أطول نهارين في تاريخ حياتي كان أولهما يوم أمس الجمعة.. تلك الجمعة التي استيقظت فيها باكراً على غير العادة.. لم أفعل شيئاً - والوقت يزحف - سوي الانتظار، وانتظار ماذا؟ هو السؤال البليد والمقلق. ظللتُ على حالتي تلك حتى منتصف النهار. ومع ارتفاع صوت آذان صلاة الجمعة الأول، تَفَاعَلَت في داخلي مشاعر شتى. نهضتُ لتأدية جميع الطقوس الأولية قبل الذهاب لأداء الفريضة. هي أول مرة منذ زمن سحيق أؤدي فريضة الجمعة، أو أدخل مسجداً.. تداخلت المشاعر– وأنا وسط الجمع – بين الرهبة والطمأنينة. خرجتُ من داخل «الابيضاض» المتدفق وأنا ملئ بالعزم على الصلاة ومواصلتها.. ولكن عزيمتي كانت دوماً مليئة بالثقوب، فسرعان ما تتبخر هواء رطباً.
ولما عدتُ من المسجد، التقيتُ و«نظرات زينب»، تلك النظرات التي تذكرني بأنني لستُ على ما يرام طوال الأسبوع المنصرم. لم تشأ إقلاقي بتساؤلاتها، وقتلت «التماعاً» ساخراً حاول الإطلال من بين نظراتها المتسائلة. ولكني حصيف لأفهم ما تود قوله دون أن تنبث ببنت شفة. طلبتُ منها كوب ماء قبل جلوسي على طرف السرير، ولما تأخرت قليلاً بدأ الغيظ ينهشني، فصحتُ حانقاً استعجلها، فأتت مهرولة تكاد أن تنكفئ على وجهها.. رغم إحساسي بالشفقة عليها، إلا أن بعض السعادة والطمأنينة طفحا داخلي، وأنا أقرر لحظتها صيغة جديدة للتعامل معها، أفرضها قبل استفحال الأمر.
قضيتُ بقية نهاري يأكلني التوتر وقلق الترقب والانتظار. لا أدري لنفسي وجهة أو مستقر. ولم يطاوعني النوم ليخفف عني قليلاً. ذهني كطاحونة هواء تتحكم فيها الريح، تُسرِع مرة لترتفع معها تفاعلات تغلي كالمرجل داخلي، وتبطئ أخرى لآخذ أنفاسي. ليس أقسى على الإنسان من انتظار المجهول.. حقيقة قرأتها كثيراً، إلا أني لم استوعبها إلا هذا النهار. أبخرة من الغضب تتصاعد من منطقة الحجاب الحاجز لتصل أعلي الرأس في منطقة الجبهة بين الحاجبين. أهوِّن على نفسي الأمر لكي لا يصيبني شلل، فأنا – بأمر الطبيب - مصاب بارتفاع في ضغط الدم منذ يوم أمس. لكن جزء ما في منطقة التجويف الصدري يرفض الاستسلام، فيغلي ليبث في محيطه الأبخرة المتصاعدة بين الحين والآخر.
تَتَابَع الموقف ذاته حتى اختفاء الشمس وراء حائط الدار إيذانا ببداية انتهاء النهار. وجدتني أقفز من سريري مقرراً الانتعاش بحمام بارد، ثم الخروج إلى جهة يمكنها أن تشغلني بقية الوقت. ارتديتُ جلبابي الذي أدَّيتُ به صلاة الجمعة وأنا ألف عمامتي بإتقان زائد. خرجتُ من الدار بخفة غريبة وانتشاء غامر. سارت بي قدماي في اتجاه دار عثمان أرباب، الذي يبعد عن داري بحوالي واحد كيلو متر، لكن الأزقة تجعله يبدو أبعد من ذلك. لم أسر في الاتجاه مباشرة، بل فضلتُ أخذ اتجاه آخر لكي تطول المسافة. فبدلاً من التعريج يميناً، عرجتُ من باب داري يساراً.. أظلمت الدنيا تماماً وأنا أمام دار عثمان.. وجدته في كرسيه الدائم على ناصية المبني يدخن في استرخاء.. عانقني بعنف كشخص يؤنبه ضميره.. ألحَّت على نفسي هذه الفكرة وأنا أبادله العناق. ولكن، ما ذنبه إن حل محلي في كرسي الوظيفة؟! هذا ما قلته في نفسي طارداً الخاطر الأول وأنا أفلت من قبضته. جلستُ بعد أن أحضر كرسياً آخر وهو يخيرني بين الشاي بالحليب أو السادة. رفضتُ العرضين وأنا أطلب كوباً من الماء البارد.
قلت له بعد فترة صمت متسائلاً:
- هل أحضرتها أم ما زال الوقت مبكراً؟
نظراته وملامح وجهه يدلان على عدم الفهم. ثم بدأ في تجميع خطوط استيعابه لتتضح الرؤية أمامه، عندها ضحك وهو يحاول التغلب على موجة سعال ألمت به أثناء الضحك.
قال لي بعد انتهاء نوبة ضحكه:
- سيأتي جارنا بعد قليل ليأخذ مني قيمة الزجاجة.
عثمان معروف عنه عشقه للخمر، فهو عادة يأتي إلى المكتب مشتعل العينين، وتنبعث منه رائحة خفيفة، رغم محاولاته الجادة لإزالتها.. هذا في الصباح، أما بعد الظهر، فيتثاءب في ضجر وفتور، ثم يستلقي على المكتب.. هذا عهدي به.
قلت له في صوت جمعتُ فيه محاولات العارف المتمرس:
- أرجو أن تعمل حساباً لوجودي اليوم، لكن بشرط أن أشارك في دفع نصف القيمة، أو أدفع حساب العشاء.
اتخذ وجهه شكل «العبط» وهو يحملق في وجهي دون أن ينطق في بادئ الأمر. تحولت نظراته، وقد اكتست ببريق، إلى شئ أشبه بنظرات حرمنا المصون هذه الأيام. أعلم أن المسألة مثار دهشة واستغراب، لكن ماذا في ذلك؟ لستُ أول من يتعاطى الخمر، ولن أكون آخرهم. حقيقة هي بالنسبة لي أول مرة، وهو ما جعله يتخذ هذه الهيئة، لكن ماذا في ذلك؟
قلت في انكسار:
- أردتُ الاستمتاع قليلاً..
وواصلتُ في ضعف:
- ثم إنها تنسي بعض الشئ مرارة الهزيمة والبؤس.
تهلَّل وجهه كأنما انتشلته من هاوية كاد الانزلاق فيها، وصار أكثر مرحاً وهو يفرك يديه بين مصدق ومكذب. وقال لي تغمره انفعالات شتى:
- إذا سأوصيه على طلب خاص. ما رأيك في الجوافة؟!
ضحكت متسائلاً:
- رأيي أنا؟! وهل سيكون لي رأي؟
- بعد ما شاب دخل الكتاب..
قالها وكأنما انزلقت منه دون قصد، لأنه سرعان ما اعتذر لي بعينيه. ولما كنت في حاجة لأكبر قدر من المرح لم أقبل اعتذاره، بل ضحكتُ ملء فيّ حتى كدت انقلب على «قفاي» معلناً له مطالبتي بالمزيد.
انفراج كبير حدث في داخلي فور وصول الجار الوقور.. أخرج من داخل عربته «الفولوكس» كيس مليء بالسائل الذي لا لون له، وذو رائحة نفاذة، وهو يعلن لعثمان أنه لم يمر عليه لأنه كان خارج المنطقة، وفضَّل اختصار الوقت والوقود.. وهمستُ في أذن عثمان أن لا بأس.
مضي الجار الوقور بالسلامة وأنا في لهفة للتعاطي، فيما بدأ عثمان مراسم خاصة تحضيراً لمجلس خاص. وبدوتُ وأنا مترقب انسكاب الكأس الأولى في قمة توتري.. ناولني عثمان أرباب أول كأس خمر في حياتي.. فضَّ عُذرِيَّتي.. طعمٌ لاذعٌ لسع جوفي، وسرى كالنار في صدري قبل اتكاءته قليلاً على فم المعدة ليستقر فيها.. ما زالت عضلات حلقي منقبضة وأنا أتناول الكأس الثاني من عثمان.. آه.. زفرتُ في ارتياح ورعشة اهتز لها جسدي كله.
ملامح ابتسامة بدأت ترتسم على وجه عثمان وهو يسألني لحظتها:
- ما الذي هداك إلى الشراب اليوم؟
ابتسمتُ وفي داخلي مرح لا يسعه الظلام من حولنا، يود لو يتمطى ويغمر الكل. قلت له:
- الصالح العام!
ضحك عثمان جزلاً، ولكنه سرعان ما كبت الضحكة ليقول لي في جدية لا تتناسب وحالتي الراهنة:
- لا تستسلم لليأس يا رجل.. يقولون أن هنالك لجنة لمراجعة كل القرارات الصادرة.
ضحكتُ وفي حلقي مرارة لا أدري أمن الخمر هي، أم من «اللجنة»، وقلت له في سخرية:
- لجنة!! أي لجنة هذه؟ هل يستطيعون في ساعة من جلستهم تقرير مصير ثلاثين سنة من عمري في الخدمة.. هل تصدق هذا؟ ثم هل راجعوا ملف خدمتي قبل إصدار القرار؟
أطرق عثمان قليلاً وهو يسكب كأسين من الخمر، وبعدها قال في صوت منخفض:
- لا علاقة لملفات الخدمة بما يجري الآن.. إن أسبابهم كثيرة، إلا ملفات الخدمة.
قلتُ منفعلاً:
- لا أجد لهم عذراً واحداً.. أنا لا علاقة لي بالسياسة ولا بغيرها.. كل اهتمامي منصب على عملي.
قال عثمان:
- هم يعلمون أنك لا تميل إليهم.
قلتُ ومازال الانفعال مسيطراً:
- ليذهبوا إلى الجحيم، أنا لا أميل لهم ولا لسواهم كما تعلم، وأمامك الحاج إبراهيم، ذلك التقي الورع، أم هذا لا يكفي.
قال عثمان مؤيداً:
- ما حيَّرني هو الحاج إبراهيم.. لا أدري كيف يصنفون البشر.. إما أن تكون معهم، أو يعتبرونك مارقاً.
قلت له في حدة:
- ناولني كأس أخرى.
زفرتُ مرة أو اثنتين، لست أدري.. وبصقتُ بعد تجرعي الكأس بتلذُّذ مجرب عتيق.. أخذ منا السكر مأخذا ليس بعيداً. شهقتُ شهقات متواليات قبل أن أقول لعثمان بأنني سألجأ إلى محامٍ يساعدني في استعادة حقوقي المسلوبة. راقَت لي الفكرة، وتفاعَلَت مع الخمر المتحفِّز للتفاعل مع كل الأفكار في رأسي، قبل أن أطرحها على عثمان. ومع «تجليات» الحالة، تفتقت أذهاننا عن أفكار ومرافعات و«عرضحالات» تُقنِع أكبر هيئات المحلِّفين والقضاة. عرض عليَّ عثمان مقابلة أحد أقربائه.. أستاذ محامي ضليع له باع طويل في دروب ومسالك القانون ودهاليز المحاكم.. يعرِّفني به ويحمله على تبني قضيتي دون مقابل.. فهو عزيز عليه. اتفقنا على اللقاء بعد يومين لأني سأقابل الطبيب غداً.
ودَّعته بعد فشلي مرتين في محاولة النهوض من على الكرسي.. استندتُ إلى ذراعه وأنا أتلمس بأطراف حذائي مواقع قدمي.. سرتُ تملأني النشوي وتلفحني نسمات باردات غابت عنا طوال النهار، ومع امتداد تكاثف الظلمة، امتد صمت عريض. وأنا بين البدايات والنهايات أعاني.. أتمرغ.. تحتدم في داخلي نوازع التمرد والعصيان، وغابات من السكون الفضائي بين هذا وذاك.. أترنح.. أجرجر قدمي بين الطرقات الخالية.. أصارع أمواج داخلية.. أخرُجُ منها لأقع في مستنقعٍ روائحه تصيبني بالغثيان حين أذكرها.. شربتُ من روائحه.. تنفستُ في وحله ما لا يمكن احتماله.. وحيُّنا نائم في استسلام لمصيرٍ غير واضح المعالم.
«أنا عظيم.. نعم.. عظيم عظمة هذا.. هذا..».. ما لها لا تأتي هذه الكلمة اللعينة، يكاد لساني أن يمسك بأطرافها، لكنها تهرب وتتراءى مرة أخرى. عليها اللعنة.. المهم أنا عظيم.. لن يستطيع هؤلاء الأوباش النيل مني مهما فعلوا.. «لن تستطيعوا النيل مني أيها الأوغاد».. وقفتُ قليلاً مستنداً إلى حائط.. «نعم أوغاد، لا تعرفون سوي الغدر ولا تجيدون سوي الخيانة واللعب خلف الظهور. لا تقدرون على المواجهة. أما أنا فعظيم رغم أنفكم».. بصقتُ من داخلي كل التفاهات وصرت قوياً.. صدري ملئ بقوة تجابه أعظم المخاطر.. «ما لكم لا تأتون الآن أيها السفلة».. خطواتي لا تقودني الآن، بل عقلي هو الذي يقودني تجاه الدار.
هي – طبعاً – أيام مفاجآت بالنسبة لزينب، والمصائب لا تأتي فرادى، باعتبار أن حالتي وقتها مصيبة. لقد استطاعت الظروف كسر حاجز الرتابة المسيطر على حياتنا الراكدة. تحركت النفوس وصرنا نتفاعل مع المحيط. هذا الحجر الساقط على بحيرتنا أثارها بدرجة ما وأثَّر فيها. رغم عمق مأساتي، لكن للأمر جوانب مشرقة، تجعل للحياة طعم غير طعم الخبز.. وللهواء رائحة غير تلك الرطوبة المستوطنة في صدورنا.. شَغَلَتنا قسوة الحياة عن الالتفات إلى الحياة نفسها، ونحن منغمسون في البحث عن قطعة خبز.. توفير قطعة أخرى لغدٍ غير مأمون العواقب.. تناسينا الفرح، أو هو تناسانا في غمرة انشغالنا عنه.. صرنا كآلة تأكل لتعمل، وتعمل لتأكل.. لا مجال للاسترخاء والتفكير، أو حتى الابتسام، ناهيك عن الضحك بعمق، لأنه لا أحد يدري ما سيحدث أو يتوقعه، وهذا يتطلب مني السعي، والسعي الدءوب، إن كنتُ لا أود الموت جوعاً في غدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق