"جلدة رابعة عشر"
القبائل الاستوائية تشكل دعامة أساسية في الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهي قبائل تتمدد في المنطقة الاستوائية كلها جنوب أعالي النيل وجنوب وجنوب غرب بحر الغزال. ولعل أبرزها قبائل الزاندي واللاتوكا والباريا والمادي والمورو والتبوسا والمورلي والجور وغيرها، ومن أبرز قادتها في الحركة الشعبية القائد "جيمس واني أيجا" والقائد "صمويل أبو جون" والقائد "توماس سريليو".
ورغم التباين الطبيعي بين تلك القبائل في كثير من الخصائص التي تميز كل منها على حِدة، إلاَّ أنها تلتقي في الانتماء إلى كل ما هو استوائي. ويتشكل وجدانها من طينة واحدة، ذلك الوجدان الأكثر ميلاً لعشق الحرية ولطلاقة الروح وإنطلاقها، ذلك الوجدان المستلهم لسحر فضاءات الاستواء وغموض أكمته المتكاثفة. وهي قبائل تنتمي بفطرتها للجمال المطلق وتتفاعل معه روحياً ومادياً، وتنطلق علاقتها بالعالم من زوايا جمالية تتداعى داخلها فسيفساء الغابة، المطر، الشمس، البرق والرعد. الغناء والرقص، على أنغام الوتريات التي تميزهم والتي لا تتفاعل أناتها إلا تحت أناملهم، سمة ملتصقة بتلك الفطرة. ذلك الغناء والرقص الحميمي المليء بالدفء الإستوائي، يمثلان وجهاً واحداً من وجوه كثيرة تكشف عشق (القبائل الاستوائية) للفنون بكل أصنافها. ومن أبرز الفنون التي تمارسها هكذا (بسليقتها)، هو فن النحت وتصوير عناصر الطبيعة الاستوائية من خلال التعامل مع المواد المحلية خاصة الأشجار.
الاستوائيون بين الفن والحرب
كل هذا الانتماء للجمال وكل تلك الروح المتوثبة نحو الحياة لم تثن الاستوائيين من حمل البندقية، حملها لأسباب مشروعة ولتأكيد حقيقة انتمائهم لهذه الأرض وليس غيرها. حملوا البندقية في التمرد الأول وفي مرحلتي الأنيانيا واحد وإثنين. وهم بالرغم من الوداعة التي تحملها جوانحهم إلاَّ أنهم وفي ساعات إحتدام الوغى ليس هناك أشرس ولا أعنف ولا أبرع منهم. ورغم قدرتها على استقطاب أعداد مقدرة منهم، إلاَّ أن مرحلة ما بعد تجاوزها إنقساماتها الحادة في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي وعودة الروح لقوات جيشها الشعبي الذي تمكن من السيطرة وإعادة السيطرة على أراضي واسعة في منطقة الاستوائية (شرقها وغربها)، شكلت المرحلة المهمة في إنخراط أعداد كبيرة من أبناء الاستوائية بين صفوف جيشها، وكثير من أبنائهم جاءوا إلى الجبهة الشرقية –كما ذكرت سابقاً- ضمن قوات (Timber 1,2) تحت قيادة القائد "توماس سريليو". يكتب د. منصور خالد في سفره الكبير "لم يكن الانقلابيون وحدهم، هم الغاضبون على مناهج الإدارة في الحركة، (يقصد د. مشار ود. لام)، فأهل الاستوائية أيضاً لم يكونوا على حماس كبير لها في البداية، بالرغم من أن أمينها العام واحد من أبرزهم (جيمز واني). وكان لفقدان الحماس هذا أسباب بعضها وهمي يردده الساسة المحترفون منهم عن هيمنة الدينكا على الجنوب، .....، مع ذلك تبدل الحال بصورة لا تتفق مع هوى الانقلابيين، إذ أخذ الاستوائيون يرون في قائد الحركة مدافعاً صلباً عن المصالح الجنوبية، فتدافعوا نحوها".
مع حقيقة أن قائد الحركة الشعبية ليس مدافعاً صلباً عن المصالح الجنوبية فقط، بل عن مصالح جميع أهل السودان، تجاهل الدكتور منصور خالد حقيقتين أولهما الأسباب غير الوهمية لفقدان الحماس لدي الاستوائيين وعزوفهم عن الانخراط في صفوف الحركة، وثانيهما الأسباب الحقيقية وراء تدافعهم نحوها مؤخراً والمتمثلة في نجاح الحركة في سيطرة الجيش الشعبي على مناطق واسعة من الاستوائية واستخدام الحركة لآلياتها الاستقطابية التقليدية، مثل فرض تجنيد عناصر لجيشها على كل سلطان.
المهم، إضافة للقدرات القيادية الفذة للقائد "توماس" ومؤهلاته الأكاديمية وخبرته العملية في حرب العصابات والحرب النظامية، جاء اختياره لقيادة هذه القوة الكبيرة لأسباب قبلية، فهو الأكثر تأهيلاً للسيطرة على تلك القوة وهي تقتحم (بهذه الكثافة) عالماً غير عالمها ومنطقة غير منطقتها لأول مرة. وستنخرط في العمل مع آخرين من قبائل أخرى تختلف خصائص مكوناتها النفسية عنهم إختلافاً ربما يحدث خللاً كبيرة إن لم تحسن القيادة السيطرة عليه.
ها هو سجن "خور ملح" الذي يقع تحت قيادة مباشرة لجهاز الاستخبارات الخاص بالحركة الشعبية (وهو جهاز يسيطر أبناء الدينكا على كل مفاصله القيادية والوسيطة –حسبما يقولون وحسبما لمست شخصياً)، ها هو سجننا الجديد تفوح منه رائحة إستوائية، برغم أن القيادة وعلى رأسها الملازم "طون أرياي" والتي تقع مكاتبها على مقربة من مبنى السجن كلها من أبناء الدينكا، فالإدارة الداخلية للسجن ابتداء من مسئوله الإداري (برتبة رقيب) تشمل العديد من أبناء الاستوائية على مستوى الأفراد. أما السجناء والمنتظرين فمعظمهم من أبناء "القبائل الاستوائية"، خاصة في سجن الأفراد وضباط الصف الذي تم إيداعنا (كأمانات) داخله، أما سجن الضباط فقد تراوحت الرتب فيه من ملازم ثاني وإلى نقيب أغلبهم من أبناء "قبيلة النوير".
لم يكن ممكناً أن نستمتع بذلك الطقس الاستوائي الداخلي، في ظل أشجار الدوم المنتشرة بكثافة في منطقة "خور ملح" ولا في ذلك الطقس المتنازع بين أجواء جبال البحر الأحمر شتاءاً وشتاء إقليم شبه الصحراء الحار نهاره. لم يكن ممكناً أن نستمتع بذلك الطقس الاستوائي الداخلي، وقد قرر قائد السجن الملازم "طون أرياي" حشرنا في زنزانة (نحن الأربعة) لمدة خمس عشرة يوماً، لا نرى الشمس ولا نستمتع بذلك الهواء الرطب ولا الإختلاط بقية السجناء، فقط نخرج صباحاً مبكراً ومساءاً متأخراً لكيما نقضي حاجتنا، وأحياناً نضطر للتبول داخل زنزانتنا خاصة مع اشتداد البرد ليلاً.
خمس عشرة يوماً كان علينا أن نقضيها في البيت الأبيض (كما يطلق عليها النزلاء)، رغم أنه مبني من "الجالوص" و"الزبالة" ومسقوف بشقائق الدوم وجريده. أهم ما يميز تلك الغرفة هو عدم اقتراب المساجين من نزلائها ولا تبادل الحديث معهم. إنها محاولة فرض عزلة مطبقة علينا وقطعنا عن كل مساقط الأخبار والمعلومات التي يمكن أن نبني عليها أي قرار يمكن أن نتخذه. ولكننا اتخذنا قراراً مهماً هذه المرة وهو مطاردة التفاهة بشدة يبررها أملنا في أن تصيبنا –هذه المرة- هذه التفاهة نفسها. إنها محاولة للعب على خيوط اللامبالاة والاسترخاء في هدوء بعيداً عن الشد النفسي والعصبي الذي كانت تريدنا قيادة الحركة في الجبهة الشرقية أن نعيشه ونستسلم له، لشل تفكيرنا وإفراغ قدرتنا وهزها في التمسك بقراراتنا والإصرار عليها. وضعنا هذه القراءة وقررنا التعامل بموجبها دون تردد.
لم يمض نصف الشهر ذاك دون ملاحظات بالرغم من السياج الذي حوصرنا داخله، فالتواصل الإنساني يفرض سطوته ويجد منافذ يخترق من خلالها كل الحواجز. وأهم الاختراقات هي سرعة انتشار المعلومة وتفشيها بين النزلاء، معلومة الظلم الذي حاق بنا، فالمصائب يجمعن المصابينا إذ كثير من النزلاء يعتقدون أنهم مظلومون وأن تعسف قياداتهم المباشرة هو سبب بقائهم بين الأسوار. ومنهم من يعتقد أنه فعلاً أذنب ولكنه لا يستحق كل هذا العقاب فبعضهم أمضى أكثر من عامين وبعضهم قرابة الأربع سنوات نتيجة ارتكابهم مخالفات لا ترقى لمستوي تلك المدة الطويلة التي يقضونها بين الأسوار.
غير ذلك فقد وجدنا من ربطتهم بنا علاقات وطيدة في فترات سابقة، وهاهو وجه عمنا "إلييا" يتحين الفرص لكيما يطل علينا بصوته عبر باب الزنزانة بين لحظة وأخرى ليواسينا ويخفف من وطأة ذلك الوضع. وعمنا "إلييا" قرر الانضمام للجيش الشعبي منذ ثلاثة أعوام قضى فيها -حتى لحظة لقائنا به- عاماً كاملاً داخل أسوار سجن "خور ملح". وغير عمنا "إلييا" بأعوامه التي تجاوزت الستين، هناك العديد من مقاتلي الجيش الشعبي الذين التقى بهم بعضنا في العديد من منعطفات العمل المسلح والآن يجدوننا بينهم ليكتشفوا حجم الزيف الذي يعيشونه. ولكنهم ظلوا يؤازروننا رغم العواقب التي يمكن أن تلحق بهم جراء ذلك. وكان لوجبات ثمار "الدوم" (الشجرة الوحيدة المنتشرة في تلك الفيافي) أثرها الفاعل في مد حبال التواصل وهم يسربونها داخل الزنزانة في لحظات خروجنا لقضاء الحاجة. وتلك الطبخة الجنوبية الخالصة وإسمها "الأفور" ومكونها الأول والأخير هو أوراق نوع معين من النباتات المتسلقة التي تمتطي صهوة جزوع الدوم الباسقة، يتم طحنها وإضافة قليل من الملح لها ووضعها على نار هادئة. ولكن لها طعم مر لاذع لا يكاد يبرح الذاكرة. وتبقى ثمار "الدوم" ووجبة "الأفور" دعامة غذائية حقيقية في ظل الوضع الغذائي والصحي السيء الذي ظل يعيشه النزلاء، وحتى أفراد الحراسة.
قبل أسبوع من أعياد الميلاد المجيد، قررت قيادة الاستخبارات إخراجنا من الزنزانة والسماح لنا بالبقاء داخل السور مع بقية النزلاء. وجد ذلك القرار ارتياحاً كبيراً في أوساطهم، وصرنا –وسط دهشتنا الكبيرة- نتلقي التهاني منهم، وسرعان ما انسحبت مكامن الدهشة إلى مواقعها عندما علمنا أننا قضينا أقل فترة على الإطلاق من بين جميع النزلاء الذين رمت بهم الظروف داخل "البيت الأبيض"، وحمدوا الله نيابة عنا أننا جئنا في عهد الملازم ثاني "طون أرياي"، وقد جاء استلامه لمهامه كقائد للاستخبارات في منطقة "بلاسيد" و"خور ملح" متزامناً مع ترحيلنا، وقد خلف واحد من أسوأ القيادات التي مرت على السجن، وهو ما أكده لنا أحد "الكردفانيين" وإسمه "محمد علي حماد" الذي قضى داخل الأسوار قرابة الثلاثة أعوام. ورمت به الظروف في سجن "خور ملح" بعد أن اعتقلته المخابرات الإرترية أثناء عمله في إحدى المشاريع الزراعية غربي إرتريا، وقامت –بعد فترة من اعتقاله في سجن مدينة "تسني"- بتسليمه لمخابرات الجيش الشعبي. وما دعمه "عبدالله حجر" الذي لا تختلف ظروف وجوده هنا عن رفيقه "حماد". وما ظل يرويه النزلاء عن ممارساته، بعد اللقاء الموسع بين قيادة السجن الممثلة في الملازم ثاني "طون" وطاقمه والنزلاء، وكنا ضمن حضوره، وناقش العديد من قضاياهم المتراكمة. وهو كما يقولون شيء يحدث لأول مرة، وعزوه إلى إقتراب التوقيع على اتفاق السلام بين الحركة الشعبية وحكومة الخرطوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق