”جلدة رابعة“
السيد رئيس الحركة الشعبية..
”السودان الجديد“ ليس مجرد أحلام تمضغها الأسنان، وتلوكها الألسن، ثم يبصقها الفم –على استحياء- خلف ظهور الناظرة.. إنما هو رؤى وأفكار تتخلق، لتبدأ من النطفة حتى ”وكسونا العظام لحماً“.. ولكنها لا تتخلق بعيداً، ولا داخل أرحام مجهولة الهوية، حيث لا جدوى لأطفال الأنابيب هنا.. فلا بد أن يكون الرحم طبيعياً، متصلٌ فيه الماء الدافق بالدم المتدفق.. هذا هو –وانتم سيد العارفين- ”السودان الجديد“.. إنه يتخلق داخل القديم، ويتشكل بين جنباته، ويتغذى من عصارته، حتى ينمو ويخرج إلى الوجود، سلوكاً وممارسةً ومنهاجاً.
كما يقولون: ”داخل كل حضارة قديمة تولد حضارة جديدة“.. ولذا فإننا ننتظر أن يولد ”السودان الجديد“ من رحم السودان القديم، بأفكاره ورؤاه ومؤسساته.. يحمل داخل جيناته بعضاً من إرثٍ تنعكس كروموزوماته على سلوك وممارسات ومنهاج ما هو جديد.. وربما سيثقل كاهله، إلى حين من الدهر، ولكنه أمر طبيعي.. كما ننتظر أن يولد ”سودان أجدّ“ من صلب ما نحلم به الآن.. إنه التجدد، ما يسم الأشياء أثناء مرور العمر.
هي –سيدي- مائة وسبعة وعشرون يوماً فقط لا غير، عشتها بين ظهراني معمل تفريخ لدعاة ”السودان الجديد“، متنقلاً بين سجن ”ربدة“ وسجن ”خور ملح“، ورغم أنها كانت تفتقر لطعم الملح حتى، إلاَّ أن إشراقات مضيئة تخللتها، وأنا أتلمس مصادر عديدة لمعرفة أكثر بالسودان، زادت من حصيلتي، وأكدت صِحَّة انتمائي وتمسكي بموقفي. وكنا نفكر، عندما تقدمنا بطلبنا لإدارة السجن برغبتنا في لقاء قيادة الحركة في الجبهة الشرقية، بأنهم يفعلون مثل ما يقولون، وأنهم لا يبصقون أقوالهم خلف ظهورنا.. فقد التقيناهم كثيراً جداً، وفي مواقف سياسية متباينة، كثيرها متقاطع وآخر متواز.. ولكن يبدو أن مياهاً كثيرة –أو ربما سيول- جرت تحت الجسر، وجرفت معها الكثير من الأقوال، لتبقى الأفعال شاهدة..!!
سأقول لكم ما تهرَّبت قيادات الحركة من الاستماع إليه، ورفضها.. حتى الرد على طلب رغبتنا في لقائها، بالسلب أو الإيجاب.. سأبدأ بطرح ذات التساؤل، وهو: ”لماذا وافقت الحركة الشعبية أن تكون شماعة للمخابرات الإرترية بعد أن تزايد الضغط عليها من أجل إطلاق سراحنا؟“.. والإجابة عندي تحتمل ثلاثة تفسيرات، لا رابع لها.. أولها: إن الحركة الشعبية متواطئة مع الجبهة الشعبية الإرترية في قضية ”التحالف“.. ثانيها: إن ما حدث قد وافق هوىً قديماً داخلها، فمضت بكل قوة تعمل على تعميقه.. أما ثالثها: فهو أن الحركة الشعبية رضخت للضغط الإرتري بنقلنا إلى سجونها.
عدة تفسيرات
سأبدأ من التفسير الأخير، وهو إنها رضخت للضغط الإرتري، وآثرت التعامل مع قضية اعتقالنا، وفق تكتيكاتها، التي تقضي برعاية مصالحها والمحافظة عليها، ولو على جثث الآخرين.. أو كما قال الروائي إميل زولا في رواية سعادة السيدات ”أجل، لقد كان ذلك ضريبة الدم، فكل ثورة تتطلب شهداء، ولا يسير البشر إلى الأمام إلاَّ على جثث الموتى“. وكان النظام الإرتري قد رفع ”الكرت الأصفر“ للحركة الشعبية، وبرزت بوضوح نقاط افتراقهما، بعد وضوح مسار مشروع السلام السوداني، الذي يرفضه النظام الإرتري..!! ولكن ظهر الحركة وجيشها الشعبي مكشوف تماماً في الجبهة الشرقية، سياسياً ولوجستياً، إلاَّ من إرتريا، التي يمكن أن تفعل أي شيء، حتى ولو قطع خطوط الإمداد عن الجيش الشعبي بعدده الضخم..!! إذاً نحن جزء من كبش فداء (أو كله) من أجل أن تظل خطوط إمداد الحركة وجيشها هناك مفتوحة، إلى حين الانتهاء من إجراءات مشروع السلام، والتوقيع النهائي بينها والنظام في الخرطوم.. وربما اختلف الوضع إن كان المكان غير المكان، ولاستقبلتنا ذات القيادات بالأحضان، وسعت لأن نلتقي بقيادات عليا، من أجل الترويج لنفسها سياسياً، وهي المقبلة على مرحلة تستدعي انفتاحها وفتحها لكل الأبواب والنوافذ..!!
أما ثاني التفسيرات، المتعلق بهوى الحركة الشعبية الذي وافق محاولات الجبهة الشعبية الإرترية تحطيم ”التحالف الوطني السوداني“ وقواته (كما وافق شن طبقه) يمكن مقاربته بتاريخ العلاقة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان و”التحالف“.. وهي علاقة كانت مشوبة بالتوتر الشديد في بداية عهدها، بل وصلت إلى درجة العداء، والمواجهة المسلحة، في مرحلة من مراحلها (مثال ما حدث في شمال النيل الأزرق)، بينما ظلت متذبذبة في مراحل أخرى، تحكمها المواقف التكتيكية للحركة الشعبية، وطموحات ”التحالف“، إلى أن بلغت أعلى مراحل درجاتها الإيجابية بإعلان الوحدة بينهما في نهاية أبريل 2002م، والذي وقَّعتُم عليه –سيدي الرئيس- إلى جانب عبدالعزيز خالد رئيس المكتب التنفيذي للتحالف.
المعروف إن ”التحالف“ سطع نجمه في الجبهة الشرقية إبان محاولات الحركة الشعبية استقطاب أعداد كبيرة من ”الشماليين“، داخل وعاء أفرزته لهم، أطلقت عليه اسم ”لواء السودان الجديد“.. وسؤال يتردد: لماذا اضطرت الحركة الشعبية لإفراز هذا الوعاء أصلاً، وبعد مضي أكثر من عشرة سنوات من انطلاق الكفاح المسلح؟ هل السبب كما قال د. منصور خالد: ”ولربما كان من بين العوامل الضاغطة لإنشاء ذلك الشق العسكري للواء المبررة من بعض عناصر الجيش الشعبي: لماذا نريق وحدنا الدماء من أجل بناء السودان الجديد؟“.. عموماً، الإجابة على هذا التساؤل تضيء جوانب كثيرة من قضايا سابقة، ظلت عالقة لالتفاف المعنيين حولها، وقضايا آنية ومستقبلية..!!
الفكرة –في جوهرها- مرتبطة برؤى حركة ”نام“ السابق ذكرها، ولكنها جاءت شوهاء، إذ فارقتها في صميم بنيتها الفكرية.. فبينما اعتمدت ”نام“ على كسر الحواجز النفسية، عبر طرح رؤى مكتنزة بمفاهيم واقعية، ومرتكزة على احترام الآخر، قام ”لواء السودان الجديد“ على سياسة ”التكويش“، معتمداً على تلك القوة الضاربة للحركة الشعبية، وسجل انتصارات جيشها خلال سنوات تجاوزت العقد من الزمان، وقَوْلَبَت كل الرؤى التي ظلت ترددها حول ”السودان الجديد“ وبنائه داخل ذلك الإطار، وليس العكس.. هذا ما جعل الفكرة تتعثر منذ بداياتها، رغم محاولات ردم حوافها.. ومن يحاول تعليق ذلك التعثر –سواء من الحركة أو ”التحالف“ أو غيرهما- على شماعة سطوع نجم ”التحالف“، وقدرته على استقطاب أعداد مقدرة إلى صفوفه، من ذات القاعدة التي تستهدفها الحركة، مما ساهم في تعثر ذلك الوعاء، يفارق المنطق السليم للقراءة، والنفاذ إلى عمق الحقائق، بالرغم من أن بدايات العداء تزامنت مع هذه الفترة.
التقارب بين الحركة والتحالف
رغم كل التوتر ومظاهر العداء التي اتسمت بها المرحلة الأولى، إلاَّ أنهما، وخلال مسيرة ليست قصيرة من التواصل والعمل المشترك الذي فرضه الفضاء المكاني المشترك، وصلا إلى اتفاق ”وحدة“ بينهما.. ولكن ما الذي اعترى هذا التوافق الذي بلغ درجات عليا من سلم التعامل الإيجابي..؟! وهل ”تاور الضرس“ قيادات الحركة –أو بعضهم- في تحقيق رغبات قديمة بسحق ”التحالف“، ودفن حطامه في رصيف النضال الوطني..؟! ومن أين تنزَّلت ”السوسة“ التي لامست ”الضرس“..؟! ”جاء موضوع الوحدة مع الحركة الشعبية متوافقاً مع الآفاق السياسية للتحالف. بعد لقاء قيادات التحالف لوفد الحركة الشعبية –بقيادة القائد جيمس واني إيقا- في سبتمبر 2001م، وإن اختلف الطرفان على آليات تحقيقها، كان واضحاً رغبة الطرفين في المضي بها إلى نهاياتها. وبعد أن وقع الدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية وعبدالعزيز خالد رئيس المكتب التنفيذي للتحالف إعلان الوحدة بينهما في 28 فبراير 2002م على أسس واضحة، أسقط في يد قادة الجبهة الشعبية، وبرز تناقض واضح في موقفها تجاه هذه الخطوة الاستراتيجية، خاصة بعد أن بدأت خطوات السلام السودانية تتضح ملامحها في مشاكوس ومن ثم نيفاشا وهو ما لا يرغب فيه النظام الإرتري." الغولاغ الأرتري – مقالات للكاتب.
أما أول التفسيرات، والذي يدَّعي تواطؤ الحركة الشعبية لتحرير السودان مع الجبهة الشعبية الإرترية في قضية ”التحالف“، فهو ينسف التفسير الثالث تماماً، لأنه ببساطة شديدة يعني أنهما متفقان، وعبر خطة مدروسة، لتحقيق هذا الهدف.. وأنا لا اتفق مع هذا التفسير –رغم احتماله- لأن ما لدي من معلومات مؤكدة تذهب إلى تدخل أطراف إقليمية –لصالح قوة سياسية سودانية- بالضغط على النظام الحاكم في إرتريا (الذي يدين لها بالكثير) في تلك القضية.. بينما يتماهى مع التفسير الثاني، ويتسق مع بعض عناصره، إذ التقت مصالح الطرفين، ولكن دون اتفاق مسبق بينهما منذ البداية، بعد أن فكرت الحركة الشعبية -أو ”تاور قياداتها الضرس“- ووجدت الطقس مؤاتياً، في الإبحار مع الجبهة الشعبية في ذات السفينة.. أو ربما لأن كلاهما تتصف بأنها ”شعبية“..!!
عموماً، كل المؤشرات ترجح كفَّة ثالث التفسيرات، فالحركة ما كانت ستضطر للرضوخ للضغوط الإرترية في ظروف مختلفة عن تلك التي وجدت نفسها فيها، وما كانت لتُقدِم على ما أقدمت عليه –حتى مجرد اعتبارنا (أمانات عندها) كما قال المقدم ياسر جعفر أثناء لقاءنا الصدفة- لاعتبارات عديدة، من بينها الكياسة والفطنة السياسية التي تحتم عليها ذلك، خاصة وأنها كانت قاب قوسين أو أدنى من التوقيع على الاتفاق النهائي للسلام.. (وبهذه المناسبة، أذكر إن توقيع اتفاق السلام النهائي في 9 يناير 2005 صادف وجودنا في سجن ”خور ملح“).. ولكن الحركة أقدمت على وضعنا في سجونها، رغم أن ذلك سيوقعها تحت طائلة عدم الفطنة السياسية، (”مرغم أخاك لا بطل“)، وهو ما أكده قول أحد أعضائها من القيادات الوسيطة الذي التقى بنا مرة بشكل غير رسمي، حيث قال إن الحركة مضطرة للرضوخ لرغبة الإرتريين في هذا الموضوع، خاصة في هذه المرحلة، وهي مضطرة لمعاملتنا بهذه الصورة نزولاً عند رغبتهم أيضاً..!! وهي مرحلة اتسمت بعلاقة فاترة بين ”الشعبيتين“، لأسباب أشرت إليها من قبل.
”جلدة خامسة“
سألني الملازم طون أرياي –وهو من أبناء دينكا قوقريال- قائد منطقة ”بلاسيد“، وهي من بين المناطق التي تسيطر عليها قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجبهة الشرقية، وفي ذات الوقت هو المسئول عن استخبارات الحركة فيها، ويقع سجن ”خور ملح“ –الذي نقضي بين جنباته مدة لا ندري مداها- ضمن سلطاته، سألني إن كنت سأكتب عن الفترة التي قضيتها في سجون الحركة. وكانت تلك آخر أيام لنا مع سجونها، بعدها تمت إعادة تسليمنا للمخابرات الإرترية مرة أخرى.. قلت له إنني سأفعل بكل تأكيد، إذا كتب لي الخروج منها.
وها أنا ذا أفعل الآن، حضرة الملازم ثاني طون أرياي، في خطابي هذا الموجه لرئيس الحركة الشعبية، الدكتور جون قرنق. وربما تكون الآن في الخرطوم وأنت تتابع قراءة هذه الرسالة، وربما لا تقع بين يديك قط.
للحركة الشعبية لتحرير السودان سجنان في منطقة ”ربدة“، الواقعة في الحدود بين السودان وإرتريا، وهي تقع شمال شرق مدينة كسلا. السجن الأول يقع تحت مسئولية الشرطة، المناط بها الحفاظ على الأمن هناك، وتُحَوَّل إليه القضايا الإدارية والمخالفات البسيطة. أما السجن الآخر –الذي سأتحدث من داخله- فهو يتبع لاستخبارات الحركة، ويقوده ضابط برتبة ملازم أول، من أبناء الدينكا، يتبع لمسئول استخبارات الجيش الشعبي في الجبهة الشرقية ”الرائد أوغستينو مدوت“، وهو أيضاً من أبناء الدينكا، وإليه تحول القضايا الأمنية وقضايا الهروب وحالات الانتظار في الجرائم الكبرى، خاصة القتل، أو الشروع فيه، إضافة إلى وجود العديد من أسرى الحرب داخله. وهو عبارة عن أرض واسعة، محاطة بسور شوكي (يطلق على هذا السجن اسم ”الشوك“)، مقسمة إلى أربعة أجزاء.. الجزء الأول، ويشغل الحيز الأكبر من تلك المساحة، يخص حراسة السجن (يقودها الرقيب مشار من أبناء الدينكا) من سكن ومباني إدارية.. أما الأجزاء الأخرى فهي عبارة عن أسوار شوكية داخل السور الكبير.. الأول يتحفظ داخله بأصحاب الرتب العسكرية (الضباط)، والآخر يخص الأسرى وبعض الحالات، أما الذي يضمنا، فيخص الجنود وضباط الصف التابعين للجيش الشعبي، والمواطنين الذين رمت بهم الظروف في طريق الجيش الشعبي، أو قامت المخابرات الإرترية بتسليمهم للحركة، كما هو حالنا.
رفعت الأقلام
هذه السجون، وغيرها من السجون المنتشرة في مناطق مختلفة من الجبهة الشرقية، والجبهات الخمس الأخرى، يفترض فيها أنها تُقَوِّم المنحرفين عن ”مسار السودان الجديد“.. ولكن أول ما فوجئت به –على الأقل في سجن ربدة- هو أنهم لا يسمحون لك باصطحاب كل ما هو متعلق بالقراءة والكتابة..!! فمنذ اللحظة الأولى، وخلال تفتيش متاعنا، رُفِعَت الأقلام، وجفت الصحف، بعد أن تم جمعها وتخزينها مع بقية متاعنا، حيث لم يسمح لنا بعبور البوابة إلى داخل الموقع الخاص بنا سوى بملابسنا التي على أجسادنا. وجاءتنا عبارة قاسية من الرقيب مشار المسئول الإداري للسجن، وقد ضبطنا نحمل بعض قصاصاتٍ لصحف قديمة، أثناء حملة تفتيشية، إذ قال: ”هذا سجن وليس مكاناً للتعليم“، وجمع بعض الكتب، التي نجح بعض السجناء في تسريبها عبر الأشواك.
لا أتوقع أكثر مما رأيت وعايشت في كل ما يتعلق بما هو يومي، خاصة بعد استرجاعي لأنفاسي وانجذاب العديد من الملاحظات، خلال مسيرة معرفتي بالحركة الشعبية، لمركز تقييمي الداخلي. وهي مفارِقة لكثير من مفاهيم ”السودان الجديد“ التي تبثها الحركة الشعبية هنا وهناك. ويمكن لأي متابع أو مراقب أن يعزي ذلك إلى أنها لا زالت تعيش مرحلة الكفاح المسلح، وتواجه حرباً لا تحتمل تنزيل أي من تلك المفاهيم، الساطع بريقها داخل نفق الواقع المظلمة مآلاته والمستقبل الضبابي الملامح، على صعيد الممارسة اليومية.. وما يزيدها سطوعاً هالة ضجيج المعارك والانتصارات العسكرية الكبيرة.. ولكن تبقى هناك حقائق تقف عائقاً أمام كل المحاولات لتعويم تلك المفاهيم.
لا صوت غير الحركة
هي تفاصيل دقيقة تذوب وسط الضجيج، ولا تتم ملاحظتها داخل أطر اللافتات الضخمة، التي تملؤها تلك الشعارات ذات الخطوط العريضة، وإنما تتم ملاحظتها أثناء المعايشة والمتابعة اليومية. ويمكنها –حتى- أن تعبر هكذا، دون أن تثير الانتباه. وما يجعل تلك التفاصيل تذوب وسط الضجيج هو البنية التنظيمية للحركة الشعبية، وهي بنية مركبة يتداخل في طيفها كل ما هو سياسي، بما هو عسكري، وما هو مدني، ولكنها ترتدي الثوب العسكري، وتسير وفقاً لإيقاع المارشات وأوامر المارشالات.
ما هو أكيد أن السياسي هو والد العسكري، وهما معاً يقودان إلى السيطرة على رقعة ما.. وفي حالة الحركة الشعبية، هي الأراضي التي تمكنت من تحريرها، وإقامة سلطة ”السودان الجديد“ عليها.. إن تزاوج البنية التنظيمية للحركة الشعبية، بين الثلاثة محاور هذه، خلق داخلها –وكذا داخل ذهن الناظر إليها- من الربكة الشئ الكثير، حيث تتبدى في زي شمولي أكثر أناقة، خاصة وهو مرصع بتلك النجوم المضيئات على الأكتاف..!! وجعلها تتحرك في حقل مغنطيسي لا تقبل داخله -أو في مجاله- سواها، أو من يأتيها طائعاً، أو يطاوعها إلى حين.. وهو ما ظل واقعاً في مناطق إدارة ”السودان الجديد“ الخمس (الاستوائية، أعالي النيل، بحر الغزال، جبال النوبة والنيل الأزرق.. أما المنطقة السادسة، وهي الجبهة الشرقية، فحديثها مختلف) وما كشفت عنه المفاوضات بينها ونظام الإنقاذ، فلم نسمع بأن هناك قوى أخرى في هذه المناطق، لها صوت (يتفق أو يختلف) غير صوت الحركة الشعبية، رغم علمنا أن الرقعة التي تسيطر عليها ليست بالصغيرة، مساحةً وبشراً. مع العلم أن الحركة السياسة كان لها انتشار مقدر في تلك المناطق أثناء الهدنة، ما بعد اتفاقية أديس أبابا وقبلها.. هل كلها انخرطت في صفوف الحركة، أم إن الحركة أزاحتها من الوجود، على الأقل في تلك المناطق؟ كلنا يعلم أن للقوى السياسية، خاصة تجمع الأحزاب الجنوبية (يوساب) وغيرها من فصائل تحمل السلاح، وجود في المناطق التي لا تسيطر عليها الحركة، بل يسيطر عليها نظام الإنقاذ، وحتى الانشقاقات التي حدثت داخل الحركة وقادها قياديون بارزون في الحركة، لجأت إلى مناطق ”الحكومة“.. ثم ما هو موقف المواطن الذي ظل يعيش في تلك المناطق، بل ما هو مصيره إذا كان موقفه مغايراً لسياسة الحركة ورؤاها؟ وهل يملك أن يخالف تلك الرؤى، إلاَّ أن يغادر أو يصمت أو يقبل بالتدجين..؟! وطبعاً الحركة الشعبية في حالة حرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق