”جلدة سابعة“
قوَّتا ”Timber 1“ و”Timber 2“ ألقتا بظلالهما على قوات الجيش الشعبي في الجبهة الشرقية، خاصة بعد ضعف فعالية فكرة ”لواء السودان الجديد“.. ولهذا الاسم قصة طريفة، فقد تم نقلهما بطائرات شحن من جنوب السودان، عبر الأجواء الإرترية، ويبدو إنها عبرت أجواء دولة أخرى، وعندما تمت مساءلة قائد الطائرة عن محتويات حمولته، إدعى أنها ”خشب“..!!
لكن ما هو أطرف من هذا، تعليق أحد مقاتلي تلك القوات –التي لا يعرف الكثير من أفرادها سوى جنوب السودان- عندما شاهد تلك الجبال والفيافي القاحلة، إلاَّ من شجيرات لا يُقِمْنَ ظلاً، وهو القادم من وسط الأدغال الاستوائية، بحيواناتها وأمطارها، وقف لحظتها وقد أنهكه التعب، وأخذ منه العطش مأخذاً بعيداً ليقف في منتصف المسافة ويقول: ”والله د. جون ده جابنا بلد قديم قُدُم“..!!
جاءت تشكيلة القوة ”1“ في أغلبها من أبناء الاستوائية.. تم تجميعها بعد اكتساح قوات الجيش الشعبي لمنطقة الاستوائية، خاصة غربها، وكانت الحركة قد تجاوزت جرح انقساماتها التي حدثت في بداية تسعينيات القرن الماضي، واستعادت عنفوان شبابها مرة أخرى.. كان على رأس قيادة تلك القوة القائد ”توماس سريليو“، وهو من عائلة استوائية معروفة، بعد أن نُقِل القائد ”عبدالعزيز الحلو“ لجبهة جبال النوبة، بعد استشهاد القائد ”يوسف كوة“.. فيما جاءت تشكيلة القوة ”2“ من مجموعات قبلية متنوعة، وغالبيتها من قبيلتي ”الدينكا“ و”النوير“، لتضاف تلك القوة مجتمعة إلى قوة ”الجنقو“، التي تم استقطابها أصلاً في الجبهة الشرقية، ورغم أن الأولى تفوق الثانية عدداً، فقد ظل ”الجنقو“ ”جنقو“، والـ”Timber“ ”Timber“...!!
انعكس الخطاب التعبوي للحركة الشعبية المتعدد المستويات على مجمل بنيتها التنظيمية.. فهي، وإن بدأت بعد تمرد مايو 1983م وإعلان انطلاق الكفاح المسلح، بخطاب تعبوي، انعكست بين سطوره رؤى حركة ”نام“ التي انخرطت معظم (إن لم يكن كل) عضويتها من السودانيين في جنوب السودان –وهم في معظمهم ذوو توجهات ماركسية، أو كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي السوداني- في الحركة الشعبية لتحرير السودان، بل وشكلوا القاعدة السياسية لها.. وهو الأمر الذي ألقى بكثيف ظلاله على ”المنفستو“ الذي أعلنته، وجعل من ”إثيوبيا منقستو الماركسية“ قاعدة صالحة لإعادة تنظيم صفوفها، وليس العكس، كما يظن البعض، بأن لجوئها إلى إثيوبيا هو ما دفعها لتبني الخطاب الماركسي في عهدها الأول. ”الملاحظة التي أثارت فضول واهتمام الكثيرين.. هي أن قرنق رغم أنه تلقى إهتماماً ورعاية وتعليماً من قبل أقصى اليمين الرأسمالي.. إلاَّ أنه انطلق في عدائه وتمرده على الخرطوم من أقصى اليسار الماركسي.. وهناك من رد ذلك إلى ما هو معروف في النقد الأدبي بعبقرية المكان الذي أطلق منه غضبته على الخرطوم وهي إثيوبيا الماركسية إحدى دول محور عدن خاصة وأن نظام نميري كان يتحرك وقتها مطمئناً تحت المظلة الأمريكية وكان يحاول حسم الحركات الجنوبية المتمردة عليه بسطوة الدعم الغربي!“ ضياء الدين بلال – الشماليون داخل حركة قرنق.
هذا الخطاب الداعي لتحرير كل السودان، والذي تجاوز الخطاب الداعي لفصل الجنوب، كان –برغم الطعم الماركسي الذي يمكن تذوقه بين ثناياه- يعبر عن أشواق أعضاء حركة ”نام“ من السودانيين الجنوبيين، الذين انضووا تحت لواء الحركة، في اختراق حاجز جنوب شمال والتمدد السياسي القومي، وشجعها ذلك النجاح الذي لاقته الدعوة –وقتها- في استقطاب أعداد مقدرة من السودانيين شمالاً وجنوباً، كما جاء ليعبر عن أشواق الحركة وعضويتها القيادية في الخروج مبكراً من خندق الإقليمية الذي يمكن أن توصم به.
قلة مردود هذا الخطاب في استقطاب شماليين (كما هو متخيل) –ليس بسبب عدم جدواه بل لثقافة مختلفة في النضال لم يتم وضعها في الحسبان- جعل قيادة الحركة تعيد قراءة خطواتها، بعد أن بدأت خطوات تحرير الأرض. وصارت مواجهة بضرورة التعامل مع الواقع، لتلجأ إلى مد صلاتها بالزعامات القبلية في الجنوب من أجل تجييش الشباب واستيعابهم في الجيش الشعبي، وذلك فضاء لا تجدي معه دعاوى القومية، ولا الماركسية، ولا تحرير السودان.
خطاب الجلابة
هنا كان لابد من خطاب تعبوي مختلف تمثل في الحرب ضد ”الجلابة“ التي ظلت تعني بالنسبة للمنخرطين في صفوفه ”الشماليين“ (الذين كانوا يشترون الدجاجة منهم بقرش ويبيعونهم ريشها بخمسة قروش)، فيما ظلت إذاعة الجيش الشعبي لتحرير السودان تنقل أنباء انتصارات قواتها على القوات الحكومية إبان حكم النظام المايوي، وما تلاه من الأنظمة، داعية كل السودانيين للنهوض ضدها. وتنوُّع خطاب الحركة الشعبية، وتحدثها بأكثر من لسان، ظل صفة ملازمة لها، فلديها لكل مقام مقال، من أجل بلوغ غاياتها..!! فهي مع نفسها بخطاب، ومع جنودها بآخر، ولعامة السودانيين بلسان، وللعالم بعدة ألسن، حسبما يقتضي الظرف الزماني والمكاني.
إذاً جاءت قوات ”Timber 1,2“ إلى الجبهة الشرقية من تلك البيئة المناهضة للجلابة، لتجد ”الجلابة“ بشحمهم ولحمهم يقاتلون إلى جانبها هذه المرة، سواء داخل الجيش الشعبي، أو في الفصائل العسكرية المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي.. ولتجد أن رئيس القيادة العسكرية للتجمع هو د. جون قرنق القائد العام للجيش الشعبي، والقائد ”باقان أموم“ هو منسق قوات التجمع.. التقوا بالشايقي والزغاوي والهدندوي والجعلي والرشايدي والنوباوي والنوبي وغيرهم.. وفوق جبال التناقضات التي وجدت نفسها داخلها، جاءت تضيف أخرى تحملها داخلها، زرعها الخطاب التعبوي للحركة الشعبية هناك.
اعتمدت الحركة –كما ذكرت- على الخريطة القبلية في قراءتها لوقع خطواتها المستقبلية، والتي أحدثت فيها ما أحدثته من نتائج كارثية خلال مسيرتها، مثلما حدث عند انشقاق د. رياك مشار بقوته وقواته (القبلية)، وهو من أبناء قبيلة ”النوير“ وقياداتها البارزين، ود. لام أكول، الذي ينتمي لقبيلة ”الشلك“ بقواته ”الشلكاوية“، وغيرها من تشظيات قبلية أصغر حجماً.. وألقى الواقع القبلي بظلاله الكثيفة على الحركة، في مناحٍ كثيرة، الشيء الذي جعل فخامتكم –سيدي الرئيس- تجيبون في ضيق، ذات مرة، على أسئلة صحفية بأن لا ذنب لكم في أنكم تنتمون إلى قبيلة ”الدينكا“ وأن لا ذنب لقبيلة ”الدينكا“ في أنها أكبر قبيلة في جنوب السودان أو في السودان.. ورغم أن هذه حقيقة –أي لا ذنب لكم في ذلك- لكن تبقى الحقيقة الأخرى أن الحركة الشعبية فشلت في صياغة خطاب تعبوي من شأنه إزالة الاستقطاب القبلي الحاد داخلها، خلال مسيرتها النضالية الطويلة.
أضاعت الحركة الشعبية فرصة تاريخية بتجاهلها لهذا الواقع، أو عدم قدرتها على التعامل الإيجابي معه، فمعركة النضال الطويل (أكثر من عشرين عاماً) كانت كفيلة بتحقيق نتائج طيبة في كسر حدة الاستقطاب القبلي داخلها، وبالتالي في كل الإقليم.. فالكفاح المسلح (طويل الأمد) يشكل معملاً مناسباً وأكثر سرعة، تتفاعل داخله عناصر التقارب، إذا ما أضيفت مقاديرها بالنسب الصحيحة.. وهي في هذه الحالة خطاب تعبوي، وبرنامج توعوي، زائداً قيادة قادرة على تجاوز حالة الاستعلاء.. أضاعتها لتدخل مرحلة ما بعد الحرب وهي تحمل على أكتافها وداخلها كثيراً من الأورام التي يمكن أن تصير إلى التقيح إن لم تتسرطن.
”جلدة ثامنة“
يكتب نعوم شقير في سفره الكبير جغرافية وتاريخ السودان عن النوير: ”وهم بين بحر سُبت وبحر الغزال وفي بلادهم يتسع النيل وتكثر السدود والمستنقعات حتى أن بعضهم يسكنون الجزر فيعيشون على الأسماك والنباتات كالطيور المائية“.. وبحر سُبت هو نهر السوباط المعروف، الذي يجري من المرتفعات الإثيوبية ويصب في النيل الأبيض من الناحية الشرقية.. ومن أشهر المدن هناك هي مدينة ”الناصر“.. أما في بحر الغزال، فيستوطنون حول المنطقة الغنية بالبترول، في مدينة ”بانتيو“ وما حولها.
هم قوم أقوياء، يمتازون -مثل كل القبائل النيلية- بالقامة الفارعة، ومحاربون أشداء لا يهابون مواجهة الموت.. بل عرف عنهم أنهم لا يقاتلون تحت حماية السواتر، وإنما يقاتلون وقوفاً تحت كل الظروف.. فوق ذلك، هم معروفون بالإخلاص والوفاء، ونقاء السريرة وبياضها، ولكنهم متمردون بطبعهم، لا يخضعون لسلطانٍ، خاصة من يريد إخضاعهم، سواء بالقوة أو بالحيلة والخداع.
ظل ”النوير“ يشكلون رافداً مهماً وكبيراً لقوات الجيش الشعبي لتحرير السودان، مثلها في ذلك مثل بقية قبائل جنوب السودان.. وبرغم حالات التمرد الكبيرة التي حدثت داخل صفوفه، وأشهرها تمرد ”وليم نيون“ و”د. رياك مشار“، ما شكل خللاً كبيراً في تركيبته، وتسبب في فقدان سيطرته على مناطق كبيرة، بسبب حالات التمرد القبلية تلك، فهو عندما يفقد القبيلة، يفقد معها الأرض التي يسيطرون عليها، رغم ذلك ضم الجيش الشعبي بين صفوفه قطاعات من ”النوير“ باستمرار، ولكنها ظلت في حالات هروب كبيرة، وصغيرة، وأحياناً دامية.. ودعني هنا –سيدي رئيس الحركة الشعبية- أن أورد ما كتبه د. منصور خالد في كتابه الأخير، أهوال الحرب وطموحات السلام: ”في الجنوب أصبحت الصراعات بين المليشيات القبلية (البقارة والمسيرية ضد الدينكا) وكذلك بين الحركة والمليشيات الجنوبية التي خلقها النظام (النوير ضد الدينكا) عنصراً هاماً في الحرب، وكانت الآثار الموجعة للصراع الأخير أوضح ما تكون في منطقة بحر الغزال. تلك الصراعات اتخذت أشكالاً عديدة شملت القتل، ونهب الممتلكات، والاختطاف القسري للأطفال والنساء مما عكس العنصرية في أبشع صورها. كما سهل من إشعال الصراع القبلي في الجنوب (النوير ضد الدينكا) الطموح المشروع وغير المشروع لبعض الساسة الجنوبيين، والذين لم يكونوا يأبهون، وصولاً للسلطة، من السير فوق أجداث أهليهم.“
النوير والعداء للدينكا
ولم تفارق تلك الخاصية –العداء للـ”دينكا“- النوير، الذين جاءوا ضمن قوة ”Timber 1,2“، والذين ظلوا يشكلون هاجساً مقلقاً لقيادة الجيش الشعبي في الجبهة الشرقية.. وأشهر حالات التمرد، تلك التي حدثت في النصف الأول العام 2004م، عندما انطلقت قوة من أبناء ”النوير“ من منطقة ”جبرت“ في الحدود الشرقية، وعبرت الحدود الإرترية، لتلتف على موقع قيادة الجيش الشعبي في ”ربدة“، فاقتحمت المنطقة، وأحدثت فيها ما أحدثت، ثم اقتحمت السجن الذي أروي منه تلك الأحداث، لتطلق سراح أبناء ”النوير“ المعتقلين داخله، لأسباب عديدة أبرزها هو اتهامهم بالترتيب للهروب والتسليم للقوات الحكومية.. وانطلقت تلك القوة لا تلوي على شيء في اتجاه المناطق التي تسيطر عليها القوات الحكومية..!!
وجدت العديد من أبناء ”النوير“ داخل سجن ”ربدة“، وكلهم معتقلون بسبب اتهامهم بـ”التفكير“ في الهروب، والتسليم للقوات الحكومية..!! ضحك ”مكير“، (ذو الخمسة وعشرون ربيعاً والقامة المديدة والبنية الجسدية القوية) في ألمٍ وهو يروي لي ذلك.. و”مكير“ هو أكبر المجموعة سناً، ويعتبر قائداً لهم، وهذه عادة من عاداتهم وأعرافهم، وهي تنصيب أحدهم باعتباره قائداً في أي مجتمعات يحلون فيها.. لقد تم التحفظ عليه، ومجموعته، وأودعوا السجن بعد أن اتهمهم قائدهم النويراوي (حفاظاً على موقعه كما يقول ”مكير“) بمحاولة الهروب من صفوف الجيش الشعبي، واللحاق برفاق لهم كانوا قد نفذوا عملية هروب جماعي، وسلموا أنفسهم للقوات الحكومية..!!
واحدة من طرق التجنيد للجيش الشعبي في المناطق التي يسيطر عليها في جبهاته الجنوبية الثلاث، هي فرض عدد محدد على كل سلطان من المنطقة الخاضعة لسلطانه القبلي، لتجميعه في وقت محدد.. قال لي ”غوردون“ رفيق ”مكير“، إن والده رفض تجنيد أبناء القبيلة الآخرين، واكتفى بتجنيد أبنائه، وهو أصغرهم.. ولابد للسلطان، إن أراد البقاء في موقعه، التنفيذ الفوري لتعليمات الجيش الشعبي.
يحلم ”مكير“، بعد أن يعم السلام ربوع البلاد، بالذهاب للخرطوم، التي يقول أنه زارها مرة واحدة، وقضى فيها قرابة العام، قضاها في العمل في مجال البناء أولاً، ولفترة قصيرة، وبعدها عمل في مزرعة في منطقة الخرطوم بحري إلى أن عاد مرة أخرى إلى منطقة ”بانتيو“ حيث أهله، لينضم لقوات الجيش الشعبي، وينتقل للعمل في الجبهة الشرقية.. يحلم ”مكير“ بالعودة، وشراء عربة (بعد أن يتعلم القيادة) وبعد أن يبيع بعض الأبقار من ”مراحه“ الكبير.. ومثله يحلم الكثيرون، بأن يعم السلام، ويعودون إلى موطنهم، ويلتقون بأهليهم الذين فارقوهم لسنوات وسنوات.
هل تستطيع الحركة الشعبية، بمنهجها القديم، السيطرة على الوضع في الجنوب في ظل الاتفاقية التي منحتها حق حكمه أو السيطرة على الأغلبية فيه؟ وهل يتواصل التشظي وتتفجر الاحتقانات التي تملأ جسدها..؟! فالأمر لا يقتصر على ”النوير“ فقط، بل هناك قوى أخرى تعتقد في أن ”حكم الدينكا أسوأ من حكم الجلابة“.. ويتوقعون –بعد أن تضع الحرب الأولى أوزارها- أن تكون معركتهم القادمة ضد هيمنة ”الدينكا“؟ وهل ”الدينكا“ يهيمنون على كل شيء في الحركة؟ لن أكتفي بإجابتكم الضجِرة على سؤال شبيه في ذلك اللقاء الصحفي.. بأن لا ذنب لكم في ذلك..!! تلك قضايا كثيرة وكبيرة تحتاج لحديث طويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق