"جلدة ثامنة عشر"
إنها ملامح يوم غير عادي -بالنسبة لنا وللآخرين- داخل سجن "خور ملح"، إنه يوم عيد الميلاد المجيد، حين دخل إلى السجن الملازم ثاني "طون أرياي". كان كثير من النزلاء يأملون، بل على قناعة أقرب لليقين بأن هذا اليوم سيشهد إطلاق سراح الكثيرين، وهي ربما شائعة سرت في اليومين السابقين. ربطها بعضهم بإقتراب موعد التوقيع على اتفاق السلام في نيفاشا.
كان آخر ميقات قد حدد للتوقيع هو يوم رأس السنة الميلادية الموافق 31 ديسمبر 2004م، حسبما أوردت الأنباء التي ظللنا نتابعها في صعوبة في تلك الأصقاع النائية وتحت وطأة تلك الظروف القاهرة التي نعيش تحت ظلها.
يجدر بي الإشارة هنا إلى تلك الملاحظة قبل الولوج إلى بوابة ذلك اليوم. إن أكبر خطأ ارتكبته الجبهة الإسلامية القومية هو تحويلها إلى الحرب في السودان إلى حرب جهادية وإلباسها أبعاداً دينية، مستغلة أسهل طرق التعبئة والحشد ضد الحركة الشعبية. فغير أنها دخلت في مأزق بعد اتساع نطاق الحرب لتشمل معظم أطراف السودان، حاولت إفراغ أسباب إندلاعها الحقيقية واستمرارها من محتواها بإلقاء ظلال دينية عليها. والشاهد أنها اندلعت لأسباب سياسية و اقتصادية واجتماعية، ساهم في تأجيج نيرانها في مرحلتها الأولى القصور السياسي لدى أحزابنا السياسية والأنظمة الديكتاتورية وعدم قدرتها على التعامل الإيجابي مع تلك الأسباب، معتقدة أن القوة هي العنصر الحاسم لإخمادها. وجاءت الحركة الإسلامية، وفي غمرة تطلعها لحكم السودان واستقطاب جماهير المسلمين إلى صف إسلامها السياسي، لتصب النار على الزيت، حتى قبل أن تصل إلى سدة الحكم، بتبنيها لذلك الخطاب الجهادي.
لم تكن منظومة الإسلام السياسي تجهل حقيقة التركيبة الثقافية والعرقية والدينية للسودان، ولكنها في سبيل الوصول إلى غاياتها الدنيوية –التي لن تتحقق إلاَّ بالسير على جسد تلك التركيبة- لم يكن أمامها إلاَّ إرتداء ذلك الثوب الديني الذي اعتقدت أنه سيستر تلك الغايات وأن قدسيته ستمنع الوقوف أمامها. ولكنها –بعد إستيلائها على السلطة لم تكن ترى أن كل يوم يمر عليها، وهي تعتلي كرسيه، يرتفع ذلك الثوب لتنكشف عورتها للناس. وساهم في ذلك الفضح استمرار الحرب ليكتشف مناصروها أن حربها لم تكن ضد (الصليبية) ولا من أجل الإسلام، بل هي لدنيا يعملون لها.
في مقابل ذلك وجدت الحركة الشعبية نفسها في وضع أكثر راحة، وهي تواجه هذا الخطاب الجهادي الديني القصير الأجل، بخطاب تعبوي متعدد المستويات كما أشرت في موضع سابق. ساعدها على ذلك انفتاحها على كل القوى السياسية بعد إنقلاب يونيو 1989م وإلتحاقها بركب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يضم أقوى منظومتين دينيتين وقتها، هما الحزب الاتحادي الديمقراطي وطائفته الختمية وحزب الأمة بطائفته الأنصارية.
تلك الخاطرة التي مرت على ذاكرتي الخلفية، قطعها دخول الملازم ثاني "طون أرياي" إلى معتقلنا وتلك الإبتسامة الوادعة وهو يلقي علينا بالتحية قبل أن يدعونا لمرافقته (نحن الأربعة) وسط دهشة كل النزلاء، مواصلة لمسلسل الدهشة المستمر منذ يومين عندما قررت إدارة السجن استقطاع جزء من (تعييناتهم) لشراء ذبيحة لهم بمناسبة عيد الميلاد المجيد وهم –مثلنا- الذين لم يتذوقوا طعماً للحم أو مرق منذ أمد طويل.
يوم مفتوح
ورافقناه حتى مباني رئاسة الاستخبارات حيث قال إنه يوم مفتوح بالنسبة لنا من التاسعة صباحاً وحتى الرابعة عصراً للبقاء في حضرته مؤكداً أنه تفرغ اليوم تماماً للجلوس معنا. رغم محاولة اللعب على خيوط اللامبالاة والاسترخاء طوال الفترة السابقة إلا ان الدهشة أصابتنا في موضع مؤثر، لننتبه إلى أنها المرة الأولى –منذ ترحيلنا إلى سجونها- التي نجلس فيها وجهاً لوجه وبشكل رسمي، رغم الروح الاجتماعية التي حفته، مع مسئول قيادي في الحركة الشعبية. قلت له هذه الملاحظة مستنكراً تعامل قيادات الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية معنا، التي وافق عليها دون تردد.
تحدثنا كثيراً ذلك اليوم وعرج بنا الحديث إلى مرافئ قريبة واخرى بعيدة. ولكن كان واضحاً لنا، ومنذ تجاوزنا مرحلة الدهشة، أننا انتصرنا واخترقنا طوق العزلة وأن المسألة باتت مسألة وقت ليطلق سراحنا، أو على الأقل لنغادر سجن "خور ملح".
تحدث الملازم "طون" طويلاً مبدياً تعاطفاً واضحاً مع قضيتنا، مؤكداً أن لا مبرر مطلقاً لوجودنا في هذا الوضع. رغم كل ذلك لم يخرج كثيراً عن منهج الحركة في الاستقطاب الذي تراوح بين محاولات تهديدنا وترغيبنا لكيما ننخرط في صفوفها. تهديدنا بالتأكيد على ربط خروجنا من السجن بإنضمامنا إلى الحركة الشعبية أو غيرها من التنظيمات السياسية في الجبهة الشرقية، سوى التحالف الذي لم يعد له وجود (لا في الجبهة الشرقية ولا في كل السودان كما ظلوا يرددون). وترغيبنا بالمواقع القيادية التي يمكن أن نتبوأها إذا ما وافقنا على الدخول في الحركة الشعبية.
واحتفلنا مع قيادة الحركة "بخور ملح" الذين تجمعوا في تلك المناسبة في مكتب الاستخبارات بكريسماس بطعم الجنوب ورائحة وديان الشرق، إلى الرابعة مساءاً، بعدها عدنا إلى مواقعنا داخل السور لنحتفي مع بقية النزلاء بأمسية لا تشبه أمسيات الحياة في سجون الحركة الشعبية.
”جلدة تاسعة عشر“
السيد رئيس الحركة الشعبية...
المشهد القبلي للحركة الشعبية، والذي ينحو إلى مزالق التقوقع، يبدو واضحاً في ردهات سجن ”خور ملح”، تماماً مثلما سطع بروزاً في سجن ”ربدة“. ويمكن أن يعزو أي مراقب -غير لصيق- ذلك إلى نفسية نزلاء السجون، وتذمرهم من الوضع الذي يعيشونه، وإحساسهم الدائم بأنهم مظلومون، وتضخيمهم لملاحظات بسيطة لتبدو قضايا كبيرة.. ولكن هذا المشهد المتكرر سيشكل عقبة كبيرة أمام الحركة الشعبية، إذ لا يزال أبناء الاستوائية –في كل سجونها بالجبهة الشرقية، على الأقل- ينتظرون عودة القائد ”توماس سريليو“ ابن الاستوائية، حيث لا يثقون في غيره من قيادات المنطقة المنتمين إلى قبيلة الدينكا!
غياب القائد ”توماس“ أشعر الاستوائيين باليتم، داخل صفوف الجيش الشعبي بتلك الجبهة، وذلك دفع نوازع التمرد داخلهم على الهيمنة القبلية للدينكا على مفاصل الحركة إلى أعلى مستوياتها.. وعندما كتبت في موضع سابق أن تكليف القائد ”توماس“ جاء تلبية لوضع قبلي، بعد انخراط أعداد مقدرة من الاستوائيين في صفوف الجيش الشعبي إثر سيطرته على مناطق واسعة في ذلك الإقليم، ومن ثم ترحيلهم للجبهة الشرقية، فإن تلك الملاحظة جاءت من كثرة ما سمعته من بعض أبناء الاستوائية حول تمرد المستقبل الذي سيقوم به الاستوائيون على هيمنة الدينكا..!! وقد استصحب ذلك الحديث سردٌ طويل لصور تلك الهيمنة، آخرها تصورهم لأن قبيلة الدينكا، وعبر الحركة الشعبية، تسعى للهيمنة على الإقليم الاستوائي سياسياً واقتصادياً وثقافياً..!! وهم ينظرون بعين الشك لأي قرارات تصدر عن قيادة الحركة الشعبية بخصوص المنطقة الاستوائية، على المستوى الإداري، ويعتبرونها مؤامرة تحاك ضدهم، وليس في مصلحتهم.. فالاستوائيون يعتقدون أنهم رواد الكفاح المسلح في الجنوب، فهم من احتضن الأنيانيا الأولى، فيما انضم إليها الدينكا في وقت متأخر، والآن انقلب المشهد.
عزلة قبلية
إذا وجد الاستوائيون من يلوذون به، أو بانتظار قدومه، لترتفع روحهم المعنوية، ويحسون بأن هناك من يحس بهم حتى وهم بين أسوار السجن، فإن الكثيرين، غير أبناء الدينكا، يحسون بغربة ما تطفح بها وجوههم.. فحتى قياداتهم الوسيطة –على قلتها- يحسونها مشغولة بترسيخ أقدامها وسط الموج البشري الدينكاوي الطاغي.. وأما القبائل خارج نطاق الإقليم الجنوبي، وبرغم الثقل المناطقي الذي يمثلونه، إلاَّ أن الجبهة الشرقية كشفت تماماً عن عزلتهم داخل أروقة الحركة الشعبية خارج مناطقهم.. فالجبهة الشرقية لا تمثل مركز ثقل داخل الحراك القبلي في الحركة الشعبية، مثل مناطق كجبال النوبة، والنيل الأزرق، وجعل منها هذا الوضع مختبراً عملياً للتفاعل القبلي، خاصة بعد فشل فكرة مشروع ”لواء السودان الجديد“، تلك التي أريد بها العبور على جسر ذلك المأزق. وها هي منطقة ”ربدة“، مركز قيادة الحركة الشعبية في الجبهة الشرقية، تتوزع قبلياً.. فأبناء دارفور، المنضوون تحت لواءها، يتخذون ركناً قصياً يضمهم.. وأبناء جبال النوبة يلوذون بموقع آخر، أو برئاسة الرائد ”أحمد بلقا“ قبل تنفيذ نقله إلى منطقة جبال النوبة.. وهكذا تحولت رئاستها إلى قلاع تبرز التقوقع القبلي.. أسهل الملاذات في فضاءاتٍ تفتقر إلى روح الطمأنينة.
لكن أبناء الدينكا، القبيلة المهيمنة على مفاصل القيادة، على كافة مستوياتها داخل الحركة الشعبية، أيضاً هم ”خشم بيوت“، ودرجات في سلم الوجاهة والمنظرة داخلها.. فـ”دينكا بور“ ليسو كما ”دينكا قوقريال“.. و”دينكا أويل“ غير ”دينكا أبيي“.. فالحساب هنا حساب كم من أفراد ”خشم البيت“ هذا أكثر من ذاك، ومدى قربه من ”خشم بيت“ القيادات العليا من القبيلة..؟؟
إذا كانت البنية العسكرية للحركة الشعبية هي القادرة على ضبط إيقاع الواقع القبلي داخلها، والتحكم فيه، فإنها هي بنفسها –البنية العسكرية- التي ستقود في خاتمة المطاف إلى إبراز الأزمة إلى السطح، وبصورة أكثر دموية.. فالتعقيدات التي يستصحبها ذلك المشهد أقوى تأثيراً من محاولات تجاوزها بمفردات ورؤى لا تخاطب خصائصه، وتنفذ إلى معادلات تداعياته على حركة من أولى مهامها السياسية هي بناء السودان، وتحقيق وحدته على أسس جديدة.
أول ما ستفرزه المرحلة القادمة، بعد التوقيع والبدء في إنفاذ اتفاق السلام، والذي سيمنح الحركة الشعبية ثقلاً كبيراً -أو بالأحرى كاملاً- من السلطة في الجنوب، إضافة إلى اقتسامها بنسب أقل في الشمال، هو نظرة القبائل الأخرى الداخلة في تركيبة الحركة، ونصيبها في تلك السلطة والثروة، إضافة إلى توقعات بحلول سريعة لمشكلات مستعصية.. ولن ترضى عنها ”اليهود ولا النصارى“ وهي التي صعدت إلى سدة الحكم باسمهم، وبأنهر أريقت من دمائهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق