”جلدة ثالثة عشر“
السيد رئيس الحركة الشعبية..
ربما لا تعلمون –بحكم موقعكم في قمة القيادة- أن سجن ”خور ملح“ معروف بسوء السمعة.. واحد من الذين مروا بأسوأ التجارب في ذلك السجن هو المقاتل ”جون“.. شخص سوداني بسيط، ينتمي إلى قبيلة الدينكا، وفوق ذلك يشعر بانتمائه الأكبر والأقوى لكل السودان، وهو من العمال الزراعيين الذين رمت بهم الأقدار في طريق الكفاح المسلح، فاختار -منذ اتخاذ قراره بالانخراط فيه- العمل ضمن قوات التحالف السودانية، ليسطر له التاريخ بأنه من أوائل الذين أسهموا في بث ذلك البريق الذي ميَّز نجم التحالف عند سطوعه.
وقع ”جون“ ضحية للتنافس الشريف -وغير الشريف- بين الفصائل المسلحة في شرق السودان، والصراع المحتدم بينها في استقطاب المواطنين إلى صفوف الكفاح المسلح.. فهي، وإن كانت قد حددت عدوها الأساسي في ذلك الوقت، وهو النظام الحاكم في الخرطوم، إلاَّ أن قصور تفكير قياداتها –الميدانية منها بصفة خاصة، وضيق أفقها، جعل الصراع بينهم يتحول إلى ما هو أشبه بالعداء، بالرغم من ما تعكسه الصورة البراقة للعمل العسكري المشترك، والعمل العسكري الموحد، والتي تخفي وراءها صورة أخرى مشوهة لا ينفذ إليها إلاَّ الذين عايشوها عن قرب.
تعرض ”جون“ لصنوف وألوان من التعذيب في سجن ”خور ملح“ لكونه دينكاوي ينتمي إلى فصيل آخر غير الجيش الشعبي لتحرير السودان، رغم أن كثيرين من أبناء القبائل الأخرى -بما فيها الدينكا- يرون أن الحركة الشعبية وجيشها الشعبي لا يعبِّران عن طموحاتهم، ولا عن مواقفهم ورؤاهم السياسية والاجتماعية، ويعتقدون أن من حقهم الانتماء للقوالب والأفكار السياسية التي يمكنها التعبير عنهم، ولا يرون في التخندق القبلي والجهوي ”القالب“ المناسب لهم، ولا هو يعبر عن طموحاتهم.. فهم تجاوزوا برؤاهم وأحلامهم ذواتهم، بعد امتلاكهم رؤية مغايرة، أو فلنقل أكثر استيعاباً لواقع السودان، وأقوى طموحاً لمستقبل السودان.. ومثلما ترى الحركة الشعبية في ما تصدره من رؤى أنها حركة قومية وليست إقليمية، وبالضرورة لا تشترط أن تكون من قبيلة معينة لتكون مؤهلاً للانضمام إليها، يرى ”جون“ أن كونه دينكاوياً لا يعني ذلك أن ينتمي بالضرورة للحركة، ولا يعتبره صكاً للانخراط في صفوفها.
ولكن، ماذا يعني أن تعتقل قوات الجيش الشعبي –أثناء زيارة له لأخوته وأقربائه في مناطق معسكرات الجيش الشعبي في منطقة ”ربدة“- بأوامر من ضابط فيها المقاتل ”جون“ لأنه من قبيلته، وعليه أن ينخرط في صفوف الجيش الشعبي، ولو بالقوة..!؟ وقد حدث أن أجبر على الانضمام للجيش الشعبي، بعد أن تعرض للاعتقال والتعذيب في سجن ”خور ملح“، حسب روايته ورواية آخرين التقيتهم هناك، حتى رضخ للأمر..!!
هذه أول الصور التي علقت بذهني عن ذلك السجن.. تليها تلك الصور المتفرقة التي التقطتها أثناء وجودي في سجن ”ربدة“، عبر إشارات تخويفية تبثها قيادة الحركة بواسطة مندوبيها لنا في السور الشوكي، وعبر التقصي الذي قمنا به من بعض المعتقلين والسجناء الذين لديهم فكرة عن وضع ذلك السجن.. وتتالت الروايات عن ”خور ملح“، وما يعرفه مرافقيَّ من القيادات الميدانية عنه، وهيأنا أنفسنا ووطناها على أسوأ الظروف التي يمكن أن تواجهنا إذا ما قررت قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية تنفيذ ما أرسلته من إشارات بترحيلنا من ”ربدة“ إلى ”خور ملح“، وذلك بعد أن وجدت أن لا قدرة لها على النفاذ إلى غاياتها عبر تصلب موقفنا وصلابته، وهو ما لم تكن تتوقعه.. فهي بعد جلدنا، ومحاولة عزلنا، التي فشلت، ورفضها الاستجابة لطلبنا بلقائها، والمعاملة السيئة التي واجهتنا بها إدارة السجن في ”ربدة“، خاصة في بدايات أيامنا، عنَّ لها، من ناحية، تحقيق زيادة عزلنا، بل عزلنا نهائياً من مصادر أخبارنا، وكذا عزل مصادرنا عنا.. ومن ناحية أخرى، مزيد من الضغط علينا من أجل إبداء الرغبة -على الأقل- في الانضمام إليها.. كانت بتحقيق الأخير تطمع في تحسين موقفها بعد انتشار نبأ وجودنا في سجونها في كل المحافل، ومعاملتنا السيئة، وظروفنا الصحية المتردية في ظل الوضع الصحي المتردي أصلاً. إن إبداء رغبتنا فقط بذلك كان سيجعل الآخرين -الذين كثفوا ضغوطهم من أجل إطلاق سراحنا- يتراجعون ويسحبون مطالبهم، وتبدو الصورة بالنسبة لمشاهدٍ محايد باهتة، لا يتبين معها حقيقة تفاصيل خطوطها..!!
إلى سجن خور ملح
إن اتخاذ قيادة الحركة في الجبهة قرار ترحيلنا إلى سجن ”خور ملح“ كان انتصارا لموقفنا، خاصة بعد نجاحنا في تسريب الخبر إلى الجهات التي يهمها موقع تواجدنا وما يحدث لنا.. نجحنا في ذلك بعد تمليكنا تلك المعلومة لمصدر لنا، وساعدنا في ذلك أفراد حرس سجن ”ربدة“، الذين لم يبخلوا في الفترات الأخيرة في توصيل رسائلنا شفاهة ومكتوبة إلى الجهات التي نريدها..!!
جاء صباح الثاني من ديسمبر 2004م شتوياً خالصاً، معلَّقة ذرات غباره في محطات الأفق القريبة، لتبدو الشمس باهتة تبعث على الشعور بالوهن والتراخي.. وشتاء تلك المنطقة لا ينفصل عن طقس جبال البحر الأحمر في هذا الوقت من السنة، فالفضاء يمتلئ ببخار الماء مع حلول المساء وحتى اقتراب الوقت من منتصف النهار صباح اليوم التالي، لتبدو الأرض مبللة بالماء، والمفاصل التي تتوسد الأرض وتلتحف السماء مبللة بآلام الرطوبة والروماتيزم، فيما تتوهج الشمس، ويتزايد سطوعها بعد منتصف النهار، لتبعث في الأطراف بعضاً من دفء ونشاط.. جاء ذاك الصباح قبل أن يأمرنا حكمدار السجن –تعلو وجهه ابتسامة- بالاستعداد لمغادرة سجن ”ربدة“، وكأن ابتسامته تحمل في أطرافها ارتياحاً من نوع ما برحيلنا، أو ربما كان ضميره مثقلاً بسبب وجودنا داخل سجن تحت إدارته دون ذنب جنيناه..!؟!؟ سوى إننا نحب وطننا، وإننا طلبنا أن نغادر إليه، حيث أهلنا وترابه الذي ارتوى بعرقنا ودمائنا.
لم يقل لنا الحكمدار إلى أين سنغادر، مثلما لم يقال لنا لماذا نحن موجودون داخل السجن أصلاً، ولكننا دائماً ما نخمِّن، وتخميننا لا يخرج من قراءات سهلة لمجريات الأحداث، لذلك دائماً ما تصدق تنبؤاتنا.. سارت بنا ناقلة جنود يحرسها عدد من أفراد الاستخبارات مخترقة الجبال في اتجاه منطقة ”خور ملح“ شمال غرب منطقة ”ربدة“، وهي مسيرة تستغرق حوالي الأربع ساعات لوعورة الطريق وكثرة منحدراته وأوديته.. كنت –وما لمسته أيضاً في مرافقيَّ الثلاثة- في حالة لا مبالاة أصابتنا في ظل التذبذب الذي عشناه في الفترة السابقة.. فمرة يراودنا الأمل بقرب خروجنا وعودتنا إلى أهلنا، وأخرى يصيبنا اليأس من كل هذه التفاهات التي حولنا، أو كما يكتب جنفيف دورمان في روايته (المبالغة): ”ما من شيء كان يفوتنا.. كنا نطارد التفاهة بشدة يبررها أملنا في ألاَّ تصيبنا هذه التفاهة نفسها.. كنا ننظر إلى الآخرين، وكانت تلك أيضاً وسيلة لتزداد عزلتنا، ولنظل في مستوى أرفع، مشهِّرين من غير شفقة بكل المواقف التي يستحسن في رأينا تجنبها.“
عرجت بنا العربة إلى منطقة ”بلاسيد“، قبل انطلاقها إلى مقرها النهائي، وكانت الفرصة متاحة لإعلان أنفسنا، واستغلال الدقائق التي قضيناها في ”بلاسيد“ ليعلم الجميع هناك أن ”مجموعة الأربعة“ تم ترحيلها إلى سجن ”خور ملح“.. ففي منطقة ”بلاسيد“ توجد رئاسات لبعض الفصائل العسكرية، مثل الحركة الوطنية الثورية ”فتح“.. وانتشار نبأ ترحيلنا على أوسع قطاع يعني تأمين إضافي لنا، وأن على الحركة الإجابة على تساؤلات الجميع عن مكان وجودنا حين يعلمون باختفائنا من سجن ”ربدة“ بعد أن اعتادوا على مسيرتنا اليومية ورؤيتنا من حين لآخر.
إذن، وصلت ناقلة الجنود أخيراً إلى ”خور ملح“، ليختلف ”قائد المأمورية مع أفراد الاستخبارات حول ضرورة أن توصلنا العربة إلى مبنى السجن.. فهو يرى أن نواصل بقية المشوار سيراً على الأقدام بعد أن وصل هو ”سعادة البنج“ إلى مقر إقامته، فيما أكد له أفراد الاستخبارات أوامر قيادتهم التي تقضي بضرورة تأمين وصولنا إلى داخل مبنى السجن بالناقلة، تجنباً لأي تصرفات يمكن أن تحدث من جانبنا..!! وأخيراً، اقتنع ”سعادته“، وسمح لقائد العربة بمواصلة المسيرة التي لم تتجاوز مسافة الكيلومتر من ذلك الموقع.. وها نحن أمام بوابة سجن ”خور ملح“، الذي يقف على جزيرة تقع بين مجريين لمياه الأمطار، في انتظار أن ندلف إلى داخله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق