«السجن العمومي».. صدمتني اللافتة الكبيرة المعلقة على البوابة الرئيسية.. بَدَت لي باهتة وقد انحنت قليلا بفعل الزمن.. تحتاج إلى تجديد. صدمتني وهي أول ما يستقبلني في مكان عملي لأكثر من ثلاثين عاماً.. منذ بداية تعييني. ما كانت تستفزني ولا تثير داخلي شيئاً من النفور تجاهها. صدمتني اليوم.. ارتعشت قدماي وأنا أهم بتجاوزها. لم أكن أنظر إليها أو منتبها إلى وجودها، بالكاد أذكرُ الألوان التي خُطَّت بها الأحرف العريضة. ثلاثون عاماً وأنا أعمل في قسم الحسابات إلى أن صرتُ مديراً للقسم. خمس سنوات أخرى وأبلغ السن القانونية للمعاش. تراودني أحياناً رغبة في التقاعد اختيارياً، لكنها ما أن تبرز إلى السطح حتى أُقمِعُها بكل قوة، فتبقي مجرد رغبة خامدة لا تقلقني إلا نهاية كل شهر، وتبرز إلى السطح مرتين كل عام، وازدادت في السنوات الأخيرة، لكني أضربها بعزم من حديد.
كنا - عثمان أرباب والسمكري وأنا - في مكتب واحد يرأس قسم الحسابات.. معنا سوسن، لكنها عادة ما تأتي مع مدير السجن. كنا نتندَّر بوضعها ذاك، فهي رافقت أكثر من مدير للسجن العمومي منذ تعيينها بواسطة مدير سابق، والسبب في ذلك واضح لا يحتاج إلى كبير ذكاء لكي يعرف المرء سر تعلقها بمديري السجون، فهي قد جاورتهم جميعاً، بل على العكس، هم الذين جاوروها جميعهم. هي تسكن مع خالها– الذي تَرَبَّت في كنفه - وهو واحد من دهاقنة الخدمة العامة، وسكنه يجاور المنزل المؤجر لمدير السجن –أي مدير لا يهم، المهم أن تجلس إلى جواره على المعقد الخلفي ويريحها من عناء المواصلات العامة، أو تضييع وقت خالها بهذه المسألة، فيما كنا نحن نعاني قبل أن تُخَصَّص لنا عربة للنقل.
هي أصغرنا جميعاً.. عذراً لا يمكن القبول بمنطق كهذا، لأن الفرق بينها وبين الذي يليها في العمر - وهو السمكري - أكثر من عشر سنوات.. هكذا يقول ملف خدمتها. وهذا ما يجعلها درة في نظرنا، نُدلِّلها ونعتزُّ بها، فهي في مقام الابنة بالنسبة لي، والأخت للآخرين.. ثم هي أنثانا الوحيدة في المكتب. ورغم صغر سنها، فَرَضَت علينا التعامل معها بِنِدِّية.. أثناء العمل بعد أيام قلائل من التحاقها، وفي زمن ميِّت من ساعات النهار، استَغرَقْنا جميعاً في أحاديث تلتقي أحياناً ولا رابط بينها في معظمها، قالت موجهة حديثها لي بصوتها الرخيم:
- «عم أحمد».. أنا لا أعمل لأن الظروف أجبرتني.. لستُ مضطرة مطلقاً لذلك، لكني أود تحقيق شئ ما في داخلي.. أصابني الملل من هذا الفراغ والشعور بالعجز أمام التعامل مع الأشياء.
أزعجتني «عم أحمد» هذه، لكني ضحكتُ وإن لم يظهر عليَّ ذلك وإلاَّ تأزم الوضع في المكتب منذ أيامها الأوائل.
قُلتُ لها:
- أكيد العمل سيُكسِبُك خبرة تستطيعين بها تجاوز كل هذا.
لغة جديدة تلك التي تَطرِقُ آذاننا. لكنها منذ التحاقها بمكتبنا أزالت عنه الجمود الرقمي، وأضفت عليه رونقاً آخر.. جعلت الحياة تدب في أوصاله، وصار له بريق يخطف الأفئدة قبل الأبصار. سوى أن شباب الأقسام الأخرى، يحاولون التودد إلينا بافتعال ظاهر يثير الاشمئزاز، رغم أن بينهم خمس إناث. كثيراً ما ألمح بعض صغار الضباط يختلسون إليها النظرات، وأحياناً كبارهم، وهم الذين «يدردشون» معنا بلا تحفظ، تراهم مرتبكين أمامها.
أما نحن، فكانت هذه التصرفات تثير غيرتنا دون معني.. ولكنها درّتنا. أجدُ نفسي أحياناً مستغرقاً تماماً في غيرتي إلى أن أنتبه لنفسي، فأضحكُ مستغرباً وأنا على أعتاب الكِبَر. المفروض أن أكون أكثر وقاراً.. أن أترك هذه المشاعر للبقية، فهي في مقام ابنتي. نعم.. هي شابة وجميلة بكل المقاييس، تبعثُ في النفس الحيوية، وتعود خلايا الشباب للتفاعل عند رؤيتها، ليس في ذلك المبرر الكافي لكل هذا الزخم من التفاعلات التي تعتمل في صدري. كان من الممكن استمرارها يوماً أو اثنين عند بداية حضورها كنوع من التجديد، لكن أن تدوم هذه الغيرة حتى الآن، هذا ما لم أستطع تفسيره. صارت شيئاً أقرب لحب التملُّك. حسنٌ جداً ألاَّ تطفح هذه المشاعر إلى السطح، وتظل هكذا متولدة داخلي.. ستموت وحدها بمرور الزمن.
أذكر أول يوم بدأت فيه سوسن مزاولة العمل. لم أضع لها تصوراً محدداً، لأن الأمر لا يعنيني من قريب أو بعيد. وإلى أن تأتى، تركتُ الأمر برمته وأنا أخطو خارجاً من مكتب مدير السجن. أوصاني بها خيراً وهو يعتقد بأنها ستكون بمثابة تجديدٍ لروح المكتب. كنتُ حينها حديث عهد بتسلُّم مهام عملي كمدير لقسم الحسابات، فعسي أن تكون خير استهلال لموقعي الجديد. اهتز رأسي أن لا باس، وقلت بإذعان قبل خروجي:
- ستكون على الرحب والسعة.. وجميعنا سيقدم لها كل عون تحتاجه.
أضفتُ إليها: «يا سعادة العميد».. تلك اللفظة التي تخنقني، ولكن لابد منها.. مسألة بروتوكولية، وهي سبب نفوري من كل المديرين الذين تعاقبوا على هذا المركز منذ تعييني.
وفي يومها الأول، دخلت علينا سوسن يرافقها «سعادة العميد»، ومن خلفه الحاج إبراهيم يحمل حقيبة، وكان وقتها المسئول عن قيادة عربة مدير السجن. فتاة تتدفق شباباً.. تصيب من يراها «بِهَاءِ السَكْت»، هذا العنفوان القافز من بين الأطراف بعفوية لا اصطناع فيها. رقيقة ملامح وجهها في وضوح دقيق.. مازالت عالقة في ذهني تلك الملابس التي كانت ترتديها في ذلك اليوم.. بلوزة صفراء فاقعة، مع جيب ضارب في السواد لا يستطيع وصفه من تعلَّق قلبه بالحسابات.. كنت أول من ندَّت عنه آهة، وسط ابتسامات مشبوهة تعلَّقت بشفتي المدير. أما أرباب والسمكري، فقد غَلَبَت على نظراتهما الحيرة، وارتسمت على وجهيهما مظاهر الاستغراب وهما يديران رأسيهما بيني والمجموعة التي اجتازت المدخل.. لم ينطقا، فقد عَقَدت الدهشة لسانيهما.. الذنب في ذلك يرجع لي، لأني لم أتذكر إطلاعهما على الأمر. حتى أنا فوجئت بالموقف، لولا استدراكي.. قدمها لنا «سعادة العميد»:
- سوسن عبد الباري..
ابتسمت هي.. نعم ابتسمت خَجِلَة بكل تأكيد.. كانت مملوءة بالرهبة، لذلك كانت تبتسم وهي تحاول كسر حدة الرهبة والخوف الذين اجتاحاها.. لكن عينيها غير المستقرتين فضحتاها وهي تنقلهما بين أطراف المكتب وبيننا.. إلا أنها سرعان ما عادت وأخفضتهما.
لماذا تأخرت حتى الآن والساعة جاوزت الثامنة بقليل؟ هي أيضا لا تعلم بالمصير الذي آل إليه الحاج إبراهيم، ذلك الذي لا تنفك تمازحه وتجادله دون مللٍ، وهو يتقبلها هكذا بكل عفوية الأب، لا يمل ولا يبدي تذمرا، حتى أنه هو الذي يكون في أشد الحاجة إلى «مشاكساتها» أحياناً. كم سيفتقدها الآن!؟ وكيف ستتلقى هي النبأ؟ توترت دواخلي، وتناسيتُ حالة الكدر المسيطرة عليَّ.. وبين دقيقة وأخرى أنهض من على مكتبي مدّعياً شيئاً لأبرر موقفي تجاه الآخرين، لكني أراهما أيضا قلقين وكأنما حالتي تَلَبَّسَتهُما.
لماذا تأخَّرَتْ؟! خرجتُ أخيراً إلى الفناء الخارجي بحثاً عن عربة المدير.. تنفستُ الصعداء لأني لم أجدها في مكانها المخصَّص، وعاد إليّ بعض من الهدوء.. عدتُ راجعاً إلى المكتب وقد بادرني السمكري بسؤال مستفسراً إن كان المدير قد حضر أم لا. ولما أجبته بالنفي، شعرتُ بالراحة تسري فيهما أيضا.. جلستُ على مكتبي أرتبُ بعض أوراقٍ تناثرت هنا وهناك، لم ينظفه الساعي اليوم مما جعل ذرات الغبار تغطيه. وتلاشت فقاعة الراحة التي سيطرت عليّ منذ قليل. الكل مازال غارقاً في صمته. تنقلتُ بنظراتي في أرجاء المكتب، أركانه لم ترحمها يد منذ زمن، حتى عَلَقَت بها خيوط العناكب النائمة في هدوء، وقد اصطبغت بلون أقرب إلى لون التراب. السقف الأبيض لا علاقة له باللون الأبيض الآن، سوى بعض الآثار التي تدل على ماضٍ تليد. طبقة الطلاء تساقط معظمها، وبعضها تدلَّت جنباته في وهن. ومن السقف تدلَّت مروحة تحاول فرض وجودها بدورانها الواهن، خاصة وأن جهاز التكييف قضى عليها قبل أشهر، فأفقدنا طعم التعلُّق الشديد بها، وإن كنا نكن لها ود خاص، لأنها تحمل رائحتنا.
على مبعدة مني – يميناً – يقع مكتب عثمان أرباب، وعلى يساري مكتب السمكري، نِعْمَ المرافقين في قمة عصر الدواوين.. لم يفارقاني في زمن التردي.. أما سوسن فتجاور السمكري، وينتصب واقفاً خلفها دولاب محكم نحتفظُ فيه بكل سجلات الحسابات وما يتعلق بتسيير العمل. والمَعْلَم البارز إلى جوارها هو كرسي حمد الملك. خلفي تقف خزانة شامخة كالطود، وهي ما يميزنا عن سوانا، لذا فاهتمامنا بها عظيم، تبدو لامعة دائماً، لا ننتظر الساعي حتى يمسحها مما علق بها، بل يقوم أي فرد منا بذلك دون شعور بالدونية. هذا اليوم لم يلتفت أحد إليها ولا بما علق بها.
دخل علينا حمد الملك وأنا في قمة استغراقي. أول ما اتجه إليه نظره مكتب سوسن الخالي. تربطه بسوسن علاقة غريبة لا أمل لها في خاتمة مرجوة.
قالت له في حزم:
- يجب حساب كل شئ بدقة وواقعية.
قال في رجاء:
- لا علاقة للعواطف بحساباتك، ولا تنسي أن العواطف تتجاوز الواقعية إذا أشتد العزم.
قالت ضاحكة في ود يحمل استخفافاً:
- يمكنك تجاوز الواقعية بعواطفك فقط، أما عند التقاطع يستحيل التجاوز، ويبقي الواقع هو المسيطر في النهاية، ولا مجال للتجاوز.. لذلك إصراري على الحساب والتعامل بمنطق الواقع.
قال في إصرار وعناد:
- سأحاول تغيير منطقك هذا.
سألته وقد أتخذ وجهها طابع الجد:
- قل لي كيف ستستطيع عمل شئ براتب شهري. أنت الآن تتحمل مسئولية نفسك فقط.. حتى أسرتك لا تحتاج إلى شيء منك، ومع ذلك تئن.
- هي حالة عامة وليست خاصة بي.
- نعم هي حالة عامة لذلك أتعامل معها بهذا المنطق ولا أود الدخول في تجربة تشير كل دلائلها إلى الفشل.
قال في استسلام:
- ما العمل إذا؟
قالت بعد هدوء انفعالها:
- أنت زميل وصديق.
لكنه مازال متعلقاً بأذيال العشق والوله عسي ولعل. «أسوأ أنواع القَهْرِ، قَهْرُ الرجال..»، يغيظه بها السمكري دائماً. وأنا أعَذِّبه بمقولة سيدنا على: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، ولم يستسلم.
سألنا، بعد أن تيقن من عدم وجود سوسن، عن سعادة المدير. وعندما علم أننا متابعون الأخبار مثله، أخبرنا أن الحاج إبراهيم اجتاز بوابة السجن متجهاً إلى مكتب المدير. رآه وهو في طريقه إلينا. لم يخطر ببالي مثل هذا الموقف من قبل ولا كيف أتصرف حياله. قبل قليل كنت أفكر في موقف سوسن.. أما أنا..!! داهَمَت عقلي كتلة من الضباب أصابتني بالشلل والبلادة. يبدو أن الآخرين يعانيان ذات الشيء، لأني وجدتهما يقفان بشكل لا إرادي عند سماعهما النبأ. وبدأت معاناة جديدة في الفترة بين سماعنا النبأ وتوقعنا لظهوره أمامنا. لا يمكن أن يعود بعد لقاء السيد المدير دون لقائنا. وكان علينا انتظار قدومه بين لحظة وأخري، وليته لا يفعل ليكفينا مغبة مواجهة هذا الموقف. أن يموت، وإن كانت فكرة قاسية، لكنها حتمية وقاطعة، أرحمُ على النفس من هذا الذي يحدث الآن. هو جزء منا.. عضو مهم يمثل عموداً أساسياً داخل تكويننا النفسي لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة، خاصة بالنسبة لي وقد التحقنا بالعمل في فترة متقاربة، وعليَّ أن أراه كل صباح، وعند نهاية يوم العمل، وما بينهما مرات. انه إدمان بمعنى من المعاني. كل منا أدمن الآخر. ثم ماذا بعد كل هذا؟! هو ليس بوزير حتى تكون له مخصصات، ولا هو من ذوي الحظوة. ما أقلقني بصفة خاصة، كيف سيبدو بدون عربة؟! إن تعلقه بعمله وبنا سيجعله كالمجنون.. أنا أعرفه.. ثم أنه أبٌ لسبع بنات.
قال لي مرة، وقد أنجَبَت امرأته بنتاً خامسة:
- ليته ولد.
- أنت رجل مؤمن.
- أود الإحساس بالطمأنينة، هم أيضا يرغبون في ذلك. هنالك طعم مفقود في البيت.
لم استطع السير خلف تصوراتي، فوضعتُ يدي على رأسي بقوة، وأغمضتُ عيني كأني بذلك أوقف عجلة التفكير. إنها أول هزة عنيفة لكياني على صعيد العمل.. كياني المستكين دوماً إلى رتابة ودعة وهدوء «مُقرِف». هزة، وإن لم تصبني مباشرة، لكني لم احتملها. عِقْدُنا هذا منظوم لدرجة أننا صرنا شيئاً واحداً، لا يمكن التفريط في أي منا. رفعتُ رأسي قليلاً محاولاً الخروج من حالة الإحباط الذي تراكمت كثافته حول صدري، ولكي أري ما صار إليه الآخرون.. عله يكون معيناً لي في الصمود. لمحته من على البعد. إنه بلا شك قادم نحونا.. خطواته متعثرة، واهنة.. إنه يقترب، وأنفاسي تزداد سرعة. إنه يقترب.. وقف بلا حراك أمام الباب.. نفذت طاقته، ولم يقو على التحرك أكثر من ذلك. ياه.. بؤس يقف على قدمين.. لابد وأنه مريض، كأنما صار عمره مائة عام.. شعره الناصع البياض صار أقرب إلى لون التراب.. ظهره انحني إلى الأمام في إعياء ظاهر.. حاول التماسك والوقوف منتصباً مدة أطول.. لم تسعفه قواه.. خانته هذه المرة رغم محاولاته اليائسة.. انهار على أقرب معقد بجواره.
دمعة لم تستطع الصمود طويلاً أمام محاولات حبسها، فرّت من محبسها. أدرتُ وجهي إلى الناحية الأخرى، لكنه رأي ما حدث.. نهض في ضعف متجهاً إليَّ وهو يبتسم، أو هو شئ أشبه بالابتسامة ارتسم على شفيته.. أما عيناه فكانتا تطفحان بأسي لم تفلح تلك الابتسامة في محوه.. تمنيتُ إلا ينهض.. بقاؤه في مكانه سيجمد الموقف مدة أطول.. أجمع فيها أنفاسي على الأقل.. تملكتني حالة رعب ذهنية ارتجفت لها أوصالي وأنا استبسل في محاولتي للنهوض لمصافحته.. الصبر دون قدرة يولِّد الانفجار.. هذا ما حدا بدموعي للانهمار وأنا احتضنه بعنف.. لا يوجد سوي البكاء الآن لراحة النفس.
وفي غمرة تداعيات الحزن انبثقت مزحة من حمد الملك حين قال مخاطباً الحاج إبراهيم:
- أخيراً ستغادر السجن إلى غير رجعة.. أطلقوا سراحك بعد ثلاثين سنة.. إنها مؤبد.
تبعه أرباب:
- إلا إذا شاء البقاء داخله.
قالها عثمان أرباب في صعوبة وضعف ليتلاشى الغرض منها. إنه لسخفٌ أن تمزح في موقف كهذا.. بدا لي الأمر كذلك. لكني أسمع الحاج إبراهيم يقهقه ضاحكاً. القهقهة لها طعم غريب الآن.. ليست صافية ذات رنة عَهِدناها تخرج من أعماقه.. هي الآن تخرج وقد امتزج داخلها كل شقاء الموقف.. تغير وجهه وسقطت ابتسامته الباهتة.. هدأنا قليلاً.. صمتٌ موحش لف غرفة المكتب بعد تلاشي القهقهة تلك التي شحنتنا بالتوتر من جديد.
حاولتُ تثبيت نظراتي تجاهه وأنا أسأله:
- ماذا حدث؟ أمس تركت كل شئ على ما يرام قبل فراقك.
انطلقت منه آهة.. آهة مزَّقت وحشة الصمت، وشدَّت حبال التوتر والحرج.. آهة أخرى وينهار جبل الصبر وقوة التحمل.. زمَّ شفتيه وهو يقول:
- تصوروا المدير لا يستطيع مواجهتي بالقرار.. يرسله لي مع السكرتيرة وهو خارج.. تصوروا!!
ضرب كفا بكف وهو يستندُ بظهره على المعقد.
ثم قال السمكري محاولاً التخفيف عنه:
- المدير لا علاقة له بإصدار مثل تلك القرارات، إنه عبد المأمور.
قال أرباب وهو مطرق في وجوم:
- لا أمان لهم.. دائماً يطعنون من الخلف..
- لا أري سبباً يفصلني عن عشقي..
ثم تابع في ضعف:
- لم أذُق للنوم طعماً منذ الأمس.. حتى الأكل لم أقربه وكأني مصاب بداء غريب.
- هوِّن عليك يا حاج، فالأمر لا يستحق كل هذا.
- حضرتُ اليوم لسؤال المدير إن كان بي عيب أو قصَّرتُ في عملي.. لكني لم أجده.. ثم تابع في حشرجة ظاهرة.. إذاً دلوني أنتم وقولوا لي ما الأمر؟!
قال حمد الملك:
- إنهم لا يريدون الذين يعملون بإخلاص. كل الذين نسمع عن فصلهم من الكفاءات، علمياً وعملياً.
قال السمكري:
- للحق مفروض أن تُكَرَّم بدلاً من هذا التصرف الأرعن، لكنهم يريدون تعيين أحد الموالين لهم.
صرخ الحاج إبراهيم في أسى:
- إذا أين العدل؟! لقد انكسر شئ ما في داخلي، وبدأ يقيني في الاهتزاز لدرجة أنني كدتُ أن أجن لهذا الهاجس ليلة أمس.
قلت في انزعاج:
- إرحم نفسك قليلا يا حاج، أنت رجل صبور ومؤمن. لا تجعل ثقتك في نفسك تهتز.
- إذا واجهتم مثل هذا الموقف ستفقدون قطعاً ثقتكم في كل شئ. على الأقل لو كان هنالك مبرر، لارتحتُ قليلا.
قلتُ له:
- معك حق، لا أمان لهم.
وفي غمرة انشغالنا بالحديث دَخَلَت علينا سوسن، وكنا قد نسيناها.. هيأ لنا دخولها فرصة الاستقرار إلى أنفسنا، ولو إلى حين. وبدأت لحظة ترقب كنا في انتظارها. ألقت علينا التحية في أدب كما تفعل كل صباح، فقط وجهها صارم القسمات هذه المرة، ملئ بقوة لم نعهدها فيها من قبل.
اتجهت إلى حيث يجلس الحاج إبراهيم. صافحته ثم قالت له في قوة:
- أود تهنئتك بدلاً من التعزية التي تحملها الوجوه الآن. أولاً خرجت نظيفاً لا تشوبك شائبة، ثم إن العمل الحكومي صار غير مُجْدٍ.. كلنا يعلم ذلك، لكنكم جبناء تجاه الوظيفة، وقد اعتدتم عليها وعلى الحلول السهلة.. أنت تملك مهارة وخبرة ستفيدك في إيجاد عمل آخر بمزايا أفضل بكثير من كل النواحي، خاصة وأنت ما تزال قادراً على العطاء.
سيطرت على فكرة أن أقفز مصفقاً لها بكل قوة إعجابا واندهاشاً. الشجاعة دائماً تخذلني في فعل أشياء جنونية تريح القلب، وتجعل من الحياة عنفواناً يقلل من الكآبة والتوتر. كيف لم تراودنا فكرتها تلك التي نزلت برداً وسلاماً عليّ قبل الآخرين. اختلجت جوانحي انفعالاً وأنا أجلس بلا ضمير مُثقل.
سأل الحاج إبراهيم سوسن عن المدير إن كان قد وصل. ولما كان الرد إيجاباً، شكرها وهو يخرج بخطواته المثقلة، مَحنِي الظهر من ثقل ما يحمل رأسه من هموم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق