هل حدث أن ضربك جارك السابع ولم تنظر إليه أمك شذراً؟؟ هنا مدرسة تربية مختلفة. جميع كبار حي السكة حديد في أي محطة من محطاتها يساهمون في تربيتك وتقويمك، إضافة للمنزل والمدرسة. ويمكن لأبيك أن يضربك قبل أن يعرف سبب عقاب جارك لك ومن ثم يبحث عن السبب ليعالجه بطريقته الخاصة. هكذا اعتبر نفسي تربية سكة حديد، وأكثر من ذلك أعتبر نفسي سودانياً كامل الدسم لما تشربته رئتاي من هواء كل بقاع السودان، ولما شربته من ماء يجري في عروقي مختلطاً بدمي ولا يزال يمدَّني بالحياة.
حسدت ذلك الصبي البريطاني ذو الستة أعوام، وأنا أقرأ خبر حصوله على وظيفة مسؤول المرح في المتحف الوطني للسكك الحديدية في بريطانيا، الذي حل محل المسؤول المتقاعد الذي أعرب عن سروره لقراءة رسالة الصبي وعلق قائلاً إنه من الرائع رؤية أطفال صغار شغوفين بالقطارات، هذا الشغف بعينه الذي كان يتمتع به عندما كان صغيراً. ولكني لم أحسده كثيراً، فإذا كان والدي، وهو يقف أمام لجنة الاختيار ليعلن رغبته في التوظيف في هيئة سكك حديد السودان في خمسينيات القرن الماضي، مغتبطاً بفكرة أن تتاح له فرصة مشاهدة كل السودان ليس مجاناً فحسب بل بأجر تدفعه له الدولة، كنت أنا الرابح الأكبر من هذه الفرصة فقد شاهدته مجاناً دون مقابل عمل اؤديه.
ومن شدة ولعي بالقطار جالت في خاطري فكرة أقرب للسريالية عن الفترة قبل ولادتي مباشرة، فقد كانت أمي حامل بي عندما قررت مصلحة سكك حديد السودان نقل أبي من محطة وادي حلفا إلى الخرطوم مرة أخرى. شيء عجيب كان يحدث أثناء أول رحلة لي بالقطار، خاصة وأن صرير عجلاته مع القضبان الحديدية يخترق شرايين أمي ويقتحم على موطني، داخل رحمها، ذلك الهدوء المخيم. وما بين المشيمة والحبل السري يبدأ إيقاع رحلتي المتلازم مع ذلك الإيقاع المثير لعجلات القطار، وكأنه يقول لي " أخرج .. أخرج .. أخرج .. أخر ......". وفي مرات يتواتر إلي أمره "أضربها .. أضربها .. أضرب ......."، ليذهب الأمر إلى مفاصل قدمي الواهنتين الذين يبدآن في محاولة التخلص من ذلك الوضع المتكور لترتطم قدمي اليسرى (لا أدري لم اخترت اليسرى) برحم أمي. أحس بأني أكثر ارتياحاً ويعود دمي في رحلة العودة إلى قلبها وينعم بالأوكسجين ليجده أكثر انتفاضاً، شيء أشبه بالابتسام يرتسم على تقاطيع وجهي غير المتماسكة "ربما راودها إحساس بأنني أفكر في الخروج الآن" معها حق أن يصيبها الرعب إن حدث ذلك، فأنا أول عناقيدها وفي القطار كمان!! وربما رمت أبي بنظرة فيها كثير من اللوم لأنه لم يرسلها إلى أهلها في وقت مبكر. أضربها مرة أخرى بقدمي اليسرى وأقرقر في خبث. "هل وقفت؟؟" فوضعي صار أكثر تمدداً لحظتها.
ينتاب التوتر بعض من أجزائي الآن، ويسبح خيالي مع دمي "لابد أن أبي يقرأ مسرحية لآرثر ميلر، هل هي (كلهم أبنائي)؟" تنتفض خلاياي عندما يقرأ أبي بجوار أمي. أعلم أنه يقرأ لكاتب ما، ولكن ذلك الصدر النافر عندما يتقافز أمام قدراتي الاستيعابية ألمح فوراً مارلين مونرو، فلابد أنه يقرأ لآرثر ميلر. رغم أن مسكني الحالي معتم إلاَّ أن فضائي مبيض يحاول أن يتقاطع مع الظلمة، ربما لأن القطار يستمد طاقته من الفحم الحجري، ولكنه يفرز دخاناً أبيضاً يمتد كتلة أسطوانية إلى الخلف حتى يتلاشى أخره مع نهاية عربات القطار (هل لا زالت في ذاكرتنا أغنية من بف نفسك يا القطار!!)، أو لأن وقتها لم تكن مارلين بنت مونرو تصور أفلامها بالألوان. أما عندما كان أبي يقرأ رواية "كيف سقينا الفولاذ"، وكنت خارجاً وقتها من طور العلقة رأيت بافل يتجول بجانبي فأصابتني نوبة هيجان حتى كدت أن أندلق خارجاً وجزء كبير مني مجرد كتلة لحم. وخاطر أبي وقتها يجول فيه أن القادم مع الأيام سيكون ذكراً ويرجو أن يكون بجسارة بافل، أرى خواطر أبي بوضوح تام خاصة فيما يتعلق بي.
طول الرحلة بين وادي حلفا والخرطوم، وأمي لم يأتها المخاض بعد، جعلت الهواجس تراودني حول جدوى الخروج إلى عالم مجهول معلوم. وأول ما انتبهت إليه هو الرتابة، وما نبهني إليها هو الفواصل التي لا تتعدى السنتمترات بين القضبان الحديدية والتي تحدث ذلك الإيقاع عندما تمر عليها عجلات القطار.
نعم، الرتابة ستجعلني أمانع في الخروج. تقاطعت رؤى هلامية غير واضحة الملامح واستغرقتني لدرجة أنني استسلمت قافزاً إلى أعلى رحم أمي حتى أن صوتاً قوياً صدر من داخلها، كاد أن يخترق المشيمة، والتصقت هناك متشبثاً بتلك المادة اللزجة. تصاعدت انفعالاتي وكيمياء لا علاقة لها بكتلة اللحم التي بدأت في التشكل لتصير في خاتمة المطاف أنا، واستقر في تلك التجاويف، التي تراءت لي وكأنها أنابيب حلزونية غائرة العمق وبعيدة الطول، استقر فيها أن البقاء في رحم أمي أفضل بكثير من الخروج.
عند بلوغي تلك المرحلة من الانفعالات "شفطت" كمية من الدم أكثر من اللازم وهمدت أطرافي التي بدات في التماسك بعد زمن من الحركة الأميبية، وصارت تهدهدني نغمات الإيقاع وهي ترتفع "ده دمدم .. ده دمدم .. ده دمدم ......."
شعرت بالارتياح يسري في عروقي، فأمي قد إطمأنت بعد وصول القطار لمحطة الخرطوم وأنا ما زلت متشبثاً بداخلها ودواخلها. وقضينا – هي وأنا - ردحاً من الزمن، أرفسها مرة وأعض على جوانبها مرات وهي تصرخ في خيوط حبلي السري وتلعن "أبو خاشي" فما زال تأثير لغة محطتها في وادي حلفا ملازم لها.
أصابني في ذاك اليوم غرور بقوتي بعد أن أدركت أن في مقدوري أن أزيد من آلامها، وقررت أن ازيد من مناوشاتي لها وتناسيت رغبتي في عدم الخروج. تأوهت بشدة وجاءها المخاض.
بعد أن رفضت عضلات رحمها أن تتركني وشأني وبمساعدة قابلة لعينة، قررت في دخيلتها أن تخرجني مهما كان الثمن، خرجت ببطء لتقلبني تلك القابلة اللعينة رأساً على عقب وتضربني بشدة على عجيزتي. تزامنت اول صرخة لي مع انطلاقة صافرة حادة معلنة قيام قطار من محطة الخرطوم ليستقبل حي المرطبات أول مولود لأبي وأمي وسط حضور جيد من الأهل. يقولون إن الطفل عند ولادته يصرخ نتيجة دخول أول هواء إلى صدره ولكني أشك في هذا الأمر، فربما كانت هناك أسباب أخرى وللمواليد عالمهم الغير قابل للإختراق.
فأنا مثلاً كان يمكنني أن امتنع عن الصراخ بعد إخراجي قسراً لكن ضربة القابلة كانت مؤلمة وكأنها كانت تقرأ أفكاري. هي تعلم أن أبي رجل سخي وسيجزل لها العطاء بعد ولادتي، ولا تريد أن تضيع مثل هذه الفرصة لذلك لن تسمح لي بتنفيذ أي أفكار شيطانية، وهي كذلك لن تترك لي مجالاً لمفارقة الحياة قبل "السبوع".
(2)
للسكة حديد وبيوتها طعم خاص لا يدركه إلاَّ من ولدوا في ردهاتها وتربوا بين أزقتها، وهي عالم قائم بذاته له قواعده وقوانينه الداخلية التي لم يضعها أحد، بل تراكمت بفعل الزمن لتتطور ذاتياً، ومن يحاول خرقها سيجد نفسه معزولاً منبوذاً. وهي – بحق- عالم تتلاقى داخله كل الأطياف العرقية والسياسية والدينية، كلهم جمعهم القطار، أو كما كتب الدكتور عبدالله علي إبراهيم مسرحيته "السكة حديد قربت المسافات".
لنتخيل عدد محطات السكة حديد في المدن والقرى التي يتوقف بها القطار، تلك المدن التي وجدها القطار قائمة أصلاً، وتلك التي قامت وتمددت بفضل القطار، وكذلك القرى (صار كثير منها الآن ينعق فيها البوم أو تحتلها الغربان وتسد نوافذ منازلها خيوط العناكب).
ولنتخيل حجم هذا الطيف البشري الذي يعمل في خدمة القطار، (الإدارة بمختلف أقسامها، والهندسة بمختلف تخصصاتها والمالية والخدمات الاجتماعية، والعمال .. عمال السكة حديد، كل هذا الطيف البشري منتشر في كل المحطات صغيرها وكبيرها هذا غير رئاستها). والأكثر من ذلك حجم الطيف البشري الذي يستفيد من خدمات القطار من ركاب وباعة في المحطات الكبيرة والصغيرة، وهؤلاء أصحاب فائدة مرئية ومباشرة من القطار.
ولنتخيل حجم الشبكة الحديدية التي هي بمثابة شرايين وأوردة تربط كافة أنحاء السودان، من واو جنوباً إلى نيالا وبابنوسة غرباً، إلى الرهد والأبيض إلى الدمازين والروصيرص، إلى كسلا وبورتسودان شرقاً، إلى مدني وسنار إلى أبوحمد وكريمة إلى وادي حلفا في أقصى الشمال، شرايين يتدفق فيها دم سوداني حار مختلط بعرق وأنفاس لا يمكن التمييز بينها.
ثم لنتابع هذا البنيان الداخلي لخطوط السكة حديد لنكتشف ذلك العالم الغني الذي أفقده الدهر طعمه، فمن محطة واو إلى أن تصل محطة بورتسودان في أقصى الشرق يمكنك - سابقاً – أن تسلك طريقين ولكن عليك أولاً أن تبلغ محطة ربك - ريبا التي منها يتفرع الخط الحديدي إلى خطين أحدهما في اتجاه الخرطوم ومن ثم عطبرة إلى هيا فبورتسودان، أما الثاني فينطلق من ربك إلى ريبا في اتجاه سنار القضارف كسلا لبلوغ تقاطع هيا ليأخذ القطار مساره من هناك إلى مدينة بورتسودان.
لكي تتضح الصورة أكثر لا بد من أن يخترق القطار عمق بحر الغزال جنوبا متجهاً إلى دارفور حيث تقع محطة بابنوسة ومنها يتجه شرقاً مقتحماً كردفان فالنيل الأبيض فالجزيرة. وإن تسلك الطريق الأول سيقطع بك القطار الجزيرة من منتصفها لتصل إلى العاصمة القومية ومن ثم تغادر إلى الإقليم الشمالي حيث عطبرة لتنطلق منها إلى هيا حيث الطريق سالكة إلى البحر الأحمر، أما الطريق الثاني فسيواصل بك القطار رحلته عبر الجزيرة إلى إقليم كسلا منطلقاً إلى هيا ومن ثم إلى مرماك الأخير عروس البحر الأحمر بورتسودان. وهذه الرحلة في الحالتين تنطبق عليك إذا كنت قادماً من محطة نيالا في أقصى الغرب.
أما النيل الأزرق فعليك بلوغه من محطة سنار التقاطع، وهي محطة قد ربطتنا في المرحلة السابقة في اتجاهين مختلفين، وها هي تقودنا في صحبة القطار في اتجاه سنجة أبورمد الرصيرص. أما عروس الرمال فلن يبلغها القطار سوى في تقاطع الرهد حيث يتفرع الخط الحديدي واحد في اتجاه بابنوسة والآخر في اتجاه الأبيض محطته النهائية في شمال كردفان. أما التقاطع الذي تمثله عاصمة الحديد والنار فبعد أن قادنا عبر أحد مسارت الخط الحديدي إلى هيا حيث البحر الأحمر، فهو فيخترق بنا في مساره أقصى الشمال ومن مدينة عطبرة ذاتها ليتوقف عند محطة أبوحمد التي تربطنا في أقصى الشمال بوادي حلفا دون أن تنسى ديار الشايقية عبر خط آخر يتجه غرب أبو حمد حيث تستلقي محطة كريمة بشلوخها ونخيلها.
ألم أقل أنها مثل الشرايين والأوردة، إنها خريطة لدورة دموية كبرى تغذي كل السودان، تساعدها دورة دموية صغرى متمثلة في النقل النهري عندما كان يتبع لمصلحة السكة الحديد حيث يقودنا إلى أجزاء وأطراف يصعب على الخطوط الحديدية اختراقها. ورغم أنها فقدت ذلك الطعم الخاص لصافرات القطارات إلا ان طعم صافرات البواخر النيلية له خصوصيته.
(3)
كل هذا يجعل للقطار مزايا اجتماعية فريدة نادراً ما نجدها في أي مجتمعات أخرى، هذا غير المزايا الاقتصادية والسياسية التي سارت بسيرتها الركبان. فعلى كثرة المحطات التي حطت أسرتي رحالها بين جنباتها (بما فيها محطات لا يبلغها القطار، بل البواخر النيلية قبل فصل التوأم السيامي، مثل ملكال وجوبا وغيرها على امتداد النيل الأبيض جنوباً)، كثيرة هي الشخصيات المسجونة داخل قضبان ذاكرتي حيث كانت لنا وشائج وعلاقات في كثير من المحطات لا علاقة لها بصلة دم وإنما بطول عشرة أو قصرها.
لن أنسى من بينها المرحوم (عم جمال)، (وفاطنة هليل) أو فاطمة خليل رفيقة دربه. ربما لأني كنت اعتلي أولى عتبات مرحلة الوعي، وأنا التحق بالمدرسة الابتدائية في مدينة كسلا عندما قررت مصلحة السكة حديد نقل والدي إليها، وكان قدر الله أن نكون جيراناً لهم (حيطة بالحيطة). كان وقتها يعرف بجمال امين، رجل سمح المحيا دائم الابتسامة، إلى أن صرت أطلق عليه (عمي جمال) وأنا صبي ألعب مع أبنائه في أزقة حي الكنترول كما كان يطلق على ذلك الجزء من بيوت السكة حديد، ومن الطريف أن صار أبناؤه وبناته ينادونه بلفظة (عمي جمال) إلى أن انتقل إلى جوار ربه عليه الرحمة.
ربما صرت متعلقاً به وبأبنائه لأن بذرتي كانت في وادي حلفا، وهو حلفاوي قح كان لسانه يفضحه، ولا تزال الخالة (فاطنة هليل) تؤنث المذكر وتذكر المؤنث وهي تشعر بالفخر بأن جزءاً منها لا يزال ينتمي لحلفا (القديمة)، رغم تهجيرها إلى حلفا (الجديدة). لم أكن وحدي الذي يشعر بالانتماء لهذه الأسرة، بل بعض السودانيين من مناطق مختلفة كانوا يعيشون بينهم لسنوات وأذكر منهم (إدريس روثمان) الذي صار واحداً من أبناء العائلة وهو من أبناء كردفان إن لم تخني الذاكرة. ولن أنسى يوم أن جاء الناعي ينعي إليهم خبر وفاة والده لينقلب العزاء كردفانياً ببكاء اختلطت فيه كل أصوات السودان داخل ذلك البيت الحلفاوي.
تركنا مدينة كسلا إلى محطة أخرى كما هي عادة أبناء العاملين بالسكة حديد، ولكن صار بيته (الذي انتقل بعد إحالته للمعاش إلى حي العمال الأهلي المجاور لحي السكة حديد) منزلاً لي كلما زرت المدينة، برغم كثرة أهلي المنتشرين في أرجائها.
شخصية أخرى تكشف عظمة السكة حديد، وتبين قدرتها على إزالة الحواجز الزائفة بين أبناء السودان، وأنها مدرسة حقيقية للتعدد والتنوع والقدرة على التعايش هي شخصية (ماما مارسيل)، هكذا كانت تسميها شقيقتي الصغرى، وهو ما كان يثير غيرة إبنها (فلوبوس) الذي اعتبرها منافسة له على قلب أمه. كانت أختي الصغرى لا تكاد تفارقها إلا أيام الآحاد حيث تذهب إلى الكنيسة، ظلت (ماما مارسيل) تعيش وسط جاراتها هكذا بكل بساطة ربما ترفع حواجب الدهشة عند البعض من الذين يريدون لها وضعاً خاصاً بحكم ديانتها، ولكنها خذلتهم فصاروا لا يحتاجون حتى للذهاب إليها بالباب إذا ما احتاجوا شيئاً، بل تناديها إحداهن بالحائط أن تناولها (شوية ملح) أو غيره إذا ما نقص عندها وهي في عجلة من أمرها. والسيدة مارسيل هي زوجة الباشمهندس سمير حليم سلامة، وهو من السودانيين الذين عملوا في قسم هندسة السكة حديد منذ تخرجه إلى أن أحيل للمعاش لتغادر كل الأسرة إلى مصر ضمن كثيرين آثروا السلامة والنفاد بجلدهم قبل جلدهم.
إنها السكة حديد، أكثر العوامل الموحدة للسودان، فمن أراد وحدته يجب أن يعيد للقطار أنفاسه التي تقطعت، وللمحطات روحها التي أزهقت، ولحواري أحيائها تلك الحياة التي سلبت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق