كثير من الحوارات الصحفية تجرى بلا غاية محددة، وبالتالي لا تحدث أي تأثير على قارئها. واحد من الحوارات النادرة التي تركت تأثيرها الفوري على نفسي هو حوار جاء في صفحات جريدة "الخرطوم" الغراء قبل نحو اسبوعين، الحوار أجرته الأستاذة هانم آدم مع إمراة غير عادية إسمها (ن) حمل بين طياته شحنة قوية من التفاؤل والأمل والقدرة على تخطي الصعاب مهما كانت. ظل هذا الحوار يقض مضجعي وأنا اواصل في السيرة السياسية ويفرض نفسه باستمرار.
الحوار طرح قضية في غاية الأهمية وهي مصير الأطفال مجهولي الأبوين على لسان شخص ينتمي إلى تلك الفئة، تلك القضية التي أصبح رمزها ما عرف ب(دار المايقوما). وفي ذات الوقت أبرز ذلك الحوار أن من الممكن تخطي الحاجز النفسي والاجتماعي بمجهود ذاتي يعتمد على قدرات الفرد ولكن المجهود والدعم الجماعي والمجتمعي عامل أصيل لا يتم ذلك التخطي دونه.
كما تقول السيدة (ن)، مجهول الأبوين أتى للعالم دون اختياره. هذا جوهر المسألة التي يجب ان تصيغ العلاقة بين المؤسسات المجتمعية وبين هذا الطفل الخارج إلى العالم، وتحكم عملية التفاعل الاجتماعي لتقودها إلى مخرجات إيجابية. وطالما هي ظاهرة اجتماعية فرضت نفسها بحيث أصبحت لها دور ومؤسسات قائمة لمعالجة الآثار السالبة لها، فإن الخطوة الطبيعية الأولى تبدأ من التنشئة الاجتماعية، وهي في هذه الحالة تفتقد الوعاء الطبيعي المتمثل في الأسرة، الوحدة الأساسية في البناء الاجتماعي، وتمثل المرآة التي تعكس صورة المجتمع داخل عقل وروح الطفل.
في هذه الحالة تمثل تلك الدور والمؤسسات دور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية وتقوم بدورها كبديل فرضته الظاهرة، لكنها تفتقر إلى الروح حيث العاملين فيها يؤدون واجب وظيفي لا واجب طبيعي، خاصة وأن القائمين على امر الرعاية لا يكونوا بالعدد الكافي لمقابلة احتياجات كل طفل على حدة. ويصبح الفرد هنا مجرد إسم ينادي عليه سائق (البص) في ختام يوم دراسي ضمن مجموعة من الأسماء.
هذا ما اكدته السيدة (ن) التي قالت "لا يوجد نهج علمي للأطفال داخل الدار من أجل مواجهة المجتمع"، وكشفت (عن تجربة حقيقية) صور المعاناة التي يواجهها ذلك الطفل أثناء تعامله مع الآخرين في مؤسسات تجمع بين أطفال نشأوا في تلك الدور وآخرين يعيشون حياة عادية داخل المنظومة الاجتماعية الطبيعية.
إذا كانت (ن) قد وجدت الفرصة والحافز المعنوي لتتفاعل إيجابياً مع المحيط الاجتماعي حولها، وحالفها الحظ في الحصول على رعاية أهلتها للحصول على منحة دراسة جامعية في الأردن، فإن كثيرين من مجهولي الأبوين إنتهى مصيرهم إلى المجهول. الغالبية العظمى منهم تلقفتهم الشوراع والأزقة لضعف الدعم الجماعي والمجتمعي، وغياب النهج العلمي والاعتماد على المبادرات الفردية. فقد يشاء حظ احدهم الجيد أن يعتني به شخص قادر على استيعاب الظروف المحيطة بتلك الظاهرة والعكس صحيح.
شكراً للاستاذة هانم آدم لأنها من خلال أسئلة بسيطة قادت حواراً كبيراً طرح أسئلة عديدة أكبر، وشكراً للسيدة (ن) التي لم تختبئ خلف نجاحها الشخصي بل قادها ذلك إلى التفكير في إنشاء منظمة معنية بالمساهمة في تحقيق مجتمع تكافلي إيجابي يشمل المحرومين من الرعاية الأسرية، ويتعامل معهم كاعضاء عاديين وفاعلين. وتهدف لتشجيع الرعاية الأسرية البديلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق