حارقة خارقة مفردتان لن يجدهما القارئ إلا في أروقة ودهاليز المفردات العسكرية، وتحديداً فيما هو متعلق بالسلاح والذخيرة. ودائما ما يقدم المحققون وكتاب التقارير الصحفية كلمة حارقة على خارقة عكس ما تفعله الذخيرة التي تتميز بهاتين الخاصيتين في آن معاً بالرغم من تقدم الخرق على الحرق عملياً، فهذا النوع من القذائف عليه أن يخرق اولاً ثم يحرق بعد ذلك. هذه العملية يفترض ان يفصل بينها جزء من الثانية مما يجعلها تبدو عملية واحدة. هذا النوع من القذائف الصاروخية هو ما وجدته السلطات المختصة عند موقع تحطم العربة "السوناتا" التي استهدفتها الطائرة أو منصة الإطلاق على مشارف مدينة بورتسودان الاسبوع المنصرم حسبما اوردت التقارير الإخبارية واعلنت السلطات الرسمية.
هذا ليس بالموضوع الرئيسي بقدرما هو إشارة للحادث المثير للجدل الذي وقع، ووضح فيه حاجة الدولة لتطوير منظومة الدفاعات الجوية ورفع كفاءتها وقدراتها للتصدي لأي عدوان محتمل في المستقبل حسب قرارات آخر اجتماع لمجلس الوزراء الذي ناقش هذا الموضوع. هو إعتراف رسمي بعدم مواكبة القوات المسلحة للتطورات في مجال الدفاعات الجوية الأمر الذي نتج عنه هذا (الخرق) للمجال الجوي ثم (حرق) العربة بمن وما فيها.
هذا الإعتراف الضمني لم يصاحبه إعتراف آخر وهو تحديد الجهات المسؤولة عن التقصير في التصدي لواجباتها. والاعتراف هنا ليس بلغة أهل القانون "سيد الأدلة" بل لمحاسبة الجهات التي لا تقوم بواجباتها المنوطة بها بالشكل المطلوب وبالتالي تفادي او على الأقل التعامل مع مثل هذه الإختراقات حتى لا نلقي اللوم على إسرائيل وحدها وننسى مسؤولياتنا. لتحديد الجهات المسؤولة يجب إعادة رسم المشهد ومن ثم تحليله. والمشهد لم يبدأ بلقطة الطائرة او المنصة التي إنطلقت منها الصواريخ وأصابت هدفها لأنها نهاية العملية، الاكتفاء بهذه اللقطة فقط يحمل الدفاع الجوي وبالتالي القوات المسلحة باعتباره سلاح تابع لها المسؤولية، وهو ما أعلنته نتائج اجتماع مجلس الوزراء.
ولأن المشهد مكون عادة من عدة لقطات بلغة السينمائيين، فإن اللقطات الأخرى السابقة لتلك تكشف عن عدة حقائق، ياتي في مقدمتها أن إسرائيل تعتقد بوجود عناصر في السودان مهمتها تزويد حماس بالسلاح عن طريق تهريبه إلى قطاع غزة. هذه العناصر سودانية الجنسية أو غير ذلك إن وجدت فليس هذا من شان القوات المسلحة بقدر ما هو مرتبط بجهاز الأمن والمخابرات الوطني وليس القوات المسلحة ذات المهام القتالية. اللقطة الأخرى إن صحت إدعاءات إسرائيل بوجود مثل هذه العناصر، فجهاز الأمن أمام موقفين الأول أن يكون مطلعاً على هذا النشاط وبالتالي هو المسؤول عن الفشل في تغطيته وحمايته، أو لا يكون مطلعاً عليه وهي كارثة أكبر من فشله في الأولى.
اللقطة التالية هي أن العملية ليست وليدة لحظتها، بل استمرت فترة طويلة جرت فيها إتصالات وتحديد مواقع ومتابعة تحركات من اجل تحديد الأهداف وتحديد ساعة الصفر لتنفيذ العملية. هذه أيضاً ليست مسؤولية الدفاعات الجوية، فسلاح الجو الإسرائيلي كانت مهمته تنفيذ عملية أمنية وليس حرباً عسكرية، وطالما هي عملية أمنية فمن مسؤوليات جهاز الأمن التصدي لها في أطوارها الأولى وليس الدفاعات الجوية.
قلت في مقال سابق إن مسؤولية جهاز الأمن والمخابرات الوطني ليست مطاردة المعارضة والتضييق عليها وعلى ممارسة نشاطاتها بالشكل الذي يحوله إلى جهاز غير محترف ومجرد "بوليس سياسي"، في الوقت الذي هو مواجه فيه بتحديات كبيرة على الصعيد الداخلي والإقليمي. فهو لم يستفد من علاقاته مع وكالة المخابرات المركزية (CIA) التي أعلنها رسمياً في التصدي لهجمات مثل هذه، أو إن تلك الوكالة مخترقة بواسطة الموساد الإسرائيلي.
إذاً المسؤولية الكبرى تقع على عاتق جهاز الأمن والمخابرات الوطني ومن بعده تسأل القوات المسلحة عن قضايا أمنية في جوهرها عسكرية في مظهرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق