجرد ذكريات. ثم ينطلق في فرح متناقض مع حالته الأولى ليقول "لكنني لم أدرك أن في انتظاري سبعة أيام اخرى سأقضيها في مدينة بابنوسة، لا تقل متعة عن تلك التي قضيتها في الرهد".
كان أول من التقاه في محطة السكة الحديد بمدينة بابنوسة هو موسى محمد زين، وهو من أبناء المعاليا يعمل في السكة حديد وإداري في نادي الهلال هناك. عندما شرح له موقفه والغرض من رحلته وأهمية أن يصل بسرعة لينهي مهمته في أقصر وقت ممكن، اكتشف من حديث مستقبله أن المسألة ليست بهذه البساطة إذ عليه الانتظار أسبوعاً آخر لحين إكتمال العربات المتوجهة إلى المجلد.
ثم كانت الرحلة المعتادة من محطة السكة الحديد إلى منزل موسى محمد زين ليتكرر ذات المشهد الأول في مدينة الرهد، ويقضي صديقي وقته منتقلاً من منزل إلى آخر وسط ترحيب وضيافة الجميع، بل بلغ الأمر بالبعض بتشجيعه وإغرائه بالبقاء في المدينة واللعب إلى أحد أنديتها، وهم يرون مهاراته في لعبة كرة القدم. وكاد يفعلها لولا أن أزفت ساعة الرحيل إلى المجلد.
المجلد كانت محطته الأخيرة حيث سيكمل تسليم المواد الكيميائية حسبما هو موجود في الأوراق المرفقة للمسئول عن الشركة في مكتبها بالمدينة، لتنتهي مهمته عند هذا الحد. لكنه يكتشف أن ذلك الشخص ليس موجوداً في المدينة وربما سيعود بعد عدة أيام. وهذا ما حدث فعلاً إذ قضى تلك الأيام في ضيافة أحد أبناء المسيرية ويدعى علي فوكس، الذي اصطحبه في عربته اللاندكروزر إلى منزله بالمدينة في انتظار عودة إبراهيم بانقا الذي تعود جذور والده إلى الجعليين وأمه من المسيرية.
في تلك الأثناء مارس صديقي هوايته المفضلة في نسج علاقاته الصاروخية مع أهل المدينة الذين استضافوه لدرجة أن قرر فعلاً البقاء هناك أطول فترة ممكنة. فقد أذهلته الذبائح والولائم التي كانت تقام من أجله إلى حين وصول إبراهيم بانقا. بل كان كل مصروف جيبه قد إنتهى بسبب طول المدة، ولم يشعر بذلك إلى أن فكر في العودة بعد تسعة أيام قضاها هناك، ليجمع له أهل المنطقة مبلغاً من المال ضعف المبلغ الذي استلمه من الشركة مقابل مهمته ك(مسفِّر)، ويودعونه إلى المطار العسكري الصغير في المدينة في زفة حيث استقل طائرة الشركة عائداً إلى الخرطوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق