عيادة دكتور «….»، بكالوريوس طب وجراحة جامعة «…»، دبلوم أمراض عصبية ونفسية – ماجستير ودكتوراه جامعة «…»، زميل جمعية الأمراض النفسية والعصبية «…»، لافتة لامعة بخط جميل وأنيق، مادته عاكسة للضوء.. أعلى اللافتة وضعت لمبتا نيون تُكَثِّفان الضوء داخل اللافتة. رغم عوامل الإبهار والإبداع المنعكسة منها، إلا أنني قرأت المعوذتين ثلاث مرات قبل الدخول، وتلعثمت وأنا استحضر آية الكرسي.. دخلتُ وفي داخلي هم واضطراب وصور شتى معلقة في ذهني، أصابني إحباط حقيقي وأنا أقتحم عالماً توقعته حافلا بالفوضى والنشاز. عالم هائج مائج لا رابط يحكمه. لكن المبني الذي تقوم عليه العيادة فاخر، تتوسطه حديقة أنيقة مريحة بتناسقها مع اختلاف شجيراتها وأزهارها.. عجبي!! هو موقع «للفن» وليس «للجن».. أم كما يقولون «الجنون فنون»، وليس العكس. تناثرت حول الحديقة وداخل بساطها الأخضر مقاعد كثيرة، قليل منها خال والبقية عليها مرضي ومرافقين في انتظار دورهم للدخول إلى الطبيب.
تقدمت بحذر تسيطر علي حالة من الفوضى وأنا أتجه نحو موظف الاستقبال. أمليتُ عليه اسمي بعد تردد، وبصوت اضطره للاستفسار أكثر من مرة. تلفتُ بعدها بحثاً عن مقعد منـزويٍ أخفي فيه اضطرابي وحالة الفوضى التي اعترتني. اخترقتُ جموع الجالسين وأنا أنظر في اتجاه المقعد الذي اخترته. لا تسعفني الجرأة في تأمل الوجوه والتي أحسها تلسعني بنظراتها. هل يظنون بأنني مجنون؟! نزل الخاطر على رأسي كالمطرقة.. انتفضتُ مع هزات من رأسي كأنني أطرده من مجالي العقلي. وطاف خاطر بذهني أن يكون من بين الجالسين أحد معارفي، أو بعض أقاربي. استعرضتُ في الحال جميع من قفزوا إلى محيط ذاكرتي، والذين يمكن أن يرتادوا هذه العيادة.. كدتُ أصرخ بأنني لست بمجنون، وأن الأمر لا يعدو مجرد استشارة.. وقفتُ برهة ورأسي ملتصق برقبتي، لم أقو على الالتفات حولي لمعرفة وقع وجودي بينهم.. لعنتُ الوظيفة وأخصائي الباطنية الذي حوَّلني، ولعنتُ كرشي.. وأخطر ما في ذلك لعنة كرشي.. هي أول مرة أفعلها.. أخيراً جلستُ على مقعدي المختار، واتجهتُ ببصري إلى أطراف حذائي والعرق متصبب من جسدي، لأجبر نفسي على اللامبالاة.. هكذا قلت.. إن إرادتي مثقوبة لا تقوي على الصمود طويلاً.. فها هو الارتجاف يصيبني أثناء محاولاتي إخراج منديل من جيبي لأمسح العرق المتصبب من وجهي.. أنقذني صوت تلفزيون صادر من مكان ما داخل العيادة.. لم أنتبه لوجوده من قبل لانشغالي في ذاتي.. رفعتُ بصري في سرعة بعد تحديد موقعه، مُرَكِّزاً عليه دون سواه، ثم بدأتُ في تحريك رأسي في بطء وحذر لجس النبض من حولي.. شملتُ المكان بنظرات جانبية متوجسة إلى أن تمكنت من السيطرة على نفسي لأتابع نظراتي في هدوء.
صدمتني الدهشة.. لا أحد مهتم لوجودي. داخلني شك للحظات في ذلك. قبالتي يجلس شاب أنيق وسيم لا أجد مبرراً لوجوده هنا. هو مشغول في ذاته. لا يعنيه وجود الآخرين ولم يجذبه التلفزيون. ولكنه يهز قدميه في توتر ظاهر. ربما هو مثلي ليس بمجنون، إنما كل ما في الأمر مجرد استشارة.. على مبعدة منه تجلس فتاة.. لا، بل امرأة شابة.. علامات الزواج واضحة عليها.. إنها تبتسم ولا تلبث أن تضحك.. صوتها فيه رنة رقيقة، أشبه بوجهها الرقيق الملامح.. بجوارها امرأة في الخمسين.. ربما.. أو هكذا يدل مظهرها، تحاول تنبيهها وزجرها بشتى السبل.. في وجهها ضيق وامتعاض وشئ من الندم.. أمها بلا شك، فهي تشبهها بدرجة كبيرة رغم البدانة التي تخفي بعض الملامح.. نَظَرَت الفتاة ناحيتي ثم ابتسمت، وأعقبتها بضحكة.. ارتسمت على وجهي ابتسامة ضعيفة رغماً عني.. ارتجفتُ.. راجعتُ نفسي من أخمص قدمي حتى صدري، أما وجهي فلا أستطيع رؤيته، ولكن يمكن وضع صورة له بهذه العضلات المتقلصة رعبا.. أخفيت كرشي، أو موضعها، بوضع كلتا يدي على مكانها.. ربما تعرفت المرأة على وجهي.. استعرضتُ وجوها كثيرا في خيالي وفي جدران الذاكرة الأخرى.. تَقَدَّمَت المرأة الجميلة نحوي، وأمها مستبسلة في محاولة لمنعها من فعل جنوني لا تُحمَد عقباه، وأمنيات كثيرات مني ودعوات لنجاح الأم في السيطرة على الموقف.. فشلت الأم، وتصبَّبتُ أنا عرقاً أثناء محاولاتي الغوص داخل مقعدي.. لكنها تقف الآن أمامي. حيَّتني في عذوبة ونضارة وهدوء لم أطمئن لها.. ابتسمت الأم في ارتباك للتخفيف عني وهي تهز كتفيها تعبيراً عن فشلها، ونظرة منها تدعوني للتحمل بعض الشيء.. لكنها هادئة، انحنت ناحيتي أكثر مع تراجعي إلى الوراء. قالت لي في صوت هامس حالم:
- تزوجني عبداللطيف قبل شهرين في دار الرياضة.. سجل القطعة باسمه واستلم العشرين ألف جنيه وعذريتي ثم طلقني.. تَخَيَّل!!
«تَخَيَّل» هذه قالتها بعد وقفة وفي عنف.. وتخيَّلتُ أشياء كثيرة طبعاً. ما لم أتخيله هو كيف أرد عليها، أو ماذا أقول لها. تنفستُ الصعداء وهي تعفيني من الرد عليها بتراجعها إلى حيث أمها، وفجأة بدأت في الانتحاب في تشنج وهستيريا تمزق لها قلبي. حاولتُ الخروج من هذا المأزق بالتأمل في الآخرين. بعضهم توحي وجوههم بالارتياح، كأنهم بلا متاعب في هذه الدنيا.. ولم استطع المتابعة. غرقتُ في ذاتي مرة أخرى. تمنيتُ وجود زينب بجواري الآن.. دائماً ما أذكرها عند المآزق. سأنشغل بالحديث معها عن الآخرين، ففي ضعفها أجد القوة والمقدرة على الصمود. لكنها ربما سخرت مني لأن لها عالمها الذي لا تبدِّله بهذا. رغم الأناقة والثوب الحضاري والعِلْم.. هي لا تعتقد في العِلْم، أو بالأحرى لا تعرفه لكي تعتقد فيه. عندما يذكر اسم «بَعْشَر» أمامها، تستعيذ بالله خمساً، وتلعن إبليس وهي تستنجد بأوليائها.
زفرت في ارتياح حين سمعت اسمي يُنادَي عليه.. نهضتُ في صورة أشبه بالوثوب. وعلى عجلة تأكدت من حالة هندامي، وتقدمت.. تقدمتُ بخطي مصطنعة الثبات. الآخرين غير مهمين الآن. فقط على موظف الاستقبال الاقتناع بأنني لست مريضاً. عندما طلبتُ منه معرفة قيمة الاستشارة - رغم ضخامة المبلغ المطلوب – لم تنعكس الدهشة على وجهي. ناولته المبلغ المطلوب وأنا شاكر، مع ابتسامة عريضة من فرط الثقة. تصرف مجنون، خاصة وأنني في أشد الحاجة إلى مبلغ كهذا.
خطوتان للأمام.. خطوة للخلف. صوتٌ كالمطرقة يتخلَّلُني.. مجنون.. مجنون.. ما هذا!؟ وكيف بلغت بي الحالة هذه الدرجة؟! عند اجتيازي لمدخل غرفة الطبيب، والصوت مازال يطاردني، قررتُ التراجع والاعتراف بالهزيمة.. سيعوضني الله خيراً عن كرشي، سبب الأزمة. ها هو صوت مرحب بي.. أزعجني الصوت.. اعتقدته ضمن التهيؤات التي تسيطر على مخيلتي الآن.. تكرار الصوت أعاد إلى قلبي الثبات.. إنه يدعوني إلى الجلوس.. كل هذا ولا أرى مصدر الصوت، شئ أشبه بالحلم. آه من هذه الأحلام التي تسكنني وكأنني بيت مهجور تتراقص داخله الأشباح. ذات الصوت يتعالى في نبرة مليئة بالدهشة والمعرفة.
- أحمد الخال!! كيف حالك.. ما بال صحتك متدهورة؟!
الليلة حبلي بالمفاجآت. ورفعت بصري.. ثم رفعت بصري كرتين. لكنه هو.. هو نفسه «دكتور جِنْ» بانطلاقته وعفويته كأيام استضافوه معنا قبل سنوات قلائل. استضافوه ليلة واحدة فقرر البقاء بجوارنا قرابة التسعة أشهر.. هذا ما يقوله هو. انتقل بعدها ليتشرف باستضافته سجن مدينة أخرى. ها هو الآن طليق يجلس خلف مكتبه وحول عنقه سماعة طبية. كنا نطلق عليه اسم «دكتور جِنْ» لاعتقادنا بحاجته إلى العلاج النفسي أكثر من غيره. وهو اعتقاد ترسخ الآن في ذهني. يرتدي بذلة كاملة، بنفسجية اللون، وربطة عنق حمراء، وقميص أصفر اللون.. أي اختيار هذا!؟ حالة سعادة تفجرت داخلي.. كل مشاغل الدنيا، وطول المدة، ومازال يذكرني؟! ليتني أحتضنه لأدفن الهم المستوطن. وكان لقاءاً حاراً اكتفيتُ فيه باحتضان يديه قائلاً:
- أهلاً يا دكتور.. كيف حالك؟
ومجموعة أسئلة تقليدية قذفتها في وجهه خاصة بأحواله، ثم تنهدت بارتياح. جلستُ مرة أخرى وطفق هو يتحدث في شراهة من صمت طويلاً. مشهور بالثرثرة وسط مجموعته. يقفز من موضوع ليمتطي صهوة موضوع آخر لا علاقة له بالأول. وتدفق لسانه ذكرياتٌ ممتعة بما تحمله من معاناة وقسوة.. المتعة في كونها مجرد ذكريات.
- أما زلت على عهدك؟؟
كنت أقول لهم سراً: «لكم دينكم ولي ديني».. يضحكهم موقفي ضحكات أحسها تربت على كتفي في عطف ونبل. أفهم الآن لماذا كان يضحكهم موقفي.. هو فهم جاء متأخراً بكل أسف.. فلا «ديني» أعجبهم، ولا «دين غيري».
- لكنك تبدو مرهقاً.. أتشكو من شئ أم هي زيارة ودية؟؟
- بالتأكيد ليست زيارة ودية، فأنا حتى دقائق قلائل لا أعلم أن الصدفة ستجمعني بك.
شرحت له وضعي وأسباب الزيارة وأنا أقدم له التقرير الطبي المرفق مع مذكرة من أخصائي الباطنية. ضحك قليلاً وهو يقول قبل قراءة التقرير:
- ألحقوك بقائمة الشرف؟! أنا أيضا ضمتني القائمة قبل شهور، ولكن لن نستسلم لهم ولليأس، سنقاوم من أجل استرداد كافة حقوقنا.
- الأرزاق على الله وليست بأيديهم.
قال في حماس وجدية:
- نعم.. على الله، لكن علينا المقاومة بشتى السبل.. الآن عليك تحديد موقفك والتفاعل مع التطورات الجارية لتنهي الحالة الذاتية التي تعيشها.. بدون الآخرين لن تساوي شيئاً.
قلت في اهتمام:
- وماذا تريديني أن أفعل؟
- نحن نمهد لمسيرة بعد أيام.. نحشد لها الآن كل من شملهم القرار.
قلت في توجس متردداً:
- وهم، ألا يعلمون ما تنوون فعله؟! سيضربونها.. إنهم أوغاد.
- المهم التعبير عن الرفض. وهناك جهات ستكون لهم بالمرصاد.
تحمست للفكرة.. هي أول مشاركة لي في عمل كهذا.. يجب أن يكون لي دور في هذه الحياة.. قلتها لنفسي. والآن الدور مقدَّم لي على طبق من ذهب وسألعبه.. يكفيني ما عشته من خمول ورتابة.. ليت الحاج إبراهيم معي الآن.. سترتفع معنوياته كثيراً ويتغلب على حالة الإحباط المسيطرة عليه. كنت أخشى المواجهة، أما وقد فقدتُ أهم أشيائي، فما الذي يمنعني من المواجهة.
شكرته على كل شئ، ووقفت لوداعه مفسحاً المجال لمريض آخر. طلب مني الانتظار قليلاً، وضغط على جرس في طرف مكتبه. لحظات ودخل موظف الاستقبال، فأشار إليه إشارة خفية كانت نتيجتها أن عادت إلى جيبي ثروتي التي دفعتها.. حمدتُ الله في سري وأنا أودعه خارجاً.
خرجتُ وقد اتسع حيز البهجة والتفاؤل في نفسي على أمل العودة في الأسبوع القادم حسب طلبه.. تحسستُ جيبي وقررتُ شراء بعضاً من السمك للعشاء. كانت الرهبة تتملكني حين يتجه تفكيري إلى مثل هذا الترف، أما الآن وقد عدت ظافراً نفسياً، ولم أفقد ما في جيبي، فلا بأس من العبث قليلاً مع الدنيا. لا أذكر متي كانت آخر مرة تناولنا فيها طبق غير الفول.
حتى أمس – مع عثمان أرباب - كانت وجبة العشاء فولاً. فأصبحتُ وكأن بطني تحجرت.. أتجشأ رائحة فول «مخمِّر» كريهة، وكأني أشتم قِدْراً مضي على نضجه أسبوع. هي فرصة للتغيير لن تتكرر بسهولة - قريباً على الأقل - لأنني على المدى البعيد اعتمد على ابني الذي سيجد عملاً في غربته يحملنا إلى مصاف البشرية ولو درجة، وبعض آمال أخرى تدغدغ الأحلام.
في طريق عودتي مررت على عثمان أرباب. سأهديه بعض السمك لعشاء اليوم. وجدته غارقاً حتى أذنيه فيما «يعاقر».. قال أول ما رآني بلسان أثقله السُكر:
- أنت أسعد حالاً مني، لقد تقرر مصيرك، أما أنا فماذا أفعل؟ لقد وضعوني على الرف. لن أجد ما أفعله سوى «التمطي» من الصباح حتى الظهر.. يا للقرف.
لا مجال للمواساة هنا.. ودعته معتذراً بأنني عائد لتوي من الطبيب وفي غاية الإرهاق. وفي خضم الارتباك نسيتُ فكرة إهدائه قطعة السمك.. واصلتُ مسيرتي مخترقاً الظلمة.
أمام الدار جلبة غير عادية. ترددتُ قليلاً قبل مواصلة السير.. أَفَاجِعة أخرى؟! يقولون إن المصائب لا تأتي فرادي، هل ستصدق هذه المقولة الآن؟! وعند اقترابي أكثر، تيقنتُ أن هنالك حدثاً سعيداً وفي دارنا. ماذا يكون يا تري؟ وقطعت امرأتان تسكنان في الجوار استرسالي عندما هنأتاني بعودة «محمد» بالسلامة.
قلت في استغراب:
- مـن؟!!
قالت إحداهن مكررة في سرور ظاهر:
- ابنك محمد عاد بالسلامة.
صحتُ في فرح طفولي مغلف بالقلق:
- محمد ابني عاد؟! كيف ومتي؟
لم التفت إلى تلقي الإجابة منهما، وأسرعت الخطي محاولاً التشبث بكيس السمك كي لا يسقط من بين يدي.
طفرت دمعة ساخنة على خدي وأنا احتضن ابني محمد. لم تسعفني الكلمات ولو بسؤال عن حاله. شعرتُ ببعض الاطمئنان وهو حقيقة ماثلة أمامي، رغم ما تعنيه هذه الحقيقة - إن لم أخطئ التفسير.. الاطمئنان إلى وجوده بجواري وأنا في قمة مأساتي شيء خرافي، ولتذهب الأحلام إلى الجحيم.. لقد اختار وقتا دقيقا للعودة، يحمل الوجهين معا.. حتى هذه اللحظة لم تَجُدْ قريحتي بكلمات تُخرِجُني من تضارب الرياح في خاطري، وما زالت نظراتي تتفحصه وهو جالس بجوار أمه التي بدت «غبشاء» معفَّرة بالغبار إلى جواره. تكوَّر خداه وصارا أملسين ينضحان ندى ونضارة بعد طول جفاف. إنه لا يشبهني الآن، فهو أكثر نعومة وحيوية، ازداد حجمه قليلاً. فقط سبعة أشهر لا غير.. لكن.. «انتظر يومين وستعود إلى طبيعتك، ستذيبك الشمس وتصهرك لتعود أكثر بشاعة مما كنت عليه.. أنت لا تدري تطور الأحداث».. هكذا فكرت في نفسي وأنا مُطرِق. خشيتُ من الحوار معه.. إن تأكد ظني فهي فاجعة تزيدني عزلة.. لابد من تأخيرها قدر المستطاع. وخرجتُ مدعياً الذهاب - قبل فوات الأوان– لشراء بعض مستلزمات العشاء.
اليوم مناسبة غير عادية تُوجِب الاحتفاء بها، على الأقل لن يُصدَم محمد - وفي أول يوم له بيننا بعد طول غياب - بالنقلة النوعية، سأدعها لا تكون حادة حتى لا يشعر بالذنب تجاهنا. لكن لابد من الحديث، طال الزمن أو قصر، فنحن لا نألف الحياة دون حديث.. نخشى الصمت لأنه يردنا إلى داخلنا حيث البشاعة واضحة.. الثرثرة تلهينا حتى عن مواضيع جادة أقسى مرارة من هذا.
قال محمد في صوت طفحت منه الخشية:
- حمد لله على السلامة، ومبروك. رَوَت لي أمي كل شئ أثناء غيابك.
- الله يسلمك.. الحمد لله على سلامتك أنت يا بُنَي.
تابع في صوت أكثر مرونة:
- كانت وجهة نظري أن تترك الوظيفة من زمان.. لكنت الآن «بِقِيت على بصيرة».
قلتُ في حدة حاولتُ إخفائها:
- لولا الوظيفة لما كنت في موقف تقول لي فيه مثل هذا الكلام. هي شدة وستزول.
- المؤسف هو عودتي قبل تحقيق النتيجة المرجوة.
رغم توقعي لسماع هذا النبأ، إلا أنني محبط بشكل أو بآخر. تابع محمد:
- سبعة اشهر أتحيَّن الفرص لإيجاد عمل، بلا جدوى.. التعاقدات ارتفعت أسعارها لدرجة الهوس، والبقاء من دون إقامة مجازفة كبري لا يحتملها من يود خدمتك.. كل ما ادخرته ثمرة أعمال هامشية لست مهيأ للاستمرار فيها.. فضلتُ العودة والموت جوعاً على البقاء في وضع كهذا.
قلت ضاحكاً:
- إذا ستشبع موتاً إن شئت.
قال في إصرار:
- سأبحث عن عمل، والسوق يتسع للآلاف غيري.. أنت أيضا يمكنه احتواءك.
قلت في اشمئزاز:
- لا مجال لي هناك.. لكني على يقين من تدبير أمري.
- ستبحث عن وظيفة أخرى!!
- لم يستقر رأيي بعد.. هي فرصة للراحة والتفكير في هدوء هذه الأيام، لم أمنح نفسي إجازة منذ سنوات طويلة. ثم أنني سأقبض راتب الثلاثة أشهر المخصص لنا.. سيحل الضائقة مؤقتاً.
- معي بعض اللوازم سأعرضها للبيع بعد استلام بقيتها غداً، عقب الانتهاء من إجراءات الجمارك. هذا غير العملة وهي قليلة، سأقوم بتبديلها.. سيكون لي رأسمال لا بأس به يمكنني من وضع قدمي على أول الطريق.
قلت في حذر:
- أخشى أن يلتهمها السوق.. ليست لك الخبرة الكافية للمخاطرة.
- لقد حسبتها جيداً يا أبي ولا مجال لعمل آخر.. الوظيفة كما ترى صعبة المنال وقليلة القيمة.
- على بركة الله..
لم أشأ الاعتراض على رأيه.. عليه بالتجربة للتمرس حتى يستطيع الارتكاز على قاعدة تمكنه من الانطلاق.. علينا بتدبير أمورنا.. وتحطم أمل آخر داخلي بعد طول انتظار.. أمل بالاسترخاء دون هموم توقظها متاعب الآخرين ومتاعبي الخاصة.. الأحلام تتقاطع ممزقة بين الصحو والغفوة.. والخوف من مستقبل مبهم الملامح تعاظم.. لم يقلقني المستقبل في الماضي، فالحياة مناسبة ويسيرة وإن برزت مصاعب هنا وهناك.. هي ديناميكية الحياة تفرض وجودها لطرد الملل ودعوة للتشبث بها، فسرعان ما تنـقشع السحابة وتتدفق الرغبة في المواصلة.. أما الآن فهي شئ مشوش، تتلبد في أفقها سحب تزداد كثافة كل لحظة.
أغمضتُ عيني وصور شتى تتقافز في خاطري بلا ترتيب. السعادة متدفقة من وجه أبي المسكين وأنا أسلمه أول راتب شهري استلمه في حياتي. كنت في العشرين من عمري.. أحلامنا وقتها بسيطة يمكن تحقيقها دون جزع، لا نخاف الغد.. أبي رغم عمله البسيط ومعاناته قام بواجبه تجاهي تماماً.. كنت أحسب أن الحياة لا تستحق كل هذا العناء، لذلك لم أفكر في العمل بعد المرحلة الوسطي، حيث كثير من زملائي وأترابي آثروا الاكتفاء بهذا القسط من التعليم والدخول إلى مرحلة الرجولة مبكرين. لا توجد صعوبة في الحصول على عمل. إصرار أبي على المواصلة شجعني، ولولا اضطراره لملازمة فراش المرض وأنا في نهاية المرحلة الثانوية ما تركت المدرسة بعد نيلي الشهادة الثانوية.
دمعتان تمسكتا بأهداب عيني أبي، لم تكملا السقوط وهو ممسك بيدي. وبصوت مليء بالرجفة قال لي:
- أنت الآن رجل البيت.. لم يضع جهدي هباءاً.
حينها شعرتُ بالعظمة والفخر وأن الدنيا لا تسعني. إن راتبي ثروة حقيقية لا يستهان بها. وإنني به كالملك. ما أن أطل المساء بوجهه حتى انطلقت إلى المحال التجارية.. اشتريتُ ثوباً لأمي، هو متواضع بين الثياب، لكنه سيمكنني من شراء فستان لأختي الصغيرة وجلباب وعمامة لأبي. أما أنا فسأشتري ما يلزمني من مرتب الشهر القادم. نظرات الامتنان مريحة وتتسامى معها روحي المنتشية لأنني حققت شيئاً مفيداً. سيدعوان لي – أبي وأمي. وأري السماء تفتح لي «طاقة» تتسرب منها الهمسات الداعية لي بالخير و«طولة العمر». لحظات تجلي ترتقي فيها الأعماق، افتقدتها طويلاً.
وهاهو ابني أمامي الآن يضغطه القهر. ممزق لا يدري له وجهة يلتجئ إليها. يتحدث عن أحلامه مرتعشاً، يطفح حديثه بالأسى عن أحلام وردية يكسوها الشوك. الإحساس بالعجز شئ مدمر، وأنا أحس بأنني عاجز أمام عجزي. كلماته مليئة بأمل وهمي عن تحقيق ثروة تكفل له الحق في الحياة، لكن طموحه الذي سعي له منذ سنوات مات.. إنه أمامي ميت الآن. لكي يحقق حلمه في الحياة عليه بالسعي سنوات وسنوات.. سيذوب ويتبدد. إنها ظروف قاتلة لأي طموح طالما الهم الأول هو الحصول على لقمة العيش. دوامة لا يخرج منها أمثالنا، فالسوق «غول» يلتهم كل من يلجأ إليه، إلا من امتلك السيطرة.
لا أملك شيئاً حيال ما أنا فيه من ضعف.. الضعف والخذلان منعا عني النوم وأنا أتقلب في فراشي بحثاً عن وضع أكثر راحة.. صورة ابني لا تفارقني، فها هو صغير على أعتاب الدنيا يقفز بمرح طفولي وأنا بجواره لا يداخلني خوف على مستقبله. ومن شدة الاطمئنان لم أفكر في تصور مستقبل خاص به.. تركته لطفولته وذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق