ما تناولته في الحلقات الماضية من مأساة يتعرض لها بعض المواطنين الإرتريين في سجون المخابرات الإرترية، التي لا تخضع لأي نوع من الرقابة، لا يعكس سوى جانب ضئيل أمام ما يتعرض له الكثير من المواطنين حيث صارت تلك الدولة الحلم، في ظل حكم الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة)، مجرد سجن كبير يعاني نزلاؤه من إرتريين وحتى أجانب الأمرَّين، فمن ناحية تسقط على رؤوسهم مطرقة فشل السياسات الاقتصادية للنظام الحاكم وتبعاته، ومن الناحية الأخرى ينتظرهم سندان القبضة الأمنية والقمع وسوط الجلاد المسلط على ظهروهم.
لقد فشلت الجبهة الشعبية، بعد تحقيق إستقلال إرتريا وسيطرتها على مقاليد الدولة والحكم، في تلبية متطلبات وتطلعات جماهير الشعب الإرتري. وحاولت إهالة كم من الغبار على هذا الفشل بوسائل شتى دون البحث في أسبابه بل وحاولت معالجته بمزيد من الأخطاء التي يدفع ثمنها المواطن المغلوب على أمره. وتبدت مظاهر هذا الفشل في التخبط الإقتصادي الذي قادت إليه السياسات الاقتصادية الغير مستوعبة لمكونات الدولة ومقدراتها الانتاجية، فالدولة (الحزب الحاكم) يتحكم مرة في الاقتصاد ومرة يدعي فتح أبواب البلاد لكافة العباد للإستثمار، لكن دون التقيد بشروط ومتطلبات إستيعاب مشروعات استثمار أجنبي مما دفع بالكثير من المستثمرين للهروب بجلدهم وترك الكثير من –إن لم يكن كل- أموالهم دون حسرة كبيرة. ومرة يفك الحظر عن التعامل بالنقد الإجنبي وأخرى يضيق الخناق على من يتعامل بها. وفي ظل غياب التخطيط الاقتصادي السليم (وحتى غير السليم) وضعف الموارد الاقتصادية، ظلت الدولة تعتمد بشكل أساسي على المعونة الأمريكية لتغطية الفجوة الغذائية التي لازمتها منذ الاستقلال، وعلى المعونات الخارجية بصفة عامة، ليرزح المواطن تحت خط الفقر.
صين ماو
كما تبدت مظاهر فشلها في العجز السياسي، الذي أصبح سمتها المميزة، في عدم إيفائها بإلتزاماتها في بسط الحريات وإشاعة الديمقراطية. فهي ومنذ أن دانت لها مقاليد الحكم ظلت تلتف حول هذه القضايا، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بتكريسها لنهج دولة الحزب الأوحد في ظل غياب مؤسسات حقيقية للدولة وللحزب يمكنها حتى ان تضطلع بهذا الدور، مثل ما يحدث في كثير من بلدان العالم الثالث التي استفادت من مؤسسات دولها لتكريس هذا النهج عسكرياً كان أم مدنياً. لتظهر في الإطار صورة دولة ونظام حاكم يعجز أبرع رسامي المدرسة السريالية في فك طلاسم خطوطها.
وفي أحوال كثيرة حاولت الجبهة الشعبية الاستفادة من علاقتها وعلاقة قياداتها بالصين والإقتداء بمنهج "الثورة الثقافية" رغم أخطائها الاقتصادية والسياسية. ويبدو أن الجبهة الشعبية آثرت الأخذ بهذه الأخطاء لتقع في شرك "عصابة الأربعة"، وهي لم يرضها الإكتفاء بالأربعة لتضيف إليهم خامس. وكل ما أخذته من "صين ماو" هو قشور منهجها الأمني والمخابراتي، لتمارس سياساتها الأمنية وفق منطق مختل زاد من وحشية القمع والبطش في ظل الحصار الذي تضربه حول أي معلومات عن هذا الأمر.
في ظل هذا التخبط كان لابد للجبهة الشعبية أن تحاول شغل جبهتها الداخلية، وفي ذات الوقت إيجاد مبررات أخرى لمزيد من القهر، وذلك بمحاولة لعب دور مركزي في الإقليم. ولأنها غير ملمة بقواعد التوازنات الإقليمية، قادها ذلك إلى اتخاذ سياسات خارجية اتسمت بردود الأفعال أكثر منها بالقدرة على المبادرة، ليدفع ثمنها المواطن الإرتري موتاً وجوعاً. ولا يهمني هنا إيراد شواهد على ذلك، فيكفي انها ظلت في حروب مستمرة مع جيرانها مما يعني أن هناك خطأ ما كان عليها الإلتفات إلى معالجته بطرق أخرى غير الحرب التي قضت على يابسها وقليل أخضرها. ولكن يبدو أنها وجدت فيها مخارج لكثير من إشكالياتها الداخلية ومبرر لتغطية ممارساتها القمعية، لتغير من دعواتها لقرن أفريقي ينعم بالسلام، ويصبح خلق التوترات سياسة معتمدة في دفتر علاقاتها الخارجية.
الثابت هو العلاقات الشعبية
ووجدت الجبهة الشعبية نفسها في لعبة إيواء الفصائل المعارضة لدولها، وإنها يمكن أن تكون اوراق تزيد من حدة التوترات في المنطقة لإبتزاز مواطنيها وبقائهم في دوامة الطوارئ واستمرار القوانين الاستثنائية وقمع أي دعاوي للإصلاح السياسي والاقتصادي في سبيل بقائها في الحكم. ومثال السودان خير شاهد على ذلك. ولكن عند تناول موضوع الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة) التنظيم الحاكم في إرتريا وعلاقته بالشعب السوداني وتنظيماته السياسية، لابد من استصحاب تواجدها في السودان أثناء مرحلة نضال الشعب الإرتري ضد الوجود الإثيوبي. وقراءة التقلبات السياسية في السودان إبان تلك الفترة في مقابل ثبات العلاقة بين الشعبين السوداني والإرتري. ويمكن القول أن العلاقات بين التنظيمات الإرترية عموماً والأنظمة السودانية حكمتها عوامل المصالح الإقليمية والدولية وعلاقة هذا الحزب السوداني بذاك الفصيل الإرتري. ولكن الثابت هو إيمان السودانيين عموماً بعدالة القضية الإرترية ومناصرتهم ووقوفهم خلفها في العديد من المحافل.
ولكن لماذا استضافت الجبهة الشعبية الحاكمة المعارضة السودانية، ولماذا قبلت المعارضة السودانية ذلك؟؟
أفرز النظام الحاكم في الخرطوم منذ انقلاب يونيو 89 واقعاً غريباً على الممارسة السياسية في السودان –خاصة في مرحلة التسعينيات- قطع أمام القوى المعارضة كل سبل المعارضة السلمية مما دفعها إلى اتخاذ وسائل جديدة لمواجهة النظام على رأسها المواجهة المسلحة. وشجعها في ذلك القوة الضاربة للحركة الشعبية لتحرير السودان بعد تجاوزها لمرحلة الانقسامات الحادة في مطلع التسعينيات وتحقيق تماسكها العسكري. إذاً فقد دفعت حكومة الخرطوم القوى المعارضة لمجابهتها بالسلاح. لتجد المعارضة السودانية لدى الجبهة الشعبية، التي ساءت علاقتها مع نظام الخرطوم وتضاربت مصالحهما. استعداداً لاستضافتها.
ولكن المعارضة السودانية، التي عركت السياسة وعركتها، لم تلجأ إلى إرتريا لخدمة أجندة تخص الجبهة الشعبية، ومقررات مؤتمر القضايا المصيرية –أسمرا 95 لا علاقة له بأي أجندة أرترية سوى مكان انعقاده. ولكن التقت مصالح الاثنين في عدائهما، إضافة للعداء الدولي حينها، للنظام في الخرطوم الذي استفادت منه الجبهة الشعبية أكثر مما استفادت منه المعارضة السودانية. ولكن عشرة سنوات من المواجهة المسلحة بين المعارضة السودانية وحكومة الخرطوم في الجبهة الشرقية كثيرة بحيث تحتمل أي تقلبات داخلية وإقليمية وبالتالي تغيير مواقف واستراتيجيات وإعادة صياغة مصالح.
الشعبية واتفاق السلام
رمى المجتمع الدولي بكل ثقله في ملعب القضية السودانية، وقاد كل الأطراف إلى الرضوخ والجلوس حول طاولة التفاوض للوصول إلى اتفاق سلام ليلعب (الفأر) في عب الجبهة الشعبية. وشعرت بعد أن بات واضحاً أن مسألة توقيع السلام السوداني بدات ملامحها تتضح في الأفق أن اللعبة خرجت من بين يديها. وكانت تعتقد أنها مسيطرة تماماً على الوضع وأنها تستطيع فرض إرادتها على المعارضة السودانية بما فيها الحركة الشعبية والضغط على النظام في الخرطوم لتحقيق مصالحة معه تضمن لها إستمرارها في الحكم. وتجلى ذلك الفهم في غضبها على الحركة الشعبية والفتور الذي شاب علاقتها بها في المراحل النهائية لنيفاشا وإحساسها بأن الفأس واقع في الرأس. كما تجلى في مرارتها الواضحة بعد نقل ملعب التفاوض السوداني السوداني إلى منبر القاهرة لتشعر بعدها بأنها وقفت عارية في الهواء الطلق سوى من بضع أفراد لن يقوها حر المنخفضات ولا زمهرير المرتفعات، وهي التي صور لها وهمها بأن تحمل المعارضة السودانية على أكتافها لتدخل بها إلى الخرطوم، متناسية أن السودانيين يمكن أن يختلفوا لدرجة الإقتتال حتى في البيت الواحد ولكنهم لا ينقادون لأحد ولا يخدمون سوى أجندتهم حتى وإن كانت هذه الأجندة (شخصية) سوى نفر قليل وهم في خاتمة المطاف يخدمون أجندتهم الشخصية ولكن بعد ان يدفعون ثمناً غالياً لذلك. وهؤلاء يذكرونني بمقولة الثائر عثمان دقنة حينما كان في مغارته الجبلية هو ونائبه تطاردهما القوات البريطانية، وخرج صاحبه لتقصي الأخبار وأشياء أخرى إلى أن عاد ومعه أفراد من الجيش البريطاني فقال عثمان دقنة لصاحبه "أنا قبضت إنشاء الله ما تكون بعتني رخيص".
ولكن لماذا ترفض الجبهة الشعبية مشروع السلام السوداني وتقف ضده؟ هي طبعاً لن تصرح بذلك، وفي كل مرة ستخرج علينا تصريحاتها بالترحيب بالسلام السوداني، لكنها في حقيقة الأمر لن يهدأ لها بال طالما مصالحها وبقاءها في الحكم عرضة للريح. فهي كانت تطمع بأن تخرج وثيقة السلام السودانية ببصمة "جبه شعبية" على الأقل، كما كانت تطمح في التوصل إلى تسوية مع نظام الخرطوم قبل اقرار السلام، وهذا يفسره موقفها وغضبها من المعارضة السودانية لدرجة أن أحد أطرافها سيكون له ثقله المعتبر في النظام القادم للخرطوم. ولكن ماذا تفعل وكل الأوراق تنسل من بين يديها، فها هي جبهتها الداخلية آيلة للسقوط، بعد الهروب الكبير في أوساط أفراد وقيادات الجيش الأرتري ووسط المواطنين إلى خارج البلاد، رغم محاولاتها اليائسة في إغلاق الحدود والطرقات بنشر قوات أكبر في كل مرة ولكنها لم تفطن إلى الهروب هو وسط هؤلاء أنفسهم. وها هي عملية السلام السودانية تسير إلى نهاياتها وعليها الآن مواجهة مصيرها مع معارضتها الداخلية والخارجية
كانت تلك محاولة قراءة سريعة أقابل بها تلك المقدمة السريعة التي أستهليت بها تلك المشاهدات والروايات عن سجون المخابرات الإرترية ومعاناة المواطنين هناك إثر تجربة عايشتها بتفاصيلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق