المشهد السياسي صادم الآن، ومربك. كل ملامحه تقضي على مكامن الأمل، ليغطي كل شيء اليأس. إنه إحساس الهزيمة، وحقاً إنها لهزيمة كبرى أن نشهد عصر انقسام الوطن، إنفصاله. لذلك يبدو المشهد السياسي وكأن جميع السياسييين والمهتمين يضعون فشلهم وعجزهم على خدودهم وينظرون في أسى إلى الأفق. إنهم في وضع المحنة، محنة صنعوها بأيديهم لا بيدي (عمرو). وكما هو الحال دائماً واضح أن هذا الوضع سيستغرقهم طويلاً، فهم يستمرأون الجلوس في سرادق العزاء ليجتروا أحزانهم وهزيمتهم والوقت يمضي. إنه الغرق في شبر الموية.
رغم كل المحاولات والآمال والتطلعات، إلا أن الواقع الماثل يقول إن الوطن ذاهب إلى إنقسام وإن الانفصال واقع لا محالة، إلا إذا حدثت معجزة تقلب الطاولة رأساً على عقب. هذا الواقع يتطلب التعامل معه برؤى مختلفة عن تلك التي صاحبت الأداء المعارض وحتى السلطوي، واقع أن دولتين جديدتين ستنشآن عقب الاستفتاء. ما يجري الآن يكشف عن غياب التفكير الاستراتيجي لدى كل القوى السياسية بما فيها الحاكمة الآن، ولا يخرج عن ممارسة سياسة رزق اليوم باليوم المعتمدة رسمياً لدى الدوائر الحزبية والسياسية ولا يريدون تجاوزها، لأن ما يتحكم فيهم هو المصلحة الآنية الجزئية ويريدون قطف ثمارها بأسرع ما يمكن، لا المصالح الكلية للوطن.
قيام دولتين جديدتين يعني بالضرورة طريقة مختلفة للتفكير ومناهج مختلفة لبلوغ الأهداف. فإذا ما قامت نتيجة الاستفتاء القادم دولة الجنوب، لا يسعنا إلا أن أتمنى لهم كل الخير والاستقرار والعمل على جعل الجوار أخوي، وهي مثل أمنياتنا بتغليب خيار الوحدة. إنه خيار يجب أن يحترم ولا يجب التدخل في طريقة حكمهم لأنفسهم مثلما لا نتدخل في شئون الآخرين وكيفية حكمهم لشعوبهم وأي الانظمة يختارون لذلك، فلدينا كثير من دول الجوار سيظل الرأي حول نظم حكمها مجرد رأي رغم إمكانية التواصل مع قواها الديمقراطية والسعي لدعمها السياسي وتقوية الروابط بينها في إطار التفكير الاستراتيجي. اما الرأي الرسمي أو رأي السلطة فهو مرتبط بمصالحها ونظام الحكم المسيطر في علاقتها بدول الجوار الإقليمي. هذا الأمر سينطبق على دولة الجنوب التي تلوح في الأفق.
على السلطة الحاكمة وحزبها التعاطي مع هذا الواقع الجديد، واقع وجود دولة جديدة في الشمال. دولة جديدة بحدود مختلفة عن سابقتها مما يعني تغيرات جيوسياسية. فلا الحدود هي الحدود ولا دول الجوار هي دول الجوار حيث ستسقط حدود ثلاث دول كانت تحيط به من الجنوب في ظل الوضع الجغرافي الجديد.
الأمر يتطلب من حكومة الأمر الواقع التي نشأت بموجب اتفاقية نيفاشا وحزبها الحاكم التعامل مع هذا الواقع الجديد بكثير من التفكير الواقعي والعقلاني بدلاً من الشطحات، وبدلاً من الطريقة التي تعامل بها الجعلي مع رجله الثانية "عندما قطع الطبيب رجله وسمع زغاريد النساء من حوله صاح في الطبيب قائلاً: حرَّم تقطع التانية". فها هي معالجاتهم السياسية الخاطئة قادت إلى إحتمال قطع طرف من أطراف الوطن، فطريقة التفكير التي تنضح بها الصحف ووسائل الإعلام من تصريحات لنافذين في الحزب الحاكم وموالين وأصحاب مصالح خاصة من الذين لا يرون إلا تحت أقدامهم، تنبئ بأن المور ستسير على طريقة "حرَّم تقطع التانية". إنما جرى وسيجري حسب تصور هؤلاء لا أجد له مسوغ إلا ما أورده الدكتور فرج فودة في حقيقته الغائبة بأن "هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهره حديث دين، وأمر سياسة وحكم و إن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء، ويصدقها الأنقياء، ويعتنقها الأتقياء، ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع (وهم الأذكياء)، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم لا الآخرة، والسلطة لا الجنة، والدنيا لا الدين، ويتعسفون في تفسير كلام الله عن غرض في النفوس ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض في القلوب، ويهيمون في كل واد، إن كان تكفيراً فأهلاً، وإن كان تدميراً فسهلا، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان، أن يخوضوا في دماء إخوانهم في الدين، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان"، ناهيك عن التعدد والتنوع الذي يتسم به السودان.
أما أهل المعارضة، ولا نستثني أنفسنا منهم، هم الأكثر غرقاً في "شبر موية الاستفتاء" مثلما غرقوا تماماً في "شبر موية الانتخابات" قبل عدة أشهر وكأنهم لا يتعلمون. إذا كان واقع حال الحزب الحاكم يقول بإنه يتعامل مع الأمور بسياسة رزق اليوم باليوم، فإن حال المعارضة يقول بإنها إكتفت بالفتات حتى في رزق اليوم. فهي بعيدة تماماً عن أي تفكير استراتيجي، ويشغل فصائلها إحراز نقاط ضد بعضها أكثر من معارضتها للنظام الحاكم. وتبدو كالعرجاء في إطار بحثها عن منفذ تساهم به في الشأن العام بتطلعها إلى سماحة الحزب الحاكم وتفضله عليها بلعب دور ما في ذلك.
الواقع الجيوسياسي بعد الاستفتاء سيخلق أزمة كبيرة للوطن وأزمة أكبر بالنسبة للقوى المعارضة خاصة القوى الديدمقراطية منها. إنفصال الجنوب يعني إنفصال قطاع مؤثر من رصيد القوى الديمقراطية، وهو قطاع مؤمن بوحدة السودان ومعني بالنضال من أجل قضايا التحول الديمقراطي وبناء دولة سودانية قادرة على استيعاب تنوعه وتعدده. هزيمة تطلعات ورؤى هذا القطاع المؤثر داخل الجنوب إذا وقع الانفصال يعني أن على القوى الديمقراطية شد أحزمتها وتجديد طرائق تفكيرها واستحداث مناهج ووسائل أكثر فاعلية لنشر الفكر الديمقراطي وبرامجها وسط قاعدة جماهيرية ستهزها واقعة الانفصال وتزداد الضبابية أمام أعينها بأكثر مما كانت. في مقدمة تجديد طرائق تفكيرها تأتي الدعوة لتوحيد جهودها وصفوفها عبر منظومة مرنة تتجاوز الاستعلائية السياسية ووهم القدرة على إختراق الواقع كل بمفرده. عليها أن تتعظ من تجربة الحركة الشعبية والمناصرين للوحدة فيها عندما توهموا أن في مقدورهم استيعاب كل طاقات تلك القوى دون بذل أي جهد فكري أو تنظيمي في توحيد صفوفها، ونتيجة ذلك واضحة لا مجال لإنكارها.
الواقع الجديد سينشئ دولة جديدة في الشمال بمواعين قديمة، وهي ذات المواعين التي أقعدت بالسودان.
إذا كانت القوى السياسية الحاكمة والمعارضة راغبة في العبور بما تبقى من السودان إلى مشارف مستقبل أفضل، فعليها أولاً أن تعترف نظرياً وعملياً بما ستسفر عنه نتائج الاستفتاء القادم، فإن أفضى إلى وحدة هذا يعني أن كثير من التنازلات قد قدمت بما يسمح ببناء دولة موحدة قادرة على القيام بمسئولياتها تجاه وطنها ومواطنيها، وهو ما تقول المؤشرات إنه الاحتمال الأضعف. أما إذا أفضت إلى إنفصال الجنوب فعلى القوى السياسية الإلتفات شمالاً وترك الجنوب ليبني دولته بما كيفما يراها أبناؤه لا كيفما نشتهي نحن. عليها أن تجلس على الأرض لترى كيف يدار ويحكم هذا الوطن وما هو مستقبله في ظل الأزمات المستفحلة التي لن يحلها إنفصال الجنوب.
وحتى لا نغرق في شبر موية الاستفتاء، ووهم إستعادة الوحدة إذا انفصل الجنوب علينا الإقرار بأن دولة جديدة ستنشأ في الشمال. على هذه الدولة أن تقوم على أسس جديدة تبعد عنها شبح مقولة "حرَّم تقطع التانية"، هذا كفيل بمساعدة الجنوب في الاستقرار والرغبة في التعاون الإيجابي مع الشمال وفقاً للمصالح التي يفرضها الواقع وليس المصالح المفترضة.
هذه الدولة لن تقوم على أسس جديدة إلا إذا أقررنا وعملنا فوراً على صياغة وإجازة دستور يفضي إلى دولة مدنية ديمقراطية، لا دولة لحزب واحد ولا لدكتاتورية عسكرية. إن محاولات الإلتفاف على المكاسب القليلة التي حققها نضال الشعب السوداني لن تفضي إلا إلى مزيد من الاحتقان ومزيد من التوتر وبالتالي استفحال الأزمات وإضافة بؤر صراع جديدة، في الوقت الذي نحتاج فيه أكثر إلى إطفاء نيران البؤر الملتهبة أصلاً. الحديث عن ضرورة قيام دولة مدنية ديمقراطية لن ينتهي طالما ظلت موجباته باقية فإنفصال الجنوب لا يعني إنتهاء التعدد والتنوع في الشمال.
من المطلوبات العاجلة إذا ما أفضت الأمور إلى تحقيق ما تنبئ عنه المؤشرات من إحتمالات قوية لإنفصال الجنوب، هو التوافق على تكوين حكومة انتقالية بدلاً من إنتهاج أسلوب وضع اليد على السلطة. فبإنتهاء الاستفتاء ستنتهي معه اتفاقية السلام الشامل وموجباتها، مما سيخلق وضعاً دستورياً جديداً يتطلب التعامل معه بأفق يستوعب المصلحة العامة. جكومة إنتقالية من أولى مهامها الإعداد لدستور دائم للبلاد ينهي حالة الدستور المؤقت التي لازمتنا منذ ما قبل الاستقلال، وإصدار القوانين التي تهيء لبناء نشاط سياسي حزبي قادر على المساهمة في بناء الوطن بدلاً من حالة العجز التي ظل غارقاً فيها، والحديث عن عجز القوى السياسية المعارضة في الفترة الماضية سيظل ناقصاً إذا لم نستوعب أسبابه وعلى رأسها العجز السياسي للحزب الحاكم في عدم قدرته على استيعاب الآخر والتفكير الموضوعي بضرورة وجوده وأهميته، وعمله المستمر على التضييق عليه ومحاولات خنقه. تلك القوانين عليها أن تطلق الحريات العامة بكافة أشكالها وفق ضوابط إحترام التشريعات الدستورية، وتؤسس لبناء أجهزة الدولة بحيث تستوعب مطلوبات التحول الديمقراطي. وان تستمر هذه الحكومة لمدة عامين من تاريخ تكوينها.
حل البرلمان الحالي لأنه لا يعبر عن متطلبات المرحلة القادمة والإستفادة من مخصصاته في الإعداد لانتخابات رئاسية وعامة تجري بعد انتهاء مدة الحكومة الانتقالية مباشرة، وتباشر الحكومة المنتخبة صلاحياتها وفقاً للدستور الديمقراطي المتفق عليه.
أن تعقد الأحزاب السياسية مؤتمرات استثنائية تعيد فيها بناء استراتيجياتها وفقاً للواقع الجديد وتجدد فيه دمائها مرة أخرى بانتخابها لمؤسساتها. وأقترح هنا أن يتقدم كل رؤساء الأحزاب باستقالاتهم تعبيراً عن عجزهم عن التصدي لقضايا الوطن والمحافظة على بقائه موحداً.
دون ذلك لن تنشأ دولة مؤسسات قادرة على مواكبة التطور الديمقراطي ومستعدة للتخطيط لبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي ستبطل مفعول بؤر التوتر وتنفس مواقع الاحتقان. بل سيزداد الأمر سوءاً ولن يكتفي الجعلي بالصياح "حرَّم تقطع التانية" فربما يمد يده أيضاً. إنه وطن وهي مسئولية لنكن قادرون على تحملها، بل نحن قادرون على تحملها بهزيمة الرغائب الذاتية والمصالح الآنية وتفعيل قدرات التفكير الاستراتيجي فينا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق