اقترب الوقت من منتصف النهار، أي لا تزال هنالك ساعتان لانتهاء يوم العمل والأسبوع، وهي فترة خاملة تزحف زحفاً نحو النهاية. في هذه الأثناء من كل يوم يتثاءب عثمان أرباب، وهاهو يفعلها الآن ويوشك أن يتمطى ويلقي بصدره وكتفيه على سطح المكتب، ليدخل بعدها في إغفاءة قد تمتد حتى موعد نهاية العمل. ربما قطع عليه أحلامه عمل مستعجل، ليستيقظ حينها ساخطاً لاعناً العمل والزمن. أما السمكري فيكون متوتراً جداً في مثل هذا الوقت، لا يكاد يستقر. ولكي يتفادى «لسان» عثمان الحاد، وحتى لا يزعجه بالدخول والخروج، يفضل البقاء خارجاً أطول مدة ممكنة. وبآلية تامة وتوقيت دقيق مع تثاءب أرباب خرج، وعليّ بالسعي خلفه إن جدَّ في الأمر شئ، وإلا فسيبقى في الخارج حتى اقتراب الثانية. أحياناً ترافقه سوسن – كما فعلت الآن - لكنها سرعان ما تعود.
هدوء فظيع أضجرني.. لا يُسمع سوي صوت تقليب الأوراق، يحركها هواء المروحة المنطلقة في لا مبالاة. هذا الذي يتحرك في صدري منذ الصباح شغلته سرعة الأحداث أثناء الساعات الفائتة، لكنها لم تقتله فاستغل هذا الزمن الميت ليبدأ زحفه من جديد. صارت حركته أقوي، إنه يعصرني عصراً، مرتفعاً إلى صدري.. آه.. إنها تخرج مخنوقة مليئة بالضجر.. هذه الآهة.
خطوط هلامية تتراءى أمام ناظري. نهضتُ واقفاً مؤكداً يقظتي، وعيناي اتسعتا لدرجة تقطع كل شك في ذلك. مع كل هذا تعود هذه الخطوط مجسدة الأشكال غير واضحة المعالم. أكاد أتبين بين ثناياها صورة ابني محمد. استثمار ناجح في زمن فاشل اضطره إلى هجرة غير مقننة في زمن أكثر فشلاً. واقف أمامي مهزوز الصورة.. هذا الصرح الذي شيدته بكل طاقتي وجهدي، ليس فقط لأنه الوحيد الذي أنجبته، ولكنها سهولة الحياة ويسرها، عندما يحتاجني بكل حجم الاحتياج، وأنا وقتها موظف دولة أقبض راتبي وإحساسي بالإنجاز وأنني رجل ناجح تعاظم. أستلم راتبي، ولا يستلمني هو ليجبرني على الجلوس بحذر، والقيام بحذر أشد.. أراه مهزوز الصورة، وهذا الشرخ البائن في داخله لا يندمل وهو يفكر في وجوب تحمل مسئوليته بنفسه. وهو على أعتاب الوعي، مازال يتحسس طريقه في عزم واجتهاد قلت له:
- أود أن تكون أحسن حالاً من أبيك.
أجاب دون تفكير:
- إن شاء الله سأكون أحسن حالاً.
ضحكت وأنا أقول مداعباً:
- كيف تكون أحسن حالاً من أبيك يا «إبن الكلب».
مازلت أضحك وفي نفسي أمنيات متعاظمات بأن ينتظره مستقبل زاهر يساعده في تحقيق ذاته. أما أمه وأنا سنعيش على ما قسمه الله لنا بهذا الوضع الذي لا غبار عليه. سعيتُ بكل جد لتوفير كل سبل الراحة له بحيث لا يشغله شئ سوي وضع اللبنات الأولي لمستقبل جيد، ساعدني في ذلك الوقت الوضع الوظيفي والاجتماعي الجيد الذي أحتله، والراتب المغري بمقاييس اقتصاد السوق. في بدايات مراحله التعليمية الأولي كان من المبرِّزين بين أقرانه شكلاً وجوهراً. وفي مراحله الأخيرة، وبعد التحاقه بالجامعة، خَفَتَ هذا البريق الذي يحفه كواحد من أبناء الموظفين المحترمين. وصار البريق يأخذ طريقاً آخر لا قِبَل لأمثالنا به. رأيتُ ذلك في أشقاء زوج أختي وأصدقائهم.
قال لي محمد وفي حلقه مرارة وهو بعد على أعتاب الجامعة:
- لماذا لا تترك الوظيفة وتعمل بالتجارة؟! إنهم ليسو بأحسن حال منك في أي شئ، تستطيع أن تكون مثلهم وأفضل وضعاً.
ذهلت من هذه اللغة الجديدة التي أسمعها وأنا الغارق في تيه الوظيفة التي لا يضاهيها عمل آخر. لم يسعفني رد مناسب وفي رأيي المسألة لا تستحق، فأنا قادر على توفير كل ما يحتاجه، وإن لم يكن بالسهولة السابقة. علينا إلغاء بعض بنود الترف المفرط.
وفجأة يدخل الساعي.. ينتشلني من انغماسي هذا.. وجوده خفف عني وطأة الوحدة والضجر.. أخبرني برغبة السيد المدير في لقائي.. أكيد يريد مقابلتي بخصوص حسابات عائد معرض الموبيليات الذي أقامته إدارة السجون وانتهي الأسبوع المنصرم.. حصل منه لنفسه على غرفة جلوس ومطبخ لا يستطيع شراءهما من المعارض التجارية براتب عشر سنوات.. هذا ما دار في ذهني الآن. طلبتُ من الساعي كأس شاي سأشربه في الوقت الذي أرتب فيه أوراقي.
فكرتُ قليلاً قبل الذهاب إلى السيد المدير، فهو عادة لا يستدعيني في مثل هذا الوقت من النهار، هو دائماً ما يفضل مناقشتي في شئون العمل عقب حضوره مباشرة، أو بعد الإفطار مباشرة. لم أقف كثيراً عند هذا الخاطر بل واصلت مسيرتي.
«مدير عام السجون».. لافتة تميز مكتبه عن البقية، وهي جميعها قد طُلِيَت من الخارج بلون أصفر باهت يُولِّد الوهن. الباب المفضي إلى السكرتيرة مفتوح دائماً ولن تستطيع الدخول إلى السيد المدير دون المرور بها. مسألة متقنة.. غرفة السكرتيرة مكتملة الأناقة والفخامة حيث تراصت مجموعة من المقاعد الوثيرة.. ليست من صنعنا.. وفرش أرضي من السجاد الفاخر، ومجموعة طاولات صغيرة تحيط بواحدة كبيرة عليها بعض الزهور الصناعية، والحائط تزينه بضع لوحات. على مكتبها عدة تلفونات مختلفة الألوان، وأوراق رُتِّبَت في نظام دقيق، هذا إلى جانب الآلة الكاتبة. وجدتها منهمكة في عملها على الآلة الكاتبة. ألقيتُ عليها بالتحية، لم تُلْقِ بالاً لوجودي. سألتها – وهي ما تزال مشغولة بالضرب على الآلة الكاتبة - إن كان بإمكاني مقابلة السيد المدير.. نظرت إلي ويداها تتابعان العمل بأوتوماتيكية ساحرة.. نظرتها باردة، ليست كالمعتادة، وكأنها لا تكترث لوجودي.. يبدو أنها في انتظار الانتهاء من السطر الذي بدأته لتجيبني بعد ذلك.. وهو كذلك.. لستُ على عجلة من أمري، وإن تملكني غضب خفيف، فالوقت آخر نهار ويمكن لأقل سبب - حتى غير مقصود - أن يسبب للمرء ضيقاً.
بعد انتهائها من طباعة السطر الذي شغلها عن وجودي لم تسحب الورقة إلى أعلى مباشرة، وإنما توقفت برهة. وضعت كوعيها على طرف الآلة الكاتبة في كسل، ثم خدها الأيمن على كفها وهي ترجوني انتظار السيد المدير، لأن معه ضيف في الداخل. رَسَمَت على شفتيها ابتسامة بلا معني، ثم واصلت عملها وكأنها لم تنقطع عنه. كل ذلك يذكرني بالممثلات وفتيات الغلاف. هي شبيهة بهن. لا أتوقع رؤية واحدة منهن بيننا، لكن هذا البريق واللمعان الذي يكسو الوجه وما ترتديه.. كيفية كلامها ونطقها للحروف.. تمنيتُ أن أقول لها شيئا كهذا، لكنني آثرتُ الصمت. جلستُ منتظراً خروج الضيف، محتضناً الملف الذي أعددته لتوي، لا تلح على فكرة محددة لتقلقني، مستسلماً بذلك لحالة استرخاء تام على المقعد الوثير الذي اخترته. أثناء استسلامي للتحلل خطر ببالي شراء ثوب جديد لـ«زينب». سيبهرني حجم الفرح المسيطر على وجهها. زمن مضى ولم أتحفها بهدية، ولا في عيد الفطر، حيث عودتها دوماً على هذا البند الثابت في الأعياد، وحسب الحاجة في المناسبات السعيدة وأحياناً بلا مناسبة، هذا كان في أيام التخمة.. هاهو عيد الأضحى على الأبواب وعلينا حساب المعادلة جيداً وإلا لن نأكل لحماً حسبما نرغب. يقولون أن الخراف هذا العام ثمنها يساوي عربة جديدة أيام التخمة. لا.. لن أشتري لها ثوباً، خوفاً من نظراتها تلك التي بدأت مع بداية الأسبوع. أخشى عدم تصديقها لخالص رغبتي ودوافعي لهذه الهدية. سوف تتناسى الفرح بعد ثانية وتبحلق في وجهي غير مصدقة وتؤكد لنفسها ظنونها التي راودتها. لا.. تقديم هدية لها في هذا الظرف ستفسره كما تشتهي. سأنتظر اقتراب العيد واشتريه لها، سأدبر ثمنه منذ الآن.
خرج الضيف، قبل تمكيني من تدبير ثمن الثوب، ومن خلفه المدير، وجهه ليس بغريب.. لكن أين رأيته؟! لم أكترث للأمر طويلاً.. كنتُ مشغولاً بمحاولات تنبيه المدير إلى وجودي وتذكيره بأنه استدعاني. قال لي بعينيه وهزة من رأسه أنه عالم بوجودي. وبنهاية مراسم وداع الضيف وجدتني أسير خلف المدير.. ما زالت صورة الضيف تحتل مساحة في ذهني. أو ليس هو رئيس جهاز..؟! نعم.. نعم.. هو بالتأكيد.. لقد رأيته أثناء إضراب المعتقلين عن الطعام حينما كان حديث عهد بتولي منصبه. ليذهب إلى الجحيم، لا شأن لي به. توقفت خطواتي أمام مكتب السيد المدير الذي يجلس على كرسيه، وقبل استقراره تماماً أشار لي بيده، التي يحمل فيها مسبحة صغيرة وهو يقول:
- تفضل يا أخ أحمد الخال.
ربما جُنَّ مديرنا اليوم.. تقافزت هذه الجملة بين ضلوعي وأحياناً تصل إلى حلقي. وكيف لا.. هو يدعوني بأخيه، ويضيف إليها كنيتي، اللفظة التي لا يستخدمها سوي المقربين مني أو «السوقة» الذين يلتقطونها ولا يعرفون شيئاً عن اللياقة والكياسة. ها هو يستخدمها بمهارة مَن جَرَتْ على لسانه طويلاً.. تململتُ وأنا أجلس وسط زخم الدهشة هذا.. فكرتُ بمبادرته بما لدي، فأطلعته على انتهائي من تحضير ملف حسابات المعرض الأخير لإضافتها إلى كشف الميزانية، وكمٌ هائل من الكلمات حول الإنجاز الذي تحقق. وأضفت أنه كان سيتضاعف لولا التخفيضات الهائلة التي شملت مشتريات المسئولين والمحسوبين. أطلق ضحكة قصيرة فانتبهتُ أخيراً لهذه الإضافة وتوقفتُ عن الحديث معلناً انتهاء عرض الملف.
ضحكته القصيرة التي أطلقها أزعجتني بقدر ما عزَّزَت مواطن الدهشة داخلي. اتخذتُ وضعاً أكثر استقامة لأشرح له بصورة أفضل ما نقلته له قبل قليل، اعتقاداً مني بعدم استيعابه لما ذكرته جيداً، أو ربما كان هنالك لبس ما. لكنه لم يدع لي الفرصة وهو يقول:
- أنا مقتنع، لكن من يقنع «الديك»؟!
هراء هذا الذي يتفوه به. ما الذي اقتنع به وما دخل «الديك» في موضوع المعرض وحساباته؟! ألم أقل أن به مس من الجنون اليوم. ولما رأي عيني تخرجان عن محاجرهما قال:
- سأوضح لك المسألة. إنني آثرت دعوتك لهذا السبب لعلمي بمدي فداحة الأمر بالنسبة لك. خاصة وأنت الموظف الكفء، وأعلم مدى أهميتك وحاجة العمل إلى خبرة أمثالك، لكنه أمر خارج عن يدي حتى أستطيع البت فيه، وفي هذا مدعاة للأسف.
ذبابة تراقصت في صدري الآن. ما كل هذه اللطافة التي هلَّت عليه هذا الذي يعلم مدي أهميتي!؟ سألته مستفسراً في انزعاج عن حقيقة الأمر، فرد في هدوء:
- استلمت خطاباً يوم أمس بخصوصك والحاج إبراهيم من جهات عليا، وقد أطلعت الحاج إبراهيم أمس على القرار. أما أنت فقد التقيت بالسيد الوزير وناقشت معه الجزء الذي يخصك من القرار. بعد نقاش طويل معه، فضَّل إطلاع الجهات التي أصدرته وطلب التماس لديها.
ما أعظم سعدي، أنا «أحمد الخال» تناقش مشاكلي على مائدة الوزير. ارتبكتُ قليلاً من رهبة الأمر. لكن ما الذي يتناقش حوله السيدان بخصوصي وأنا هنا لا أدري.
قلت له ورقبتي تتمطى:
- رغم عدم إدراكي لحقيقية الأمر إلا أنني جد ممتن..
لم يمهلني حتى أكمل ديباجة الشكر، فالرجل كما يبدو يعنيه أمري لدرجة أنه يتأسف لي، ومهتم بتذليل عقبات في طريقي لا أدري لها وجوداً، أو ربما بصيرتي عمياء. المهم.. قال لي مقاطعاً بعد انتفاخ أشداقه:
- أظنك تعرَّفت على شخصية ضيفي الذي خرج منذ قليل. كان معي بخصوص القرار، وبكل أسف طلب مني تنفيذ القرار وإطلاعك عليه بعد مغادرته مباشرة.. سيكون هنالك خطاب بخصوصك والحاج إبراهيم للجهات الإدارية لاتخاذ الإجراء اللازم.
تملكني الذهول وصورة الحاج إبراهيم. تمر بخيالي الآن لمحات من أحلام الأسبوع، تتجمع خيوطها لترسم لنفسها صورة يظللها بعض من ضباب. وجدتُ نفسي أغوص إلى الأعمق أثناء محاولاتي القيام من المقعد الوثير ولكن.. آه من قواي التي لا تسعفني. بقعة خفيفة السواد تماوجت داخل وعيي وتزداد تكاثفاً. تلاشت الرؤية والرؤيا الآن.. المكتب مظلم من حولي، فقط أرى نجوماً على كتف السيد المدير تتلألأ، أستطيع تمييزها بسهولة دون الحاجة إلى نظارة. أما البقية فلا شئ أمامي يمكنه إرشاد نظراتي إليها، حتى صورة مولانا، تلك التي يحرصون على وضوح ملامحها، حرصهم على بقائهم، تلاشت سوى بعض النتوءات التي برزت على أطراف الإطار.
طرق أذني صوت بعيد. رغم هذا البعد أتاني عميقاً.. دغدغ أذني في خبث وميوعة.. نبهني إلى النهاية. لم أجد أمامي سوى قهقهة الحاج إبراهيم.. حتى هذه لا أملك قدرة على محاكاتها.. على كلٍ، ضحكتُ مقهقهاً، ومع كل فقاعة قهقهة تسري داخلي قوة إلى حين اكتمال نهوضي. رفعتُ قدمي اليسرى لأتقدم إلى الأمام، لكنه الحلم حين رأيتني أجري في مكاني فزعاً ليدركني ما لم أدرك ملامحه حتى الآن. هو أنا «محلك سر»، عدتُ ببصري ناحية المدير وأنا أقول مستفسراً:
- حتى الآن لا أفهم حقيقة الأمر.
ومن ذات العمق السابق أتاني صوته هذه المرة، وصوت المسبحة تلقى على المكتب:
- كلنا لا يفهم حقيقة الأمر.
لا.. وإنما كما قالت سوسن في الصباح.. كلنا ندرك حقيقة الأمر، ولكننا نُغِضُّ الطرف عنها.. نسيرُ بمحاذاتها في حذر، أما الولوج داخلها– وإن كانت هذه الحقيقة بسيطة - فهو أمرٌ مرعب بدرجة فظيعة.. هو يعلم، بل أول من يعلم ويفهم، وهو الذي نال هذا المنصب - بعد انتشار الموضة - لأنه يعلم ويفهم كيف يلوي الحقائق.. رغم فصله من إدارة السجون سابقاً لسوء الأخلاق.. أعاده هؤلاء وبرتبة أعلى حتى ينال هذا المنصب. عاصرته زمن طويل، وأعرفه جيداً.. وها هو الآن لا يعرف حقيقة الأمر. لم تخفف هذه المناجاة الداخلية ما بداخلي من ضيق حتى ألفيت نفسي خارجاً.. لفحتني موجة هواء بارد اقشعر لها بدني مما أثار دهشتي. لكنني مبلل تماماً.. إنه العرق الذي مازال يتقاطر حبيبات وفي أجزاء يسيل بلا تحفظ.
أول مرة اكتشف أنني داخل سجن حين توسطتُ الباحة الفاصلة بين مكتبي ومكتب السيد المدير. إن عقلي مكبل لا يقوى على التفكير والتمييز. سجن قاتم بغيض. أثار هذا الاكتشاف كوامن في نفسي. وأنا أطلق آهة، اتجهتُ بتفكيري إلى ما وراء السور العالي، والذي لم يخطر ببالي التفكير فيه من قبل. هاهو الباب الحديدي الضخم موصد وبجانبه الحارس ممتشقاً سلاحه في قسوة، أظهرت قوة يديه. لم تراودني، سابقاً، فكرة اجتيازه قط ولو من باب العلم بالشيء. لشدة ما تمنيت أن أكون وراءه الآن.. بأي صفة، ليس مهماً. واقتادني إحساس للتساؤل: كيف يبدو من وراء السور؟! هل سيحالفني الحظ ويزجون بي الآن إلى الداخل، كبعض من شملتهم الموجة؟! ليت ذلك يحدث، فهو خير من سجني الآن. آه منك أيها العقل، تكاد تنفجر. من أكون حتى يزجون بي إلى حيث من تحررت عقولهم. هم لهم أسبابهم.. لا يطمئنون لبقائهم في الخارج، حتى بعد إزاحتهم من مواقعهم. رأيتُ كثيرين منهم أثناء خروجهم، أحياناً إلى المستشفي، إذا ما استعصت حالاتهم ولم يستوعبها مركزنا الطبي، وأحياناً أثناء الزيارات على قلتها.
آه.. لكم أنا قزم.. تفاعل داخلي إحساس بالضالة والسجن. كل ذلك ولم استسلم، هاهي أفكار غريبة تتوارد إلى ذهني لأول مرة. نعم.. ستكتب عني الصحف.. ضحكتُ لهذا الخاطر، فأي صحف تلك التي ستكتب عني ومئات هم أعظم خطراً وشاناً لم تكتب عنهم، ولكن لا.. يكفي أن ينزل اسمي في منشور سري. سيعلم كثيرون فداحة الظلم الذي وقع عليَّ، بل سأكون واحداً من الذين يحاربون الظلم ويناهضونه.. سيُذاع خبر ما جرى لي في الـ «بي بي سي»، ويسمع به كل العالم. أما هؤلاء، سيحاولون نفي الخبر وتكذيبه. سأكون لهم بالمرصاد، وأكيد سأفوز في الانتخابات القادمة. امتلاء بالنشوى كاد يخنقني وأنا أؤكد خواطري لنفسي. تضخَّمت أشداقي، وأخذني التيه مأخذاً جعلني أحلق علَّني أبلغ الجبال طولاً. ولكنني لا أعلم لكل ذلك سبباً، وهذا ما يطيح بي. سرعان ما عدتُ إلى واقعي وأنا المحُ زملائي يهمون بالصعود إلى العربة بعد انتهاء يوم العمل وكأنهم في انتظاري، بل هم في انتظاري. مرَّت سوسن بجواري وهي تودِّعني إلى لقاء آخر. إنها لا تعلم، لذلك لم تستوقفها حالتي التي تدعو إلى الرثاء والشفقة. لن أراها بعد اليوم، تلك الزهرة التي عطرتني. إحساسي بأنني قزم تعاظم داخلي. وتطور الأمر إلى شئ آخر، تجاوز حدود الإحساس والشعور إلى جسدي. هذا الجسد البدين آخذ في الاضمحلال، ارتجفت أوصالي وأنا أتلمس مواضع السمنة فيه، عسي أن أكون مخطئاً. أول ما امتدت إليه يدي دون وعي هو «كرشي»، ذلك الصرح الذي شيَّدته في زمن التخمة، وبقي صامداً رغم عوامل القسوة التي وجدها في السنوات الأخيرة وسط أطباق تبعث على القرف من فرط تكرارها، مما تسبب في ظهور بعض الترهلات أسفلها في السنة الأخيرة. الآن تمر عليها يدي من أعلى أملاً في النزول إلى الأسفل بالتدريج لكي يطمئن قلبي. شئ أشبه بالربت عليها في حالة شبع. لم أجدها.. هل يصدق أحد؟! ولا أنا.. لم أجدها، ومن فرط الدهشة حاولت الصراخ – وهي عادة لا أستطيع التحكم فيها – لكني لا أسمع صدى لصوتي. حاولت مرة أخرى جاهداً، وبكل قوة، فخرجت حشرجات لا يمتد صداها إلى أكثر من داخلي، وكأنما هناك ما يحبسها ويردها إلى جوفي. ملأني الرعب وأنا أرفع يدي لألفت انتباه الآخرين ليفعلوا شيئاً من أجل إنقاذي. ارتحتُ الآن لأني أراهم يلتفتون ناحيتي. غشاوة حجبتهم عني، لكني متمسك بالتركيز في إصرار أنهكني. فقدتُ القدرة على التمييز. أطرافي متحللة تماماً، وهاهو خدرٌ يمتد سريانه مع دمي.. يتصاعد إلى أعلى.. ولا شئ.
هي أطياف، تلك التي أمام ناظري الآن، ينقشع عنها الضباب في بطء لترتسم وجوه متربعة على عرش وعي الذاكرة ومستوطنة فيها. أغمضتُ عيني وفتحتهما، بعد عجزي عن استخدام يدي في فركهما، نتيجة ضعف شديد أحس به. أنهم يبتسمون.. عثمان أرباب، السمكري، حمد الملك وفضل المولي ثم الدكتور هاشم - المشرف الطبي - وبجانبه ممرض. أمسكت برأسي، بعد جهد، بكلتا يديَّ.. الصداع.. آه منه، يكاد أن يشطر رأسي إلى نصفين. ومع شدة الضغط بدأت في استعادة كل شئ مع بعض صعوبة.
إن ضغطي مرتفع.. هذا ما أطلعني عليه الطبيب وهو يحاول التخفيف عني بعبارات رقيقة وابتسامة لم تفارقه منذ وقع بصري عليه. طيب جداً هذا الـ «هاشم»، لا أدري له مهنة مناسبة بخلاف الطب.. نظرتُ إليه لاستيعاب أكبر قدر مما يقوله. لم تطرق أذني جملة عن «كرشي» التي فقدتها. هو مهتم بتجاوزي لحالتي الراهنة.. ربما، ولكني سألته في صعوبة عن كرشي التي فقدتها. أرادوا جميعا الانفجار ضحكاً لولا أنني فتحتُ لهم أزرار قميصي. ألجمتهم الدهشة.. حتى أنا لا أصدق هذا لشدة ما تذكرني بزمن التخمة. دهش الطبيب.. بل صُعِقَ ولابد. رأيته ينتحي جانباً بنفسه ويكتب.. كتب كثيراً وبعدها سلمني أورنيك تحويل إلى المستشفي، وتحديداً إلى أخصائي الباطنية، وهو أستاذ جامعي مشهور، وإضافة للأورنيك مرفق تقرير مطول عن حالتي الراهنة.
خرجتُ من المركز الطبي وفي قلبي حسرة ومن حولي رفقاء العربة.. زملائي وسندي عند التعثر، بينهم السائق الجديد الذي لا أعرف اسمه حتى هذه اللحظة. حسن جداً أن كل ما حدث كان آخر اليوم، وإلا لازداد إرهاقي من فيض التساؤلات. سارت مجموعتنا في وهن سرى بينها من جراء ضعفي، وما أن صعدتُ إلى الحافلة حتى وردت في خاطري «زينب».. كيف ستواجه تلك العاصفة من المشاكل؟ بل وكيف ستكون مواجهتي لها؟! أخيراً قطع عثمان أرباب حبل الصمت وهو يسألني كالمعتذر:
- لقد كنت مع المدير كما علمنا.. فماذا حدث؟
التفتُ ورائي.. كلهم يتطلعون إلى ما سأرويه.. أخبرتهم بما جري لي مع المدير في صعوبة وفي إيجاز شديد.. انخلعت وجوههم وهم يستقبلون النبأ. نعم انخلعت.. هذا ما أستطيع أن أصفهم به وأنا أري عيونهم تتساقط من محاجرها، وشفاههم تتدلى، وهم يحاولون النظر إلى بعضهم، ويتفادون النظر إلي. أشفَقتُ على نفسي كثيراً من كل هذا.. اتخذتُ وضعي الطبيعي وشردت نظراتي إلى الأمام مع سير العربة، في اللاشئ.. لم ينطق أحدنا بكلمة سوي أن حمد الملك «بَصَقَ» من خلال النافذة بقرف واستياء.
من سيخلفني على مقعدي؟ قفز هذا السؤال إلى سطح خواطري متخطياً كل حواجز التفكير التي يمكنها السيطرة في مثل هذا الوضع. بالتأكيد عثمان أرباب، فهو نائبي، ويأتي في الدرجة الوظيفية بعدي. وكأني بهذا التأكيد أقطع سيل الغبن المتدفق الساري من خلال هذا التساؤل. وتواصل صمتنا الناطق بكل سخف الموقف. أشعر – رغم عدم التفاتي إليهم – أشعر بأنهم يودون قول شئ ما. صدورهم مليئة بجمل مواساة لتخفف عني لكنها لا تخرج، تبقي حبيسة خشية اعتبارها سخفاً لا معني له. تصلني هذه الشحنات منهم رغم الصمت إلى حين وصولي أمام باب الدار.
ليس سهلاً على نفسي الدخول الآن. مطالب بتفسير أشياء كثيرة. لا أرغب الآن في إثارة حديث يرهقني ويزيد من توتري وشد أعصابي. و«زينب» امرأة تعشق إثارتي بأحاديث لا معني لها.. هي لا تقصد، بل تتصرف بعفوية اعتاد عليها إيقاع حياتي، أما هذه اللحظة، فلا..
أشد رغباتي إلحاحا – وأنا أقرر الدخول – الانزواء في ركن قصي، والاستسلام لاسترخاء يقلِّل من شد أعصابي. ما أن سمعت زينب صوت الباب وهو يفتح، إلاّ وكانت في منتصف الطريق تسألني في لهفة عن سبب تأخري. مظهرها يوحي بأن القلق أهلكها أو كاد.. ألَم أقل إنها امرأة مليئة بالوساوس، إن تَرَكَتْهَا وساوسها ستموت دون شك. حسنٌ جداً، إنها لم تلحظ تغير هيئتي وإلا سقطت رعباً.. مشغولة بإثبات أشياء تتوهمها.
وأنا أنظر إليها وهي بهيئتها تلك راودتني رغبة مجنونة. لن أروي لها الآن، سأخفي عنها كل شئ حتى أثبت لها أنني مازلت قوياً، بعدها سأروي لها ما حدث. طاقة غير عادية تتملكني. امتلأت عروقي بقوة جامحة وأنا آمرها باللحاق بي. قتلتُ فكرة أنني أحاول إثبات الأمر لنفسي في مهدها خوفاً من إصابتي بضعف، أو تراودني حالة «لا جدوى» فأغير رأي.
حَضَرَت ومعها كوب من الماء البارد وهي تسألني إن كان عليها إعداد وجبة الغداء.. صوتها ملئ بالتوسل. أعلم ما تتوسل من أجله وهي المرأة – الخبرية - من الدرجة الأولي، لكني لن أشفي غليلها. لم أرُد عليها، وتجرَّعتُ الماء دون رغبة وأنا مشغول بتغيير ملابسي. الآن أنا عاري، لا يسترني سوي ملابسي الداخلية. نظرتُ إليها نظرة لا تجهلها، فهي تعرفها على مدى خمسة وعشرين عاماً.. نظرة لا تشك في معناها. وأخذتها على حين غرة. الطاقة التي في داخلي أسقطت عنها عوامل الدهشة لفرط قوتها أنها لم تتهيأ لوضع كهذا، فعادة ما تنتظره مساءاً. لكن قوتي اليوم أنستها كل المراسم والطقوس. وفعلتها معها كما لم أفعلها منذ عشرة سنوات. في داخلي سخط وارتياح وكثير خجل. إحساسي بالارتياح متعاظم. فقط هناك ذبابة تجول في صدري تنبهني إلى أن هذا مجرد «زوبعة في فنجان» قتلها النعاس الذي أستسلم له الآن، وذهبتُ إلى أكثر من هذا باستغراقي في النوم. نمتُ بعمق.. اكتشفتُ ذلك بعد استيقاظي وأنا أنظرُ إلى ساعتي التي تشير إلى السابعة، كما أنني لم أرى ما يزعجني في منامي.
لن أتمكن من الذهاب إلى الطبيب فقد تأخر الوقت وهذا ما أزعجني وأنا أحاول النهوض متجهاً إلى الحمام. زينب ليست بجواري الآن، وهو شئ مثير للريبة والشك. آه هذا صوتها، لأسمعه بوضوح رغم بعده. إنها تحادث شخصاً ما.. ليس شخصاً واحداً.. عدة أصوات تختلط في لغط وثرثرة لا ضابط لها. لا أرغب في الخروج الآن، لكني سأتبول على نفسي إن بقيت مستلقياً على الفراش أكثر من ذلك. هم أمي وأختي ومعها أطفالها.. أختي امرأة مصابرة لا تحب الشكوى، عكس حبها للثرثرة، وحين تجتمع وزوجتي أخرج أنا هارباً. لا تهتمان لخروجي ولا يثير فيهما نوعاً من الامتعاض لانشغالهما الدائم بموضوعات لا تهمني، ووجودي يجعلهما تأخذان جانب الحذر وعدم الانطلاق.
أختي توفي عنها زوجها وترك لها ثلاثة أطفال. حَزِنَت أختي كثيراً عليه. تألَّمتُ لها رغم أنه من عائلة لا توافق مزاجي لولا أن أختي فاتها القطار. كان سمساراً وقحاً، هكذا أدعوه دائماً، ويقضي بقية يومه في خمارة. أتساءل عن الوقت الذي أنجب فيه ثلاثة أطفال. أود تفسيراً من أختي وأخشى عدم فهمها لسؤال برئ، ودعابة ربما تسبب حرجاً. كثيراً ما تأتي أختي مطرودة بعد عودته من الخمارة، ويأتي صباح اليوم التالي ليأخذها معه، كأنما هو شئ متفق عليه. ومع كثرة التكرار كانت المسائل تجري في بساطة، إلى أن توفَّاه الله ونحن على هذه الحالة. لم يترك لها الكثير هي وأطفالها سوي دار تقيهم شر البرد وقيظ الصيف. أخوته أثرياء ثراء فاحشاً، بمقاييسي الشخصية. قفزوا سلم الغِنَى في سرعة صاروخية بعد أدائهم كل فرائض وسنن البداية والارتكاز. رغم ذلك لم يكفوني عناء الصرف على أبناء أخيهم. لو أنهم جمعوا فقط فضلات طعامهم نقداً لعاش هؤلاء في سعادة ورفاهية أبد الدهر.. كنت أقولها لهم كلما زرتهم في مناسبة.
أما أمي فقد قررت البقاء مع ابنتها منذ وفاة زوجها، رغم إصراري على بقائها معي. يا لها من امرأة.. لم تكلفني الكثير ودائماً أحس تجاهها بالتقصير. كل أملها هو الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة المصطفي «ص»، وكنت أمنيها بذلك. لم أنجز وعدي في زمن التخمة، وخذلني هذا الزمن في إنجازه وأنا أراها تدعو لي بكل الخير في صلواتها وتدعو لنفسها بتحقيق أمنيتها. أنا عاجز عن تحقيق أمنيتها الآن. هو أول شرط وضعته لابني محمد عندما فتح أمامه طريق السفر وغادر على أمل الحصول على عمل هناك. أول طلب بعد السنة الأولي هو تسهيل أمر الحج لها. كانت أسعد من أي وقت بسفره وهي تبدي تمنعاً، مقطِّبة وجهها المتغضِّن. قالت بعد مغادرته، وهي تقصدني بذلك:
- الآن ستتحقق أمنيتي..! ورَفَعَت يديها إلى السماء تدعو له ولها.
تذكرتُ ابني الآن. حَفِيَت قدماه في سبيل وظيفة، وهو الخريج الجامعي، حتى تيسَّر له السفر في موسم العمرة منذ سبعة أشهر. كل الأخبار تشير إلى أنه مازال عاطلاً أو يعمل أعمالاً هامشية، مسبباً قلقاً لنفسه وللآخرين. لكن يحدوه الأمل في الاستقرار والحصول على عقد عمل.
صفعتني مأساتي وأنا أقف أمام الجميع بعد تحاملي على نفسي والنهوض متجهاً إلى الحمام.. قبل دخولي إلى الحمام، ألقيتُ على الجميع التحية، وجلستُ بجوار أمي. حاولتُ معرفة مدى علمهم بما حدث لي، وأذناي تتحسسان ما بين الكلمات، وعيناي تراقبان التعبيرات المرتسمة على الوجوه.. إنهم يجهلون.. تنفستُ الصعداء، لكني فضلت إطلاعهم على أمر العمل، وما حدث بشأنه، وإخفاء بقية الأطراف. وكانت النتيجة كما توقعت.. أول ما حدث كان هو سقوط «كباية الشاي» مرة أخرى هذا اليوم من بين يدي زينب.. شئ مُحْبِط، ويدعو للقرف لا أقدر على متابعته، وسرعان ما اتجهتُ إلى الحمام وكلي ندم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق