كانت بداية يوم السبت على غير العادة أيضا، إذ استيقظتُ في الرابعة صباحاً، قبل انفلات الخيط الأبيض من فك العتمة، مملوء بالقرف والرغبة في الغثيان، وفي رأسي دوار. لعنتُ الخمرة وخطواتي التي قادتني إليها دون وعي. نهضتُ إلى باحة الدار في محاولة للتقيؤ.. وقد كان.. تقيأتُ حتى انقلبت أمعائي من الداخل، وشعرتُ بالراحة تسري في جسدي وبين مفاصلي. استلقيتُ في ارتياح مرة أخرى وذهني في صفاء مخيف. وهل يدوم الصفاء؟ سرعان ما تجمَّعت خيوطي وهي تغزو خلايا عقلي بلا رحمة، لتبدأ دوامة الانتظار الممل ثانية. عند اقتراب الساعة من السابعة، ازدادت حدة القلق والتوتر حتى ألفيتُ نفسي عند الباب الخارجي حافي القدمين أتلصص في حذر. كنتُ أترقبُ ظهور العربة وعليها زملائي والسائق الجديد الذي لم يمهلني الوقت ولا الأحداث لمعرفة اسمه. مضت نصف الساعة ولكنها لم تمر. لا يطاوعني تفكيري في أنهم غيروا حتى الطريق المعتاد، فصرتُ أختلق المبررات، فربما العربة تعطَّلت، أو مرت قبل خروجي. لا أريد الدخول ومعي هزيمة أخرى، ولكني دخلتُ أعاني من فراغ رهيب.
لم أفتقد كرشي العزيزة، وهي سبب كنيتي بـ «الخال».. لم افتقدها إلا وأنا أتهيأ للذهاب إلى المستشفي لمقابلة الطبيب، والتي وصلتها في العاشرة والنصف صباحاً. دخلتها وأنا خجل من هيئتي دون كرشي.. ماذا إذا التقيتُ بأحد معارفي.. هكذا فكرتُ وأنا أتجنب المارة، سارقاً طريقي بحيث لا ألفت الانتباه. سعدتُ كثيراً عندما وجدتُ نفسي أمام مكتب الطبيب، ولكن لا بد من الانتظار، فهنالك خمسة أشخاص ينتظرون الدخول. ليس أمامي سوي التأمل في المارة، من ممرضين ومرافقين وعاملين. هي أول مرة الجأ فيها إلى المستشفي بسبب المرض، فالمركز كفاني شر هذا الموقف طوال فترة عملي. رائحة الدواء تفوح حتى مع الزفير، وصدري منقبض لهذه الرائحة. أكيد هذا الشخص مريض بسبب الجوع، جسده هزيل لدرجة الانكماش، وهو يرفع قدما ويؤخِّر الأخرى. أحدهم محمول على نقالة متجهة إلى غرفة العمليات.. اللهم احفظنا. شغلتني الحركة والبؤس عن حالتي وسبب وجودي.
أخيراً عدت إلى واقعي وأنا اسمع اسمي يُنادى عليه. تحسستُ موقع كرشي عسي ولعل أن تكون عادت إلى سابق عهدها، ولكن.. غالبتُ الأسى وأنا أصلح من هندامي قبل الدخول إلى الطبيب. هو شيخ وقور يصلح لتقديم برنامج ديني في التلفزيون.. ذلك هو البروفيسور الطبيب.. وبعد الإجراءات والأسئلة الأولية، قدمتُ له تقرير طبيب مركز السجن.
سألني وهو يتنحنح ويعدِّل من وضع نظارته الطبية ذات السلاسل الذهبية:
- هل أنت معتقل؟
نظرت إلى نفسي قبل الإجابة:
- بل موظف.. ثم استدركت.. موظف «سابق» في إدارة السجون.
- ومتي ظهرت الحالة؟
- حال خروجي من عند المدير ظهر الخميس، بعد أن أطلعني على القرار.
وشرحتُ له ما حدث. هز رأسه الذي يتكئ على راحتي يديه ولم ينطق، ثم بدأ يكتب ويكتب حتى أشفقتُ على نفسي مما يكتبه. تناول بعدها يدي اليمني وهو يفتح جهاز قياس ضغط الدم، وبعد أكثر من تجربة انكفأ على الورق مرة أخرى مواصلاً الكتابة، وأنا أتابع حركة يديه من اليسار إلى اليمين. انتبه لعنقي الممدود وأنا واقف نصف وقفه لأجلس مرة أخرى معتدلاً وهو لا يزال يكتب. وأخيراً قال:
- كتبتُ لك في «الروشتة» دواء للضغط، أرجو أن تجده في سهولة فهو لا يوجد في صيدلية المستشفي. أما بطنك فأسبابها نفسية، ولا علاقة لها بمرض عضوي، لذلك كتبتُ لك إلى طبيب نفساني أرجو مقابلته.
فقط لا غير..!! وجدتني منتصباً على قدمي إثر ما قاله وأنا أقول بصوت راجف من الغضب:
- أفقد أهم عضو في جسدي وتقول أن مرضي ليس بعضوي. كيف يعقل هذا؟ هي أمامك، أنظر إليها، أنت لم تُتعِب نفسك حتى تكتشف إن كان عضوي أو غيره. ثم أنني لستُ مجنوناً لأقابل طبيبك النفساني.
بدأت حالة هستيريا تتحكم في تعبيرات وجهي وانطلاقة حديثي المتدفق. نظر ناحيتي في برود وهو يناولني أوراقي ويضغط على الجرس معلنا انتهاء المقابلة. هل يُعقَل أن هذا العجوز الأغبر يعامل مرضاه بهذا السخف، أم أن في الأمر شئ!؟ إنه هو من يستحق الذهاب إلى الصالح العام، لا أمثالي. كدتُ أصرخ في وجهه قبل خروجي ورائحة الدواء عالقة في ذهني. لم أعد أطيق نفسي.. أفقد كرشي ويؤخذ الأمر بهذه البساطة.
لملمتُ أطراف تمزقي، وأثناء عبوري بوابة المستشفي إلى الخارج، اشتريتُ جريدة يومية من البواب. لم أشتر جريدة منذ أن صارت واحدة، مفضلاً سماع الأخبار من الراديو. سأطالعها في البيت. وعَرَجَ تفكيري إلى كيفية الوصول للبيت، إنه وقت الذروة.. أذكر وأنا موظف في بداية تعييني أنني كنتُ أستطيع إيقاف أي عربة أجرة دون أن يرمش لي جفن. تحسستُ جيبي.. هل أجازف للوصول دون مشقة؟ نفسي لا تطاوعيني.. سأدخر ما يمكن لأيام لا تحمل طابعاً مطمئناً.
وصلتُ داري كيفما شاءت الأقدار.. لا يهم مقدار المعاناة، فأشياء كثيرة صارت لا تهم. المهم أنني وجدتُ زينب - على غير عادتها هذه الأيام - في حالة معنوية مرتفعة. أطراف شفتيها ترتعشان كفتاة يصارحها حبيبها بمشاعره لأول مرة. ضبطتُ نفسي وبها رغبة إلى تعكير مزاجها. آثرت التريث إثر انطلاقها بسعادة ونشوة ظاهرتين وكشفها لي عن حَلِّها لجميع المشاكل، وعودتي إلى العمل معززاً مكرماً، بل تخطَّت أفكارها كشف الترقيات الذي يشملني - كما قالت - وأشياء أخرى كثيرة لم أستطع متابعتها. فهمتُ أنها كانت مع صاحبنا «أب إيداً لاحقه». تمنيتُ في داخلي حدوث كل ما ذكرته، ولكنني فضلتُ الصمت على إظهار اللهفة في سماع المزيد من إشراقاتها.
طالعت جريدتي الوحيدة بعد وجبة الغداء مباشرة وقبل تناول الشاي. عنوان بالبنط العريض يتصدر الصفحة الأولي. ثورة شاملة في الخدمة المدنية. وفي السطر الذي يليه.. فصل عناصر من «الطابور الخامس» في بعض مؤسسات القطاع العام. الفصل يهدف إلى إحباط محاولة لتدمير الخدمة المدنية ومحاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إذاً، أنا «طابور خامس».. ضحكتُ حتى الرجفة.. أنا الذي لم أطالب بإجازة سنوية منذ أربعة سنوات «طابور خامس»، وأهدف إلى تدمير الخدمة المدنية، وملفي خالٍ من أية جزاءات أو مجرد لفت نظر طوال مدة خدمتي!؟ شئ يدعو إلى الضحك لا أكثر. وسعيتُ في محاولة محمومة بين أسطر الجريدة أتابع الموضوعات.. سيرد اسمي فيها دون شك. ولم أترك حتى صفحة الوفيات، ولكني لم أعثر على شبيه لاسمي، لا بين الأموات ولا الأحياء.
قفز إلى ذهني المحامي الذي حدثني عنه عثمان أرباب ليلة أمس، لذا قررت الاحتفاظ بالجريدة لحين مقابلته.. ربما تفيدني في مطالبة بتعويض بعد كل هذا السب والقذف الذي تعرضت له. وأنا الآن من وجهة نظر الناس عامة غير مؤهل أو مؤتمن..!! سأطالب بمائة آلف جنيه تعويض.. لا، إنها لا تكفي لتأسيس عمل ناجح، وإلى حين الفصل في القضية ستصبح قيمتها أقل. إذا لأطالب بمليون جنيه، هو ما استحقه.. مليون جنيه كافية جداً، ولن أطمع في المزيد.. سيأتي وحده من عائد مشروعاتي. سأقوم بتوزيع بدل المعاش على الفقراء من أهلي. وأهم من ذلك عودة ابني. لا حاجة له بالعمل في الخارج، فهنا سيساعدني هو بعلمه، وأنا بخبرتي الطويلة.
طرق على الباب الخارجي أوقف تدفق أحلامي. وجدت عثمان أرباب والسمكري وحمد الملك.. بعد عبارات الترحيب والمجاملة دعوتهم إلى الدخول مفسحاً لهم الطريق. كنت سعيداً بزيارتهم.. فحاجتي إليها عظيمة لتنتشلني من وطأة البؤس والشقاء المستبد بنفسي. هي رفقة لا تهون إلا على «أولاد الحرام» كما يقولون.
على مدي خدمتي الطويلة رافقتُ الكثيرين من مختلف الأصناف، منهم من قضي نحبه، ومنهم من ينتظر، وبعضهم «بدَّلوا تبديلاً»، إلا أن هؤلاء استطاعوا خلق تكامل وانسجام معي في كل المجالات، بمن فيهم حمد الملك، الشاب المرح الذي لم يمض على التحاقه بالخدمة أكثر من عشر سنوات.. سرعان ما اخترق حاجز تحفظنا منذ أيامه الأولى، وكذلك قرب مسكنه مني وعثمان أرباب يَسَّر الأمر دون شك.
قال حمد بمرحه المعهود:
- طبعاً في قمة الراحة والاسترخاء.
قلتُ وأنا ابتسم في ود:
- افتقدتكم.. أشعر بفراغ رهيب لا أقدر على احتماله.
- ربما افتقدت الدفاتر والأرقام.
- ستعتاد الأمر قريباً.
- لن تتخيل ما أعانيه.. أستيقظ مع الفجر ولا شئ أمامي يمكن تأديته. كان عملي هو هاجسي الأول والأخير وأنتم تعلمون ذلك، ربما أكثر مني، والتعود على الفراغ شئ قاتل.
قالا السمكري مستدركاً:
- لا أقصد التعود على الفراغ، ما زلت بصحتك. ستجد ما يشغلك، وربما تجد عملاً في إحدى الشركات.
- بالتأكيد سأجد عملاً، لكن هذا الشرخ الذي في داخلي لن يزول ولو أعادوني إلى العمل مرة أخرى.
- ليس من بينهم من هو أهل لتقييم الآخرين ودونك من سبقوك، كلهم مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
- وهذا ما يجعلني احترق.. هل رأيتم دموع الحاج إبراهيم..؟! ملعون هذا الزمن الذي لا يرحم.
قال حمد الملك بانفعال:
- على كل حال لا تربط نفسك بوظيفة مرة أخرى وانتظار المرتب آخر كل شهر. أنا نفسي أسعى لتركها.
- أنت مازلت صغيراً يا حمد. يمكنك اتخاذ القرار وتنفيذه ولا يكون قد فاتك الكثير، أما أنا فالمسألة بالنسبة لي روحية أكثر من أي شئ آخر.
كدتُ أن أروي لهم قصة المليون جنيه والمحامي، لولا إمساكي بلساني من الانفلات في آخر لحظة.
واصل حمد الملك:
- لكنك لم تسمع آخر أخبار المصلحة.
تساءلت وفي ذهني تختلط الأشياء:
- وهل من جديد يمكن حدوثه في فترة غيابي القصيرة - ثم استدركت – ولم لا.. في هذا الزمن يمكن حدوث أي شئ في ثواني.
أجاب السمكري بدلاً عن حمد:
- تم تعيين مدير جديد للحسابات..
أفهم الآن سبب الضيق الذي يعاني منه عثمان أرباب. فهو منذ حضورهم ليس على ما يرام. سحنته يعلوها كدر وضيق عقدا لسانه من الدخول في النقاش الدائر. شرخٌ بائن في نفسه، هذا ما رأيته في انكسار عينيه.
أخيراً قال عثمان في أسى:
- المأساة أنه لم يعمل سوي عامين منذ تخرجه، و تجربته لا تمكنه من شغل مكانك طالما يمكنك العطاء.
قال السمكري مؤمناً:
- أي عدل هذا؟ قل على الخدمة السلام إن سارت الأمور بهذه الطريقة.
ثم تابع مضيفاً:
- لكن المهم ما حدث اليوم لسوسن.
ارتفع حاجباي في تساؤل دهش لما يمكن أن يحدث لسوسن وعلاقته بما يجري من حديث.
قال حمد الملك في اقتضاب:
- استدعوها..
صحتُ في انزعاج:
- مــاذا؟؟
ما أسمعه من روايات وحكاوي أشبه بالأساطير عن تلك الدهاليز و«بيوت الأشباح».. شَحَنَتُ «ماذا» التساؤل هذه بالانزعاج والقلق، وجعلتها تخرج على مستوي الدهشة.. تلك الزهرة الندية يستدعونها!!؟ لكنها قوية، تعرف كيف تتصرف وكأنها تعمل لهدف ما ليس واضحاً لنا تماماً. كثيراً ما تحمل معها أوراقاً لا نُلقي لها بالاً، وهي تطالعها في الزمن الميِّت من يوم العمل.. تطالعها باهتمام شديد.. وأحيانا تخترق الحاجز العالي من الجانب الآخر من السجن متذرعة بأسباب تقنعنا بها. لكنها– رغم كل شئ – «سوسن».. تلك التي نخاف عليها ونخشى أن تغيب عنا.
هَمهَم عثمان أرباب في صوت ضعيف:
- إنهم لا يخافون الله حتى في النساء.
تساءلتُ عما حدث لها، فرد حمد الملك:
- بعضهم نَقَلَ حديثاً لها حول ما جري لك والحاج إبراهيم.. وهم يخشون من الأصوات المرتفعة.
واندفع السمكري مقاطعاً:
- وطبعاً «سيدنا» من أجل البقاء يفعل أي شئ.
- إنه يخشى أن تجرفه الموجة هذه الأيام.. لا بد من تدعيم موقفه، خاصة وأن العاطلين لديهم كثيرون.
قال حمد الملك في قرف وهو يبصق:
- صرنا نخشى حتى من أخوتنا.
شدني الموقف بنبله وقوته. وشعرتُ بالزهو مرة أخرى حين غادروني وصورة سوسن - تلك الرائعة – تداعبني، ورائحتها تدغدغ مخيَّلتي. ليتني في مثل قوتها. لكم هي قوية.. كل هذا الضعف والعاطفة الجارفة في المواقف الحادة التي لا تحتمل التراجع، تتشكل قوة صلبة. الآن أقف أمام نفسي تافها.. أحس التفاهة والضآلة وأنا أفكر في «المحامي» و«المليون جنيه».. إنها فكرة مضحكة أخجل منها الآن.
بعد خروجهم ترددت قليلاً في الذهاب إلى أخصائي الأمراض النفسية. بعد أخذٍ ورَدْ، قررتُ الذهاب لمجرد ملء الوقت وتغيير الجو. أحتاج لتغيير من نوع ما للخروج من حالتي الراهنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق