رسالة مطولة إلى رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان
"بالطبع، سيكون هناك من يطالبون بالصمت المطلق والطاعة العمياء. ونحن نتوقع ذلك من اليمين المتطرِّف؛ وأي إنسان آخر على دراية بسيطة بالتاريخ، سيتوقع ذلك من مثقفي اليسار أيضاً، ربما حتى بشكل أكثر حدَّة من اليمين. ولكن من المهم ألآَّ نخاف من الجعجعة الفارغة الهيستيريِّة ومن الكذب، وأن نقترب ما استطعنا من مسار الحقيقة والشرف والاهتمام والقلق على النتائج الإنسانية التي تصدر من أفعالنا التي نجحنا فيها أو التي فشلنا في إتمامها. إنها كلها بدهيات، لكنها تستحق أن تبقى في ذاكرتنا وأذهاننا.وفي ما وراء البدهيات، علينا التوجُّه نحو المسائل المحددة للبحث فيها، والتقصي ومن ثم القيام بالفعل اللازم."
نعوم تشومسكي، في لقاء صحفي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر
ويكتب فرانسيس مدينق دينق:
"الأشياء التي لا تقال هي ما يفرق الناس".
ويكتب الشاعر والناقد فضيلي جماع في قصيدته، كون الرصاصة وردة:
"وأن التخفي ...
وراء الحروف الرموز ..
بعصر الوضوحِ جريمةْ!"
الحديث عن الحركة الشعبية لتحرير السودان –كما يقولون- ذو شجون، أما الكتابة عنها أو حولها فذات أشجان. وأن أكتب أنا حولها فهي الأشجان ذاتها، خاصة تحت هذا العنوان. وإذا كان العنوان ملفتاً بدرجة ما، وقد يوحي بما سيوحي به، فإن ما سيرد تحته من سرد ورؤى وأفكار سيكون له علاقة مباشرة وغير مباشرة به. أما سبب إختياري الكتابة تحت هذا العنوان فهو أنني جلدت في سجن الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبواسطة طاقم حراسته، وعلى مؤخرتي واحدة وثلاثين جلدة، بعد أن وافقت قيادته في الجبهة الشرقية رأي المخابرات الإرترية على نقلنا وإستمرار أعتقالنا في سجونها بدلاً من السجون الإرترية. أما دوافعها فهو تلك العلاقة التي تربطني بالحركة الشعبية والتي سأتعرض لها في موضعها، وكذلك محاولة للمساهمة –من وجهة نظري- في تلمس وجهة المرحلة المقبِل عليها السودان، وإبداء الرأي –الذي ربما يكون مفيداً- في بعض القضايا التي قد تهم الحركة الشعبية وغيرها من القوى السياسية.
أرجو أن يتسع صدر فخامتكم "Mr. Chairman" لما سأكتبه –كما عودتمونا- وإنني مليء بالثقة في أنكم ستولون القضايا المطروحة هنا جل عنايتكم واهتمامكم.
"جلدة أولى"
كان الوقت مساء، حين قذف حراس السجن بأحد مقاتلي الجيش الشعبي داخل السور الشوكي، وهو يترنح سكراً ونشوة. ورغم آثار الضرب المبرح البائنة على وجهه وجسده إلاَّ أنه وقف وسط باحة السجن "الشوك" وتمطى، ثم بدأ يمارس رقصة "تور مجوك" الدينكاوية الشعبية الممتعة في هالة من ضوء القمر، وهو يترنم بصوت عذب وبلحن "مورالي" جذب إنتباهنا رغم التعب:
نحن جيش شعبي
نحن جيش تحرير
قائدنا د. جون قرنق قال:
سودان قديم لازم نغيِّرو.
ابتسمت دواخلي، إبتسامة تعلَّق بحوافها طعم حبة الكلوروكين حين يتجشأها مريض الملاريا والحمى تكاد تهرس عظامه ومفاصله، ولكنه ينتظر موعدها –بشغف ووجد- صباح الغد ليبتلعها مرة أخرى. ورغم أنه يغمض عينيه بشدة لكنه لا يفعل ذلك خوفاً منها ولا من طعمها، بل يخاف ذلك الطعم العالق بذاكرته حين يضطر لأن يتجشأ يوم غدٍ.
تذكرت كيف أن سعادة كبيرة غمرتني –وهي بالتأكيد غمرت الآخرين- حين أمرنا قائد ثاني مركز تدريب القوات الخاصة الإرترية –المشرف على أمر إعتقالنا- في موقعه قرب الحدود السودانية، بالإستعداد للمغادرة إلى موقع قيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان بالجبهة الشرقية في منطقة "ربدة"، على أن يتم ذلك خلال خمس دقائق نلملم فيها بقايا دفء في مفاصلنا التي اعترتها إفرازات الرطوبة، وبعض متاع تبقى لنا أثناء رحلة المعاناة والتعب. جاء ذلك الأمر بعد شهرين قضيناهما –نحن سبعة سودانيين من قيادات التحالف- رهن الإحتجاز بواسطة المخابرات الإرترية، وبأوامر مباشرة من القيادة السياسية والعسكرية للنظام الحاكم في إرتريا في ذلك المركز، وهي الفترة منذ الأول من شهر أغسطس وحتى الثلاثين من سبتمبر العام 2004م.
منبع تلك السعادة هو مغادرتنا لذلك الموقع البائس، ونهاية الرهق النفسي الذي عانيناه طوال فترة إعتقالنا في ذلك المركز، وخلفنا مصوبة فوهات البنادق كما مجرمين عتاة بما فيها بعض بنادق تخص الجيش الشعبي لتحرير السودان استعانت بها المخابرات الإرترية لحراستنا. أما منبع السعادة الآخر فهو إقترابنا المكاني من أرض الوطن الذي يسكن وجداننا، وأن هذا الإقتراب سيجيء عبر بوابة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وذلك لإحساسي بأنني جزء لم ينفصل عنها أصلاً، لمعرفتي القديمة بها واللصيقة ببعض قياداتها، ولأنها بوابة منفتحة آفاقها على السودان الجديد مرتكزة قوائمها على إحترام الآخر وخياراته (أو هكذا توهمت)، وكذلك لعلم قيادة الحركة الشعبية والجيش الشعبي بالجبهة الشرقية (أو الجبهة السادسة كما يسمونها) –بصفة خاصة- بظروف اعتقال المخابرات الإرترية لنا وملابسات ذلك الإعتقال، ومعرفتهم الشخصية بكل المعتقلين ومتابعتهم الدائمة لذلك وعلاقتهم المباشرة أو غير المباشرة بإنفجار الجرح المحتقن في جسد التحالف. وعلى رأس هذه القيادات المقدم بيونق والمقدم ياسر جعفر ورجل الإستخبارات الأول الرائد أوغستينو مدوت، وهي القيادات التي كانت متواجدة في تلك الفترة.
الانتقال إلى سجن الحركة الشعبية
جاءت عربة لاندكروزر (بك أب) مع مغيب شمس يوم 30 سبتمبر -بعد خمس دقائق من إخطارنا- يقودها بعض عملاء المخابرات الإرترية إلى موقع إعتقالنا لتنقلنا (أنا وثلاثة آخرين هم مجدي سيد أحمد، ياسر محمد أحمد وحامد إدريس) إلى موقع الحركة الشعبية. ولكن قبل أن يستقر بنا المقام على ظهرها، همس لنا أحدهم بأن قادة الحركة رتبوا الأمر مع المخابرات الإرترية بحيث سننتقل من (هنا) إلى سجن الجيش الشعبي لتحرير السودان. حاولت تخفيف وقع الخبر على نفسي والآخرين بأن إعتقالنا سيكون سودانياً هذه المرة فلا بأس من ذلك. ثم ران صمت ظاهري، ولكن شغل حديث طويل دواخلنا قاطعاً المسافة بين الموقعين، لنجد أنفسنا أمام بوابة سجن الجيش الشعبي بمنطقة ربدة، ونخضع لتفتيش مستفِز ودقيق لمتاعنا الفقير أصلاً، قبل أن يقذف بنا –حفاة- عبر بوابة شوكية أخرى إلى داخل السجن (الشوكي) في تلك الليلة المعتمة سوى من بصيرة جعلتنا نتحسس طريقنا وسط تلك الأجساد التي تفترش الأرض وتلتحف السماء. واستلقينا –بعد مساعدة أحد زملاءنا (عوض حامد عربي) وجدناه قد سبقنا- ننتظر صباح الغد، يملؤنا أمل لقاء بقادة الحركة في الجبهة الشرقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق