تبخرت فكرة الذهاب إلى المحامي. سذاجة الفكرة، أو بالأحرى سذاجة الوضع هو ما جعلها تتلاشى قبل تمكنها مني. ازدياد التعقيدات التي لازمتني أطفأت نهائيا تلك الخطرفات في نفسي. مواجهة الواقع بطريقة أكثر فعالية هو المطلوب. ولكن، أين الإرادة والروح وأنا منذ ذهابي إلى الإدارة لمتابعة إجراءات المعاش والتمزق داخلي اتسعت رقعته لدرجة الألم العضوي.
اجتزت بوابة السجن قاصداً مكاتب الإدارة ومهيئاً نفسي لاستقبال حار يطفئ ما علق بي من غل، ويمسح بعض عوالق الأسى. أتخيل الارتباك لوجودي وهم يظهرون تفاعلهم تجاه قضيتي. سأكون موضع حفاوة وأخلق جملة تأثر وسطهم تزيد من قيمة وجودي.
بعض البرود في تحية حارس البوابة الرئيسية أجفلني، وكم من الإحباط وقف وسط حلقي. التحية ليست كسابقاتها، حتى الألقاب ابتلعها وهو يرد على تحيتي التي حسبتها ستحرك بعض مشاعر فيه. لم يكترث، بل ناداني بأحمد الخال وهو يستقبلني. وجدت له العذر وأنا أراه يتثاءب، ربما جفاه النوم مثلي. لكنهم جميعاً يتثاءبون في الفترة الأخيرة.. متعبون بلا سبب واضح.
تحسرتُ لذكرى «أيام زمان» قبل أن أترك الحارس ورائي وأنا متقدم إلى الداخل. الأصول هي أن يقف ويحييني في أدب وباحترام لمجرد مروري أمامه. أما اليوم فحتى قبعته لم يرفعها، بل تركها في إهمال. لا يهم، فهم لا أمان لهم، يغدرون متي ما وجدوا الفرصة.. سأكون بين جماعتي وأصدقائي بعد قليل.
أول من استقبلني، كانت سوسن. لم أتوقع وجودها. ترى ماذا جري لها؟ لكن نظراتها تقول بأنها صارت أقوي مما كانت. رأيت إرادة غير عادية في هذه الهيفاء. عكسي تماما، فهي كلما واجهت محنة صارت إلى الأقوى.. إرادتها متينة لا ثقوب فيها. اطمأن قلبي وهي مقبلة نحوي ووجهها البشوش يشجعني على الاندفاع. تلهفت نفسي إلى احتضانها، لكنني سيطرت علي رغبة كهذه.. «ما هذا الذي تفعله أيها العجوز؟».. أحتاج إلى صدر يغمرني بالدفء، لا أكثر.. شدَّت على يدي في حرارة وهي تصافحني، ثم قالت في سرور:
- كنت سأزورك في البيت لولا الظروف.
قلت في تفاؤل:
- تشرفي في أي وقت.
ثم واصلت قائلاً:
- على الأقل ستتعرفين على ابني محمد.
تساءلت في فرح:
- وهل عاد؟
هززت رأسي بالإيجاب وأنا أسالها عن أحوالها وما جري لها.
- يريدون «تخويفي».. لا أدرى كيف وصل حديثي إلى المدير وأنا أعبر عن استيائي لقرار فصلك والحاج إبراهيم. الغريب في الأمر إنني قلته له عندما فصل الحاج إبراهيم، لكنه اعتبرها حماسة زائدة.
سألتها:
- وما الجديد في الأمر حتى ينقل حديثك إليهم؟
- لست أدري.. المهم هو موقف سخيف وانتهي بسلام.
كنت على يقين أن لها «ظهراً» يحميها لذلك لا تخشى شيئاً. هذا غير قوتها التي أجهل سرها، والتي تشعرني بضعفي وهواني وعدم القدرة على الثبات أمام المواقف الصعبة. هو أول محك كسر مجرى الانسياب الرتيب.
قلت:
- اشتقت للحاج إبراهيم، لم ألاقيه منذ ذلك اليوم اللعين. ترى كيف أحواله؟
- هو هنا منذ الصباح. بدأ في إجراءات استبدال المعاش. سيزوج ابنته قريباً.
- صحيح؟ شئ يبعث على التفاؤل.
قالت في أسى:
- مسكين.. لكن قدرته على التحمل عالية. وجد عملاً في إحدى الناقلات العامة. يقبض الآن أضعاف راتبه السابق. رغم ذلك تحس بالغبن داخله.
- بل محظوظ وسعيد.. يمتلك حق تقرير مصيره.. أما أنا فقد اختل التوازن داخلي لأني لا أجيد شيئاً آخر.
قالت في عنف أزعجني:
- بل تجيد الحلول السهلة وتهرب من الموقف الحادة.. أنت إنسان كبحيرة راكدة، لا تنفعل ولا تتفاعل سوي في إطار عملك الضيق.
وقفت مشدوها أمامها عاجز عن الرد عليها.. بينما تابعت هي بعد فترة صمت قصيرة:
- آسفة يا عم أحمد.. لكني اليوم منفعلة ولا أدري كيف خرجت كلماتي هذه.
قلت مخففاً من حدة الموقف:
- لا عليك، ولكنها الحقيقة أحاول الهروب منها دائماً. لكن لماذا تغيرت هكذا دون مقدمات، أرجو ألاَّ أكون السبب.
- على العكس، وجودك أسعدني كثيراً ولو لم تأت اليوم لحضرت إليك في الدار. لكنه حمد الملك.
- مازال مؤملاً إذاً.
- أنا لا ارفضه لأي اعتبارات أخرى سوي ما اضطررت لقوله له أمس. إن له طبعك.. هارب دائماً من مشاكل الحياة، وأعتقد أن عرضه للزواج بي هروب آخر. لابد من التعامل مع الأشياء بوضوح، فأنا لا ارتبط بشخص سلبي. إن المسائل مرتبطة بدرجة لا فكاك منها.
- وماذا حدث؟
- لقد تغير تجاهي تماماً وهذا ما يزعجني.
استقبلني بقية الزملاء كما يليق بي. وجدت بينهم الحاج إبراهيم.. وكان لقاءاً مؤثراً. ما حمدتُ الله عليه هو عدم وجود المدير الجديد.. صار غريمي دون أن يدري. التفتُ إلى مكتبي السابق بعد طول تردد. وبدأ اللغط المعلوم.. كلٌ يدلي بدلوه في حالتي والكشوفات المتوقعة، ومن عليه الدور.
لا يهمني كل هذا بقدر ما تهمني وحدتي التي أعيشها الآن. هذا الفراغ القاتل الذي شبعت منه خلال ثلاثة أيام، رغم عودة ابني.. بل عودته زادت الموقف حدة. سأتقدم بالتماس إلى الوزير أولاً، وانتظر الرد.. إذا استدعي الأمر سأكتب إلى مدير الجهاز شخصياً أرجوه إعادتي إلى وظيفتي. لا.. لن أرجوه، فهذا حق قانوني سأطالب برده لي مع الاعتبار. ثم ماذا سيقولون عني؟ جبان لا يقوى على تحمل المصاعب؟ لكن ماذا أفعل؟! ماذا؟!
عدت إلى داري وأنا أكثر هماً.. تتقاذفني الأمواج ويصفعني الواقع البغيض ليردني إلى عالمي المخنوق بأصابع القهر. لم أعد أطيق داري.. ها هي حرمنا المصون تلسعني كلماتها بعد اليوم الثاني من مصيبتي وتعيِّرني بالعطالة. صحيح أنا شتمتها وكنت السبب في إثارتها. قالت لي بكل برود وهي تضرب كفا بكف:
- هذا نتيجة العطالة.
وخزتني الكلمة في الأعماق، وشرد تفكيري في اتجاهات شتى. تملكني اليأس وأنا العن حظي العاثر. النوم أفضل وسيلة الآن للهروب، ولكن هل سيأتي؟! أشك في ذلك رغم الإنهاك والتعب.
دخل ابني محمد وأنا محطم لا أقوي على الحراك، كان المساء قد حل. رأيت بعض السعادة تطغي على وجهه. قلت في نفسي.. «اللهم أجْعَلُه خير»..
قال لي متهللاً وصوته ينطق بشراً:
- كسبت اليوم أول ألف جنية يا أبي..
ثم تابع بعد تجميع أنفاسه المتسارعة:
- عملية ليست بالصعوبة التي نتخيلها.
قلت في غموض:
- لكنك ستخسر كثيراً.
- لا تخف.. ليس هنالك ما سيثنيني عن الاستمرار مهما كلف الأمر.
- ألم أقل بأنك ستخسر كثيراً.
طرقٌ على الباب قطع حديثنا، فانتبه محمد قائلاً:
- لقد نسيت.. هناك من ينتظرونك في الخارج.
- ولماذا لا يدخلون؟!
- رفضوا رغم إلحاحي الشديد.
فكرت في من يكونوا. قاومت الكسل والإجهاد متهيئاً لملاقاتهم.. خمسة شبان، أكبرهم لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، يجلس بجوار السائق داخل عربه نصف نقل، أما الثلاثة الآخرين فيجلسون على ظهرها. ترجَّل الجالس بجوار السائق وسألني في لهجة جافة إن كنت أحمد الشهير «بالخال»، وعندما تلقى الرد إيجاباً طلب مني الصعود إلى جواره في العربة، بعد أن أبرز لي بطاقة. تمطت أطراف وجهي متسائلة، لكنه وقف إلى جواري صامتاً مفسحاً لي المجال للتقدم نحو العربة. سألته إن كان بإمكاني العودة لإكمال هندامي – على الأقل حذائي وأضع عمامة على كتفي، لكنه رفض بشدة – اضطربت لها – قائلاً أن لا جدوى من ذلك لأني سأعود بعد قليل.
سارت بنا العربة وتكور في صدري إحساس دافئ بالضيق يتصاعد مع أنفاسي. كلما تقدمت العربة ازداد رأسي سخونة من التفكير. وجدتُ نفسي ممسكاً به خوفاً عليه من التطاير. وهؤلاء صامتون، لم يسعفهم الله ولو بكلمة تخرجني من عزلتي. قررتُ سؤال الجالس على يميني، لكن سرعان ما تبددت الفكرة حين رأيته متكئاً على باب العربة غافياً في هدوء.
العربة تقف أمام مبنى فخم، من تلك المباني التي تبتلع أحلامنا «ريقها» لها، قليل الإضاءة والحركة. جسدي منهك.. دفء ناعم يغطي أمعائي وصدري وأنا أهم بالترجل عن العربة. أتاني أمر بالبقاء داخل العربة في حين دلف أحدهم إلى داخل المبني. أثار دهشتي الباب الخارجي وهو ينفتح أوتوماتيكيا بعد ضغط الداخل على زرار في الحائط.
مرت عشر دقائق وأنا متربص بمن دخل، والقلق يأخذني بعيداً، وعذاب الانتظار والصمت وعدم وضوح الرؤية ينهشني. تماماً كما لم أفهم أسباب فصلي من الخدمة، الآن أيضاً لا افهم كل ما يحدث. الأرقام جعلتني في عداء مع الغموض الذي لا تحتمله طبيعة عملي. وهي طبيعة يجب الولوج إليها مباشرة، لا الالتفاف حولها. لذلك أبدو متوتراً أمام الموضوعات المبهمة وأتجاوزها دائماً.. سأستهلك عقلي وأنا منشغل بها بلا جدوى. هكذا كنت، أما الآن فالمعضلة أكبر من التجاوز. وجودي وسط كل هالات الغموض تلك واقعة مقررة لا يمكن تلافيها. وها أنا الآن مضطرب التفكير، عقلي يغلفه ضباب وروحي «مبلبلة» لا تقوي على الثبات أمام كل هذه الغشاوة التي تكتنفها. وأنا في انغماسي هذا لسعني صوت حاد أمرني بالكف عن النقر بأصابعي على العربة.
مازلت في غمرة الصمت، والذين في الخارج طغت على أصواتهم الهامسة بوادر الضجر والضيق من الانتظار الممل. سألت السائق– الذي لم يبرح مكانه – عن الساعة، وكانت قد تجاوزت السابعة بقليل عند خروجي معهم، ولما أخبرني أنها الثامنة والنصف أصابني وجوم. ساعة كاملة كافية لقطع مسافة بعيدة، خاصة مع اعتبار انسياب الحركة في المساء. أين نحن الآن، وفي أي موقع من مواقع المدينة؟! هنالك مناطق كثيرة من المدينة لم أراها لسبب بسيط – أنني لا أزور سوي المناطق التي اضطر لزيارتها. التجوال صار ترفاً زائداً يبدد كثيراً من الجهد والمال. كثيراً ما رغبت في زيارة بعض الأهل الذين لم يختاروا سوي أماكن بعيدة ليسكنوا فيها. أجد نفسي واقفاً عند محطة البص، وأحسبها بعد ذلك، هذا الزحام الذي لا يطاق، ورائحة الأجساد التي تزكم الأنوف على مدي ساعة أو أكثر.. لا.. لا.. إنها مسألة فوق طاقتي. أعود راجعاً مؤثراً السلامة وممنياً نفسي بفرصة أفضل، وليتها تأتي.
كنت أقول بأنني لا أعرف كثيراً من الأحياء والمناطق في المدينة، إلا تلك التي أنا مجبر على زيارتها. أنا الآن في منطقة من تلك المناطق التي لا أعرفها. ملامحها لا تنتمي إلى عالمنا.. تدل على الثراء والإثارة بهدوئها واتساع طرقاتها التي تراصت على أطرافها لمبات ينبعث منها ضوء باهت يوحي بالخذلان والاسترخاء. حاولت جهدي التعرف على ملامحها.. ضاعت جهودي سدى. فقط ساعدتني هذه الانطلاقة في قطع وقت كان سينهشني فيه التفكير والانتظار المقيت.
ومن بين خيوط الضوء الواهن بدت ظلال ملامح الشخص المنتظر. حمدتُ الله حمداً كثيراً على نهاية عذابي، فبوصوله ستتضح الرؤية، وتنـزاح الغشاوة والغموض، وأرتاح بعد طول عناء وشقاء. أخذت ظلال الملامح بعداً أكثر وضوحاً بعد اجتيازه البوابة خارجاً. ازداد صدري اتساعاً بتنسم نفحة هواء باردة من اتجاه معاكس تحركت لها أوراق الأشجار الغارقة في العتمة داخل أسوار المبني.
وليته لم يصل.. إذ استغرقتني الدوامة مرة أخرى وهو يأمر البقية بالصعود إلى العربة. قال للسائق – الذي أدار المحرك - أن عليهم التوجه إلي هناك.
قلت لا إرادياً وبنبرة أقرب إلى الهمس، مليئة بالشك والريبة:
- هناك إلى أين؟؟
لم يُجِبني أحد كالعادة.. ثم أن سؤالي يبدو غبياً.. فهل أنا أدري «هنا» لأعلم «هناك»؟! ابتلعتُ غيظي ولزمت الصمت.. لحسن الحظ - أم لسوئه لست أدري - لكن «هناك» لا تبعد عن «هنا» كثيراً.. وقوف العربة أنبأني بذلك، وأمر زعيمهم لي بالترجل أكَّده لي. ذات مواصفات البناية السابقة، غير أن هذه تتطاول عليها قليلاً في البنيان. إضاءتها تفوق السابقة وهو ما يوحي بكثرة التواجد والحركة. وقفنا جميعا – وهم حولي – أمام البوابة الحديدية ذات القضبان المدببة الحادة من أعلى. ضغط أحدهم على زرار في الحائط. لم تمض ثوان حتى انبعث ضوء قوي من أعلى جنبات البوابة. أغمضت عيني، وأنا أفتحهما.. انفلقت أمامي البوابة إلى شطرين لتتسع الفجوة بينهما ويستند كل شطر منهما إلى الحائط الذي تقوم عليه ركائز. امتد أمام المدخل ممر من الحصى إلى الداخل في عرض البوابة طوله حوالي العشرة أمتار. ولأنني انتعل حذائي المنزلي أحسستُ بالبرودة في حواف قدمي، مما جعلها لزجة يمكنها الانزلاق.
ونحن نتجاوز أولي عتبات السلم صاعدون إلى أعلى بعد نهاية الممر، انفتح الباب الصغير المفضي إلى داخل البناية محدثاً صريراً مكتوماً. إن هو إلا سحر مبين.. طافت هذه الجملة بخاطري وأنا أرى كل الأبواب تفتح أوتوماتيكيا، لا حاجة إلى مفتاح. وفكّرتُ في ما لو كنت وحدي القادم، هل ستنفتح هذه الأبواب أمامي، أم الأمر يحتاج إلى جواز مرور يسمح بالدخول لمن يرغبون فيهم لأسباب مختلفة. وكأنه حلم.. هو حلم بالتأكيد هذا العالم الذي أتوسطه الآن.. لم أتوقع يوماً وجودي داخله، ولا وجوده بيننا.. حزمة دهشة ممتلئة أرغمتني على تناسي وضعي، وحلَّقتُ متسلقاً دهشتي في عالم خاص جداً، رغم هشاشته تملكتني نوازع التمسك والتوغل بين أزقته. إنما دوام الحال من المحال.. سقطتُ متحسساً أطراف أحلامي الهاربة إثر صوت يخاطبني.. صوت يخاطبني وسط الصمت، أيقظ داخلي دوافع الحذر والارتباك.. ارتد إلىَّ عقلي الواعي وليته ما ارتد، فها هي وجوه كثيرة اختلطت فيها ملامح كثيرة أخرى.. فقدتُ القدرة على التركيز والاستيعاب مع كثافة الحركة والانتقال.. كل هذا الصمت يغلي.. واختلط مرافقي بالآخرين، فيما عدا زعيمهم الذي ما يزال يرشدني، أو هو يقتادني.. إلى أين؟! هذا ما سأعرفه بعد قليل بالتأكيد!!
لم نتوقف عند الطابق الأرضي، إنما اخترقنا كل الصخب الأرضي صاعدين إلى أعلى. عند بلوغنا الطابق الأول، عرج بي قائدي إلى غرفة مضيئة يجلس بجوار مدخلها أحد الشبان. ليس هذا الطابق كسابقه، فهو مُكتَسٍ بالوجوم، والحركة فيه تكاد تنعدم. كل الغرف مغلقة، بعضها مضاء وقليل منها مظلم. ولكن هنالك حركة غير عادية في الداخل لم أتبينها. تجاوزنا الشاب الجالس – الذي ما أن رآنا حتى هب واقفا يلقي بتحية عسكرية، انحنيت قليلاً لتحيته كما كنت أفعل مع حارس بوابة السجن عندما يحييني بطريقته الخاصة.. هي الآن ليست موجهة لي، ورغم ذلك انحنيت.. شئ في نفسي أرغمني على ذلك وبآلية تامة.. تذكرتُ السجن وسوسن والحاج إبراهيم.
أنا الآن أمام مكتب أنيق عليه عدة ملفات وعلبة دعائية لإحدى شركات الاستثمار الحديثة الظهور، عليها بعض الأقلام مختلفة الأشكال. وعلى طرفه الآخر تليفون وبجوارهما جهاز لاسلكي. وعلى امتداد المكتب شاشة تلفزيون أعطتني ظهرها. وخلف المكتب امتدت أرفف مليئة بالملفات، فقط ملفات لا غير.. نسيتُ جهاز التكييف الذي انتعشت بهوائه البارد.. هذا كل ما في الغرفة.. لا وجود لشيء آخر، سوي شاب في الثلاثين من عمره - أو هكذا خمَّنتُ - يجلس خلف المكتب. ناعم البشرة، مُنْعَم فيما يبدو، أو حديث نعمة.. حضرة الرائد – هذا ما فهمته من قائدي وهو يحييه.
نظر إلي حضرة الرائد نصف نظرة وهو منكفئ على قراءة أوراق من الملف الذي استلمه قبل لحظات من قائدي، الذي انتهت مهمته عند هذا الحد. وبقينا لوحدنا. جُلْتُ ببصري في أرجاء الغرفة بحثاً عن شئ ما يشغلني لحين بداية السيد تحقيقه معي. هو متعمد لإثارتي بتجاهله لي حتى أنه لم يطلب مني الجلوس حتى الآن. جلستُ دون إذن متوقعاً رد فعل ما يكون فاتحة تذيب الصمت. قابل فعلي ببرود، ولم يُعِر الأمر التفاتاً بشكل استفزني حقيقة. لجأتُ إلى التجوال بنظري في أرجاء الغرفة.. «هل سأجد على الحائط صورته كما تفعل كل دواوين الحكومة»؟! تُرى لماذا لا يضعونها؟؟ وشغلتُ نفسي بالبحث عن إجابة منطقية مستعرضاً كل الإجابات الممكنة.
رغم محاولاتي الجادة في تجاهل موقفي الراهن، وجدتني اختلس النظرات إليه في توتر. أخيرا سينطق، هذا ما تدل عليه تعبيرات وجهه. ها هو يقطب جبينه وتتحرك شفتاه:
- هل أنت أحمد الخال؟
وجهه يبدو غبياً وهو يطرح هذا السؤال – لأنه يعلم ذلك – فأجبته في استغراب واقتضاب:
- نعـم.
وتوقعتُ سؤالاً آخر يُشفي غليل التوتر داخلي، لكنه صمت وبدأ في ممارسة لعبته السابقة. امتد الوقت طويلاً، لا صوت سوى حفيف الأوراق تحت يديه. ضغط على زرار بالحائط.. دخل الحارس متكاسلاً.. قال الرائد ورعشة حاول إخفاءها سيطرت على شفتيه:
- دعوه يرتاح معنا الليلة.
رعشته تلك شجّعتني لأتساءل عن سبب استضافتي معهم الليلة– واستضافتي هذه تخفيفاً لوقع الأمر على نفسي. لكنه تجاهلني بينما الحارس واقف إلى جواري في انتظار تحركي.
صفاء الذهن هنا وفي هذا الظرف مرعب جداً. أقول صفاء الذهن وأنا مستلق في استرخاء من معاناة أيام حسبتها دهراً. ذلك بعد سماعي لصوت الباب وهو يغلق خلفي، واستقراري في غرفة مظلمة. اكتشفتُ أنها جرداء أثناء محاولاتي العثور على مقعد أو سرير ألقي بحملي عليه. لا توجد سوى نافذة مغلقة يتسرب ضوء باهت من خلالها. حاولتُ فتحها متردداً، لكني آثرت السلامة وأنا ما زالت في عداد الضيوف.
لم أجد بداً من الاستلقاء أرضاً. إحساسي بالوحدة تزايد، وهذا ما أخشاه. متي ما انفردتُ بنفسي، تسيطر على معاناة شديدة من جراء تلاطم الصور داخلي. والآن لا أتوقع من أحد أن ينتشلني مما سيحدث حتى الصباح على الأقل. أما أن يكون ذهني بهذه الدرجة من الصفاء، فهو ما يثير رعبي الآن. وأنا مغمض العنينين – كأنني على ارتفاع من الأرض – خدرٌ لذيذ يتسلل إلى أطرافي. قفزتُ كعصفور مذعور أشك فيما يجري حولي. وقررتُ عدم الاستسلام للنوم والذي أحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضي.
سأشغل نفسي لتجاهل هذا الوضع المتعب، هذا ما فكرت فيه. أفضل وسيلة هي التصنت. ربما اسمع ما يدور في الخارج. طرق أذني صوت عربة.. الصوت ضعيف نوعاً ما، لم أتمكن من تحديد اتجاهه. وأنا أتابع الصوت، تمنيته ضيفاً جديداً يشاركني الحجرة.. سنكون اثنين نستطيع قهر الظلام والصمت. سبحتُ مع خيالي إلى أن تجسد شكله أمامي بكامل هيأته. وطال الانتظار دون أن يأتي. أصبتُ بخيبة أمل وتتابعت دفعات القهر داخلي. تمطَّت أذناي متحسستين صوت أقدام تقترب. هاهو صوت باب يفتح.. ليس ببعيد عن غرفتي، ولطمة قوية ثقبت طبلة أذني. على إثرها تعالَت صرخة مخنوقة زادت من شرخ ستار الصمت من حولي، لكنها ألجمتني. ثم جمد كل شئ وجمدتُ أنا معه. لا أقوي على التنفس بصوت مسموع، حتى اللحظات الخاطفة التي تحتاجها رئتي لاستنشاق الهواء أسرقها في هدوء تام، متفادياً وصول الصوت مسامعي.. أما ضربات قلبي فكنت أخالها مسموعة لكل قادمٍ. كرهتُ أن لي أذنان تلتقطان بوضوح كل هذه الأصوات.
مع دبيب الحياة في أوصالي وجدت العرق يتصبب مني كما لحظة خروجي من مكتب السيد مدير السجن العمومي بعد إبلاغي بقرار فصلي. عقلي الآن رطب بعض الشيء بعد حالة التصلب المباغت. أهي حالة الرطوبة التي انتعش لها جسدي؟! ربما.. لكن الصمت والوحدة التي تلفني تفتت دواخلي.
استمر الحال كذلك إلى أن اقترب الفجر.. الإجهاد أخذ مني كل مأخذ بعيد.. صوت آذان مُنَغَّم ترامي إلى أذني.. إنه الفجر.. انسلّ الخيط الأبيض، وضيافتي هي لليلة واحدة كما فهمت من حديث «الرائد».. تراخت أعضائي واستسلمتُ تماماً بعد تلك الزفرة التي أطلقتها.
مضي النهار وأنا مستسلم لجسدي، رغم خشونة المرقد المؤلم لعظامي كيفما حاولت البحث عن وضع مريح.. الليلة الثانية توشك على الالتفاف عندما خرجت إلى الحمام بصحبة الحارس الوفي، ووجه الوفاء فيه أنه لا ينسي مواعيد وجبات الطعام ومواعيد الحمام.. تهيأت لإطلاق سراحي.. تُرى كيف حالهم، زينب ومحمد ومعارفي؟ كيف يفكرون؟ إنهم يبحثون عني. محمد سيفهم ما جري.. ستكون عودتي قوية، لها وزنها، وستظل حدثاً شاغلاً للمجالس زمناً طويلاً.
وأنا في قمة هذا الطوفان من الأفكار، انتشلني صوت الباب وهو يفتح.. أتاني صوت غليظ النبرات.. نبرات لا تشبه صوت «الحارس الوفي».. أشفقتُ على نفسي المرتعشة حين خاطبني الصوت بلهجة آمرة وجافة.
- انهـض..
لم نتجه إلى المكتب السابق كما توقعت.. صعدنا إلى الطابق الثاني.. الذبابة تتراقص في صدري لدى رؤيتي للطابق.. حركته أكثر من سابقه، وأناسه فيهم خشونة تشكك الداخل في مآله، ومثيرة الريبة.. ذات السؤال البليد.. خرجت من جناب «المقدم» الذي استضافني بدوره لليلة أخري.. زيادة الصرخات أجفلتني في البداية، وتكررت المسألة.. في كل ليلة تزداد بشاعة على بشاعتها.. سئمت تماماً..
ستة طوابق صعدتها حتى الآن وفي كل طابق تزداد الشراسة وتتضح الرؤية أكثر.. بلغ الأمر أن رأيت في الطابقين الخامس والسادس من يصرخون، حيث ألغيت الحواجز الحائطية للغرف.. بعضهم معلق في الهواء ورأسه إلى أسفل.. وآخرون مقيدون بسلاسل لا فكاك منها.. وهناك من يضربون بسياط يتسع قطرها في كل طابق.. هنالك بعض الوجوه تعرَّفت عليها.. الاستياء والسؤال ممنوعان.. وبدأتُ في التعوُّد.. مع حلول كل مساء أكون في انتظار من يأخذني إلى أعلى لسؤالي إن كنت أحمد الخال.. تبقي طابق واحد.. تُرى ماذا سيفعلون بي عند وصولي إليه.. وانتظرتُ حلول المساء السابع بفارغ الصبر..
أخيرا سمعت صوتاً قوياً يخاطبني.. أثناء محاولاتي لترتيب مخارج ألفاظه لفهم ما قاله التفَّت أصابع يديه حول معصمي الذي بدا كرقبة دجاجة في انتظار الذبح بين كفيه.. صعدنا إلى الطابق السابع وهو يجرني خلفه مسرعاً.. الطابق السابع لا حواجز فيه.. مفتوح.. حتى السقف لم يفكروا في بناء سوى أعمدة.. أول مرة منذ سبعة أيام أري نجوماً تتلألأ، والقمر – برغم أنه في منتصفه، إلا أنه بدا لي حزيناً.. أما الأرض فمكتظة بالبشر.. هم في حالة انبطاح يتلوون ويتأوهون، وبينهم وقفت مجموعة من المردة موزعون بانتظام على كل الطابق..
تشبثتُ ببقايا قوة تسعفني للمواصلة.. وقفتُ أمام حاجز بشري سمح لي باختراقه وأنا مجرور.. وعلى مساحة كبيرة خالية من الزخم البشري– خلف الحاجز – وجدت منتظري جالس وأمامه مكتب استندت زواياه على أربعة من بني البشر، ليسو كمن اعتدت على رؤيتهم هذه الأيام، بل أشبه بالذين رأيتهم في الطابق الأرضي.. لاحظتُ أن مقعده بشري أيضا.. تراصَّت على كتفيه نجوم وأشياء أخرى.. هنا إذاً مربط الفرس..
أسرع وصف عند رؤيته هو الشراسة.. نعم حيوان شرس.. عينان جاحظتان تبثان الرعب في أي مخلوق آدمي يراه، وهما معلَّقتان على وجه طويل، عريض!؟ مستحيل كونهما من أصل الوجه.. لابد وانهما مركبتان خصيصاً له.. وهذا الفم العريض الذي لو شاء لابتلعني دون كبير عناء.. أكاد اجزم انه تذوق لحم البشر، خاصة وأن بقية الجسد تتناسب تناسباً طردياً مع اتساع الفم.. وبينهما أنف غريبة الهيئة، معها يحس المرء بعدم الأمان أو الاطمئنان.. كيف ستكون عطسة أنف كهذه؟؟ كل هذا يتأطَّر داخل لحية كثيفة تزيده شراسة.. أما الرأس فأصلع طبيعي..
- أنت أحمد الشهير بالخال؟
وابتسم، لكن ابتسامته لا تخدعني حتى أقول بأنه سألني هكذا.. بل انتهرني.. نعم، هو الوصف الدقيق لطريقة نطقه بالسؤال.. هل ستكفيه إجابتي بنعم؟ هكذا فكرت ونفسي حتى الآن في حالة حياد تام تجاه ما يحدث لي. تسربت حالة الرعب والتوتر من حيث لا أدري، وصرتُ في حالة لا مبالاة أجهل كيفية تفسيرها.
قلت، مسيطراً على اللامبالاة:
- أنا أحمد الشهير بالخال.
هز رأسه مراراً قبل تحفزه لينتهرني مرة أخرى:
- طبعاً تعلم سبب وجودك هنا.
وضحكتُ كما لم أضحك من قبل.. ألَم أقل أنني في حالة لا مبالاة الآن.. ضحكتي أجفلته، هذا ما لاحظته في يسر..
قال بعد أن عقد حاجبيه الكثين ولوي شفيته.
- أنت وقح ولا تستحق البقاء هنا لأنك مجرد حشرة لا أكثر.
صمت والحذر بدأ في التغلغل داخلي.. إن التعقل واجب.. ولأنني لا أود أن أكون وقحاً لزمت الصمت في زمن الصمت هذا.. هل بدأت الموات؟ كثيرون ماتوا صمتا لأنهم يعشقون الكلام، وأنا الآن تنتابني حالة كلامية. أذكر أحدهم نادر الصمت، تسكنه الحقيقة التي يتصورها– من مرتادي السجن العمومي – مات منفجراً. سمعنا صوت انفجاره ونحن في مكاتبنا. صوت أشبه بانفجار عربة. لم نكترث لحظتها للأمر. علمنا بالحقيقة بعد دقائق إثر انتشار الخبر. ظل في زنزانة منفردة أكثر من أسبوع، لم يحتمل الصمت أكثر ولا يحتمل الجنون.. انفجر. هذه هي الحكاية بكل بساطة.. حمدت الله وقتها أنني لست من هواة الثرثرة ولو كانت ضرورة.
أما وأن المسألة دخلت «اللحم الحي»، فقد بدأت تناوشني الكلمات محاولة الخروج من صمتها المقبور داخل صدري.. إنها بداية النهاية بالنسبة لي، لأن التعلم الآن لا يجعلني قادراً على تحسس طريق كلماتي، كالذين اعتادوا الأمر، أو هم أصلاً مهيأون لذلك. لكن لابد من الكلام.. أي كلام. حتى صمتي لا يتركني وشأني.. يرفض الصمود أمام جحافل الكلمات المتواثبة الراغبة في الخروج من القمقم غير مكترثة لجوانب الحذر. وأمام فشلي المتكرر لم تخرج كلمة. تذكرت سوسن المليئة بالحياة وسط كل هذا الموات. قالت لي مرة:
- أنت إنسان محايد. ولأنك كذلك، فأنت جبان وسلبي. لا تبتعد عن دفاترك كثيراً حتى تتراجع. يجب أن تقفز من آليتك في العمل ولو بالتفكير في وضع أكثر راحة وأنت تعمل. الإيجابية مطلوبة يا عم أحمد.
«هذه الطفلة بنت العشرينات تحاول استفزازي».. قلتها في نفسي. أصابني عسر هضم وأنا استقبل هذا السيل من الحقيقة. لكني الآن أدرك ذلك بوضوح، أمام فشلي.. مضي وقت الصمت وفي مفترق الطرق لافتة مغروسة حتى الحافة السفلي مكتوب عليها بأحرف بارزة: «قاتل أو انتحر». القتال لا يستهويني، وأنا أجبن من بلوغ عالم الانتحار.
والآن أقف تسيطر على حيرة تداعب الخيط الفاصل في عالم التوازن، وأنا مستسلم بصورة ساعدتني في العودة إلى أهلي، بعد عدة أيام قضيتها في استضافتهم وأنا منبطح.. لم أقف أمامهم بعد أن صرتُ وقحاً وحشرة.. أمروني بالخروج دون تمكيني من فهم شئ، وتراجعت درجات السلم إلى الطابق الأرضي.
رجعتُ إلى داري وأهلي بعد أن تركت جزءاً مني هناك.. لديهم. كانت العودة غير كاملة، جعلت حرمنا المصون تنظر إلي تلك النظرات المريبة. استقبلت نظراتها ببرود وعدم اهتمام. ما عاد يهمني أن تنظر، أو لا تنظر، أو غيره. وهذا لم يمنعني من الثرثرة التي بدأتُ أجيدها محاولاً التشبث ببقايا أشياء تجعلني انهض لأواصل.
بورتسودان 1992م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق