يبدو أن قادة المؤتمر الوطني لا يقرأون جيداً ما يصدر في صحف الخرطوم، ولا يتابعون تصريحات بعضهم البعض، ففي كثير من الأحيان يناقضون أنفسهم إن لم يكن في ذات الصفحة في إحدى الصحف فتجد التناقض ظاهراً في صحيفة أخرى، وإن لم يكن في نفس اليوم ذاته فتجد ذلك خلال أقل من أسبوع. ففي عددها الصادر يوم الاثنين السادس من ديسمبر الجاري، وتشمل تلك التناقضات ما هو سياسي وما له علاقة بالعلاقات الدولية والإقليمية وما له علاقة بالمواقف السياسية الداخلية. فكثيراً من نقرأ أو نسمع تصريحاً لمسؤول لا تمر ساعات إلا ويأتينا تصريح مناقض له تماماً.
جاء ضمن عناوين الصفحة الأولى لجريدة الرأي العام " الوطني: (5) مربعات جديدة لانتاج النفط بالشمال" تحت هذا العنوان ورد أن المؤتمر الوطني (وليس حكومة السودان أو وزير مختص) وما بين الأقواس من عندي، أعلن عن طرح شراكة استراتيجية مع الصين في مجالي النفط والزراعة شملت (5) مربعات جديدة لإنتاج النفط بالشمال وإنتاج محاصيل للصادر لتوفير موارد من النقد الأجنبي .. إلخ. ولم يكتف الخبر بذلك بل أكد أن الزبير أحمد الحسن أمين الأمانة الاقتصادية بالمؤتمر الوطني (وليس وزير النفط أو الزراعة أو المالية) كشف ان الشراكة النفطية مع الصين تنص على استخراج النفط في الشمال بخمسة مربعات. وتمضي جريدة الرأي العام في خبرها بأن الزبير ذكر عقب عودته من الصين أنه بحث مع المسؤولين هناك أسس وأطر الشراكة الاستراتيجية في مجالي النفط والزراعة.
لم تشر جريدة الرأي العام من بعيد أو قريب أن السيد الزبير أحمد الحسن يحمل صفة وزير في الحكومة أو مندوب عن الحكومة والجهاز التنفيذي، بل قام بجولته وأدلى بتصريحاته تلك بصفته أمين الأمانة الاقتصادية في حزب المؤتمر الوطني، وان الحزب هو الذي أعلن عن طرح تلك الشراكة الاستراتيجية المشار إليها مع الصين. هذا الخبر بصيغته تلك ينسف كل محاولات تالية لقيادي آخر في حزب المؤتمر الوطني، وبعد ثلاثة أيام فقط لنفي هيمنة أجهزة الحزب على الجهاز التنفيذي للدولة وعدم وجود أي رابط بينهما.
النفي جاء في حوار أجراه أحمد حمدان نشر في جريدة الأحداث يوم الخميس الماضي التاسع من ديسمبر مع الدكتور ربيع عبد العاطي القيادي الآخر في المؤتمر الوطني، في سعي الجريدة للوقوف على مصادر أموال الأحزاب وكيفية صرفها. إذا قال عبدالعاطي في رده على إتهام عن تعدي المؤتمر الوطني على أموال الدولة بأن للدولة جهاز تنفيذي قائم بذاته وله مؤسساته لإدارة المال العام، وأنه ليس هناك أي رابط بين الجهاز التنفيذي للدولة وبين أجهزة الحزب وليست هناك أي علاقة بينهما. فأي القياديين نصدق، ذلك الذي سافر إلى الصين بصفته أمين الأمانة الاقتصادية للحزب أم الأخير الذي لم يقطع قول كل خطيب؟
وبالرجوع إلى قانون الأحزاب الذي أجازه المجلس الوطني الذي يتمتع فيه حزب المؤتمر الوطني بأغلبية نيفاشا فنجده يحظر على الأحزاب أي نشاط استثماري عدا مجالات محددة ومتعلقة بأنشطة الحزب كالصحف ومؤسسات النشر، وكما هو واضح حدود مجالات الإستثمارات التي يمكن أن تقوم عليها مالية أي حزب. فعندما يقول ربيع عبدالعاطي القيادي في المؤتمر الوطني إن حزبه يعتمد على عضويته واستثماراته ولا يتلقى حتى منح من أي جهات غير عضويته ولا يكشف لنا عن طبيعة تلك الاستثمارات وهل ينطبق عليها ما نص عليه قانون الأحزاب، تبقى الأسئلة معلقة. ولن يستطيع إقناعنا بأن عضويته حتى إن بلغت خمسة ملايين كما يدعي يمكنها أن تسير عملاً أو تدعم حملة مثل حملة الانتخابات التي جرت قبل عدة أشهر وشاهد الشعب السوداني كله حجم الصرف الغير مسبوق الذي بذله المؤتمر الوطني في تلك الحملة، إلا إذا كان (جميع أعضاء الحزب) ميسوري الحال كما قال هو بنفسه في ذلك الحوار.
هذا القول لا يستقيم وواقع أن ملايين المواطنين هم جماهير هذا الحزب، وكلنا يعيش في السودان وبين أهله ويعيش بيننا منسوبو المؤتمر الوطني نفسه. لكن الذي يستقيم هو ما جاء على لسان عبدالعاطي في الجزء الثاني من ذات الجملة بأن يمكن لأي منهم أن يغطي احتياجات الحزب، هذا يمكن أن نصدقه مع تساؤل كبير من أين له هذه القدرة المالية على تغطية احتياجات الحزب، وهي احتياجات تبدأ من توفير الدور والحركة والاتصالات ولا تنتهي بمرتبات العاملين وحوافزهم. لعل هذا ما جعل المحاور يحاول محاصرته في هذه الزاوية وهو يلاحقه بتساؤله بأن هؤلاء الذين ينفقون يجدون المقابل أضعافاً مضاعفة بمساعدة الدولة لهم في التجارة والاستثمار، وهنا مربط الفرس كما يقولون. هنا تحضرني رواية طريفة عن أحد الذين زاملوا واحد من ولاة الولايات في فترة التلمذة ويعمل مدرساً في مرحلة الأساس، وكلما يطل السيد الوالي على شاشة التلفزيون يصيح في زوجته بأنه دفعته وكان كثيراً ما يتشاجر معه، ولما زهجت الزوجة رجته بالاتصال به ومقابلته لعل هذا الوضع البائس الذي يعيشونه ينصلح. فما كان من صاحبنا إلا أن توجه في اليوم التالي إلى مكتب السيد الوالي ولكن الجماعة حالوا بينه والدخول إليه، وكرر المحاولات إلى أن إلتقاه وهو خارج من مكتبه ليأخذه السيد الوالي في الأحضان ويستعيدان بعض الذكريات. ويتم الاتفاق بينهما للقاء في مكتبه في اليوم التالي ليعرض عليه مشكلته. إلتقى صاحبنا الوالي قبل دخوله مكتبه ليصطحبه شخصياً معه إلى الداخل تحت بصر الجماعة. في قاعة الاستقبال وجد صاحبنا رجلاً معمعماً تبدو عليه آثار النعمة سلم عليه الوالي بحرارة ثم تجاوزه ليدخل وصاحبنا إلى مكتبه. سأله الوالي "أها مشكلتك شنو؟" عرض عليه رفيق درب التلمذة حاله المايل ووضعه المزري وقال له " ياخي شوف لينا إنشاء الله ركشه نمشي بيها الحال" قال له الوالي " ركشه؟ معقول جايي لي عشان ركشة؟" ثم أطرق السيد الوالي وقال له "تعرف الزول الجالس في الاستقبال ده؟" رد عليه بأن لا، قال له هو واحد من التجار الكبار ومقدم لعطاء سيدر عليه مليارات وهو هنا بهذا الخصوص، سأقول له إن العطاء المعني حصلت عليه أنت، والآن انتظرني في الاستقبال إلى أن استدعيك. وينادي الوالي على التاجر الكبير ويطلعه بأن العطاء قد كان من نصيب صاحبنا، ولكن يمكن إقناعه بالتنازل عنه مقابل 150 مليون (بالقديم)، وكما يجري الأمر في سوق البصل اتفقا على مبلغ 100 مليون. ويتم استدعاء صاحبنا ليتم الاتفاق النهائي ويقدم التاجر شيك بمبلغ المائة مليون للسيد الوالي الذي أدخله في الدرج وهو يبتسم. بعد خروج الرجل أخرج الوالي دفتر شيكاته وحرر شيكاً للأستاذ بمبلغ خمسين مليوناً. إستلم صاحبنا الشيك وهو لا يكاد يصدق، ودخل على زوجته وهو محمل بما لم تعهده من قبل من أشياء. وعندما سألته "إنت الحصل شنو؟ والحاجات دي كلها بكم والوالي أداك كم؟" قال لها "إنتي في الحاجات ولا أنا الوالي أكلني عديل في خمسين مليون"؟
لعل هذا الشخص هو الذي عناه الدكتور ربيع عبد العاطي بأن آخر كان من عموم الشعب، كان مفلساً ويعيش في فقر مدقع ويشكو إلى طوب الأرض فجأة أصبح ميسوراً، هذه هي طبائع الحياة على الأرض لا يمكن أن نتحكم في معايش الناس وليس بيد المؤتمر الوطني أن يغني من كان فقيراً، ذلك عندما سأله المحاور بأن هنالك أشخاص أصبح حالهم ميسوراً أكثر مما كانوا عليه قبل الانضمام للمؤتمر الوطني. ولله في خلقه شئون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق