"جلدة حادية عشرة"
بالرغم من أنها بثت حزم من الهالات البراقة حول محيطها منعت الاخرين من رؤيتها بوضوح، ظلت الحركة الشعبية لتحرير السودان تلتف حول نفسها وتراوغ حقيقة عدم قدرتها على الخروج من شرك ممارسات السودان القديم.
إذا كنت قد ذكرت في وقت سابق أن ما يميز جديد السودان من قديمه هو مجموع منهج وسلوك وممارسة تقود إلى تنزيل الرؤى والأفكار واقعاً مرئياً لا أن تظل مجرد شعارات تتنازعها الريح فنضطر إلى ثقب القماش الذي خطت عليه، فإن الحركة الشعبية بتبنيها المطلق لدعوة السودان الجديد وبنائه وإستفار مجهوداتها وقدراتها من أجل ذلك، بل وذهابها إلى إطلاق إسم السودان الجديد على المناطق التي سيطرت عليها، منحتني –كما منحت غيري- حق رؤيتها من خلال هذا (الزوووم) ومقاربة ما تدعيه مع واقع الأمر، ومدى مفارقتها للسودان القديم منهجاً وممارسة.
تعب السودان والسودانيون حقاً من منهج السودان القديم وممارساته، وظلوا يتطلعون إلى مَن ينتشلهم مِن وطأته، حتى أن جدتي أمد الله في أيامها "التي لا ترى في الوجود سوى صورة السيد علي بعد أن إنتقل إلى بارئه" سئمت من ذلك المنهج وتلك الممارسات حتى قالت لي مرة كما أخطر محلل سياسي: "ليأتي جون قرنق ونجرب حكمه .. فقد جربنا السودانيين من كل لون ولم يتبق لنا سوى جون قرنق فربما يكون عنده الدواء لهذا الداء (الإسمو) الحكومة".
"ليأت جون قرنق وليحكم" ولكن كيف؟! هذه "الكيف" رددتها الألسن كثيراً ودبَّجت بها المقالات والدساتير والمواثيق والآن الاتفاقيات التي فرضها إختلال القوى لدى كل الأطراف وتم وزنها بقوة الضغط الدولي. ولكنها تظل مربط الفرس والدواء الذي تقول به جدتي. كما تظل الإختبار العملي الذي تكبو عنده كل الجياد. ولإرتباطها الوثيق بجملة مفاهيم متعلقة بها وتركيبة معادلات لا تحتمل التهاون في نسب عناصرها، بقيت (هذه الكيف) معضلة كبرى عند ممارسة الحكم، في السودان الغني بالتنوع والتعدد، عملياً تحت ظل مفاهيم لا تستوعب ذلك التنوع والتعدد ومعادلات مختلة نسب عناصرها. وهو ما قاد إلى "اندماجنا عيانياً متزايداً في ممارسات دولة تعبر حتى أدق التفاصيل عن علاقتها مع مصالح خاصة محددة"، كما يقول نيكولاس بولانتزاس في كتابه نظرية الدولة.
إن "الكيف" يبدأ –سيدي رئيس الحركة الشعبية- كما تعلمون، من عوامل داخلية تتعلق بالتطور الذاتي للسلطة الحاكمة وعلاقتها بجهاز الدولة وكيفية توجيهه وإدارته وتتعلق قبل ذلك بذلك الجهاز وماهية تركيبته والدستور الذي تراضى عليه الجميع ليحدد العلاقة بينهم وبينه. فهي إما دولة مقعدة تأتي سلطة ما (بأي صورة إنقلابية أو ديمقراطية مع العلم أن الديمقراطية كنظام حكم لاتتسق مع الدولة المقعدة) لتوجه عجلة مقعدها عبر طرقاتها لبلوغ غايات ومصالح محددة. أو دولة فاعلة اتفق الجميع على الدستور الذي يحكمها ويحكم العلاقة بينهم وبين أجهزتها؛ وفي حالتنا دستور يستوعب السودان أرضاً والسودانيين بشراً.
فإذا وصفنا الدولة السودانية منذ الاستقلال وصنَّفناها بأنها مقعدة، فقد أدى بها قادتها إلى ذلك. أدوا بها إلى أن تظل كسيحة حتى يسهل قيادة مقعدها، لعجزهم عن الإيفاء بإلتزامات القيادة وأهمها التواضع على خدمة الجماهير والعمل على تحقيق طموحاتها، ولإختيارهم الحلول التي تخدم مصالحهم الحزبية والتي تقود إلى تحقيق مصالحهم الخاصة وإرضاء نزعاتهم الذاتية.
أس الداء
إن أس الداء هو في إدعاء الديمقراطية، وأنجع دواء لحالتنا (السودانية) هو الديمقراطية، ولكن لها شروطها التي لا نقدر على الإلتزام بها إلاَّ إذا ما تنازلنا عن كثير من الذاتية التي تتحكم في دواخلنا وتحكم تطلعاتنا. وستظل تلك عقدتنا الكبرى (أي الديمقراطية) طالما ارتبطت بتحقيق مصالحنا الخاصة، أو مارسناها بمفهوم (عليَّ وعلى أعدائي). ولا تزال مسألة الديمقراطية، وستظل، تمثل كبوة منظوماتنا السياسية التي وصلت إلى السلطة والتي لم تصل إليها فدائماً ما تنكفئ جيادهم على وجوهها عند أول منعطف. فهي معنية أولاً بالتربية.. نعم بالتربية التي يلعب فيها البيت دوراً كبيراً ومفتاحياً ففاقد الشيء لا يعطيه. وهي كذلك معنية بمناهجنا التعليمية من مراحل ما قبل التعليم الإلزامي وحتى مراحل التعليم العالي (ولنراجع في هذا الصدد مناهجنا التعليمية منذ الاستقلال وإلى دولة المشروع الحضاري). كلها مبنية على قيم مطلقة مثل حب الخير والتسامح ومساعدة الضعيف، ولكنها لا تقود إلى تحقيق قيم محددة مثل الاعتراف بالآخر وحقوقه ولا على قواعد الديمقراطية وكيفية ممارستها. فها هي جامعاتنا لا يكاد يمر عام أو شهر حتى ترى (سيخها) و(ملتوفها) متطاير في أركان النقاش. ليس هذا بذبنهم، فقد تربوا على ذلك (إما معي أنت، أو مع عدوي إن لم تكن عدوي).
الحديث عن بنية منظوماتنا السياسية وعلاقتها بالممارسة الديمقراطية –برغم كل تلك الديباجات التي تسطرها في وثائقها المعلنة- يكشف مدى ورطتها حتى أخمص قدميها في ترسيخ النزعات الشمولية. فقيادتها بين الإيديولوجية والطائفية تنزع إلى الأبدية، وتصدر ما تصدر من الفرمانات المؤقتة (بسبب الظروف الطارئة المستمرة) ما تصدر من أجل تقنين وضعها الأبدي، وتعمل على إزاحة السلم من أمام كل من يحاول الصعود إلى أعلى بشتى السبل والحيل.
هي منظومات تفتقر أصلاً إلى (مواعين) واسعة تستطيع عضويتها أن تمارس حقوقها، التي تكفلها لها تلك الديباجات والوثائق، من خلالها. فالبنية التنظيمة لتلك المنظومات غير مؤهلة لاستيعاب الممارسة الديمقراطية الحقَّة. فهي بنيات جامدة لا تتفاعل مع الحراك الاجتماعي المتزايد ولا الوعي السياسي المتنامي مما يقود في النهاية إلى تلك الإنشطارات باسم الديمقراطية. وكما يقولون –ما بني على خطأ حتماً يقود إلى الخطأ، فإن التضييق على الممارسة الديمقراطية الداخلية لتلك المنظومات يقود حتماً إلى تفجر الصراعات الداخلية، وربما تتبنى بعض القيادات –تحت دعاوى الديمقراطية التي تفتقر إليها أصلاً- وباسم الديمقراطية قيادة تلك الصراعات والانشطارات.
تبدو أبرز تجليات سوء الممارسة الديمقراطية في عدم إحترام الآخر ورأيه، فما أن يخالف أحد الزعيم في الرأي حتى تنبري له أسنة بطانته وقبلها تنبري لها مقدرات الزعيم نفسه في إظهار قدراته على هزيمة من يخالفه الرأي بكافة الوسائل هذا إذا فشل في قمعها أصلاً بقدرات مؤسسته الحزبية الخاصة. ففي ظل إنعدام تلك المواعين التنظيمية التي يستطيع ذلك الآخر التعبير من خلالها عن رأيه تبرز مساوئ استخدام عصا الديمقراطية، فللزعيم عصاته التي يستخدمها ولصاحب الرأي المخالف عصاته وكلاهما ذات رؤؤس (نووية) متعددة، فأما الزعيم فيستخدم الديمقراطية الزائفة التي توفرها له الأغلبية المؤيدة، أما الآخر فأبسط ما يفعله هو خروجه عن المؤسسية رغم أن بنيتها غير مؤهلة لاستيعاب مثل (ترهاته تلك) ولكنه ارتضاها وربما ساهم بشكل مباشر في التأسيس لها.
ها هي الحركة الشعبية تربي قادتها وأفرادها –وحتى سياسييها- على ذات المنهج –بإرادة منها أو دون- مما يوقعها في شرك ممارسات السودان القديم. فهي في إطار كفاحها المسلح الدؤوب ضد السلطة الحاكمة تجاهلت إلتزاماتها تجاه ما رفعته من شعارات خاصة فيما يتعلق بقضايا الهامش بعد أن أصبح لها هامشها الذي يدور في فلك مركزها الداخلي. كما وأن بنيتها التنظيمية، التي تحدثت عنها في وقت سابق، التي رغم أنها حملت داخلها نظامها السلطوي والسياسي والعسكري، إلاَّ أن صوت البندقية كان هو الأعلى مما أدى إلى طغيانه (وطغيانه)، فهي بنية، على ما يتعلق بثوبها من خرق السودان القديم وآثاره السالبة، ليست مؤهلة أصلاً للممارسة الديمقراطية بتركيبتها المدمجة هذه. وهي تركيبة سرعان ما ستظهر تعقيداتها عند محك ممارسة العمل في مرحلة ما بعد تنفيذ اتفاقية السلام.
هناك العديد من تلك المظاهر التي تربط الحركة الشعبية بالسودان القديم كمنهج وسلوك والتي سترد –إضافة لما ورد- بين السطور القادمات. وإذا ما أحسنا الظن في الرؤى والأفكار والبرامج على المستوى النظري، ستظل المعضلة الكبرى في خلق الآليات وتطويرها بما يحقق قدرة مستمرة لإنجازها ما هو مطلوب، وحتى ذلك الحين سيظل التساؤل قائماً والمتمثل في (هذه الكيف؟؟؟).
"جلدة ثانية عشرة"
"مشار أتوير" لا يتجاوز عمره الخمسة وعشرون عاما،ً و"شارلس أنتيباس" ربما بلغ الثلاثين من عمره أو تجاوزها بقليل، وهما من الضباط الصغار في الجيش الشعبي لتحرير السودان، سيمثلان وجهاً مشرقاً للحركة الشعبية مرحلة ما بعد الحرب، مثلهما مثل العديد من الأفراد الذين يشعرون بأن هناك خطأ ما يتجول بين جنبات إطار الصورة المشرقة التي يعيشون داخلها.
ومعظم هؤلاء التحق بمدارس في مدن شمال السودان أو عمل في الجيش السوداني وتجول -أثناء فترة خدمته- في مناطق عديدة من السودان، فساهموا أثناء ذلك في تمديد عرى الأواصر السودانية السودانية رغم كل محاولات التشكيك الذي تصاعدت نبرته في مرحلة ما. وغيرهم ممن لم تتح لهم الظروف الاحتكاك بالشمال ولكنهم استطاعوا تكوين قاعدة نفسانية من خلال معرفة استقوها من إختلاطهم بالشماليين في مناطقهم تؤهلهم لتجاوز كل تداعيات الظلامات التاريخية. فقد إنتهى عصر (شراء الدجاجة بقرش وبيع ريشها بخمسة قروش)، بعد مرحلة طويلة من النضال جنوباً وشمالاً واكتساب مزيدٍ من الوعي بالحقوق، خاصة عندما اكتشف الجميع أن تلك الظلامات تتمظهر بأشكال مختلفة في مختلف أنحاء السودان. وما العبارة الصادقة التي أطلقها أحد مقاتلي الجيش الشعبي الذي أتي لأول مرة إلى الجبهة الشرقية، وهو يرى تلك الأراضي القاحلة والحياة التي يكسوها الجفاف في شرق السودان، قائلاً :"والله د. جون ده جابنا لي بلد قديم خلاص". إلاَّ تعبير صارخ عن فداحة الظلم الذي يتعرض له السودان من أبنائه المهمِلين.
ربطتني علاقة وطيدة مع "مشار أتوير" و"شارلس أنتيباس" وغيرهما، خاصة أثناء فترة عملي في مقر المكتب التنفيذي للتجمع الوطني الديمقراطي. فقد كان "مشار" ضمن طاقم حراسة الشخصيات المهمة في الحركة أثناء زياراتها للجبهة الشرقية وهو بالضرورة ضمن طاقم حراسة شخصكم، أما "شارلس" فكان ضمن الطاقم الخاص بالقائد باقان أموم المنسق العسكري للجبهة والأمين العام للتجمع. وبالتأكيد أنهما تميزا بصفات إيجابية أهلتهما لهذه المواقع المهمة، فغير أنهما يتمتعان بمستوى تعليمي جيد فقد كانا منضبطين إنضباطاً عالياً.
فوجئت بوجود "مشار" ضمن المتحفظ عليهم في سجن "ربدة" فقط لأنه على خلاف مع أحد القادة من ذوي الرتب الأعلى، ليبقى في السجن فترة طويلة فقط (من أجل التشفي وليس من أجل علاج المشكلة بينهما) كما قال لي. حاول "مشار" كسر طوق العزلة الذي ضربته حولنا إدراة السجن بأوامر من جهاز الحركة الاستخباري التي منعت زيارة معارفنا لنا بطريقة رسمية. بل ذهب إلى أكثر من ذلك بتقديمه مساعدات عينية لنا تمثلت في توفير قطع من الصابون وبعض الاحتياجات التي طلبناها منه رغم انف تلك الأوامر (تلك المساعدات العينية التي كنا نتوقعها من قيادة الحركة في الجبهة وبصفة رسمية).
تأكدت لي أوامر الجهاز الاستخباراتي بمنع زيارتنا عندما أرسل لي "شارلس" عبر أحد السجناء من الضباط المسموح لهم بمساحة من التحرك خارج السور الشوكي، أرسل لي يعبر عن رغبته في زيارتنا وأنه قد تقدم بطلب بذلك لإدارة السجن وينتظر ردها. ويبدو أنه إنتظر (جودو) طويلاً، فلم يأت كما وعد بل التقيناه مرة خلال رحلاتنا اليومية بين البئر والسجن ليعبر لنا بصدق عن تضامنه وتضامن الكثيرين معنا وأنهم يعتقدون أن ما يحدث لنا هو ظلم كبير وأنه يأسف لأنه فشل في إقناع قادته بتغيير وضعنا على الأقل إلى وضع أفضل. "شارلس" و"مشار" يعلمان علاقتي بالحركة الشعبية وحجم المساعدات التي قدمتها للجيش الشعبي –حسب قدراتي- في تلك الفترة، لذلك كانا الأكثر إندهاشاً من موقف قيادتهما، ومن الوضع الذي نحن فيه.
استشرت موجة التضامن معنا بشكل واسع وسط ضباط وأفراد الجيش الشعبي في الجبهة الشرقية وهم يروننا كل يوم في رواحنا وغدونا، ويلمسون صلابة موقفنا بعد أن تكشفت الأسباب الحقيقية وراء إعتقالنا، وانعكس ذلك التضامن سلباً على موقف القيادة بعد أن خلق عنصر ضغط مؤثر داخل مجالس السمر وفي الاجتماعات الرسمية خاصة في ظل الضعف الذي اعترى القيادة في تلك الفترة والذي تجلت مظاهره في استخدام السلاح ضد الرتب الأعلى واستخدام القنابل اليدوية "القرنيت" في مباني الإدارات، وكل تلك الحالات تأتينا داخل السور الشوكي. وذلك الضعف نتيجة لأن القيادات التي وجدت نفسها في قمة الجبهة بعد الغياب الطويل للقيادة الفعلية من المنطقة، لم تكن مؤهلة كفاية للإضطلاع بتلك المسئوليات الجسام التي تواجهها، خاصة وأن الجبهة كانت تتأهب لمرحلة إعادة التنظيم لمقابلة مهام ما بعد التوقيع على اتفاق السلام، وكان الجميع في انتظار اللجنة القيادية العليا وقائد الجبهة المكلف للقيام بتلك المهمة.
أدى هذا التضامن وتعالي صوت الاستنكار هنا وهناك، إضافة لمجالس القوى السياسية الأخرى التي كانت أصواتها تصل إلى قيادة الحركة، إضافة إلى رغبتها في ممارسة مزيد من الضغط علينا، كلها أدت إلى أن تضطر القيادة للتفكير في تغيير وضعنا أو تغيير مكان وجودنا، قادها ذلك إلى تنفيذ قرارها المؤجل بترحيلنا من سجن "ربدة" إلى سجن "خور ملح".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق