18 أبريل 2005
إنه يوم بطعم السودان ونكهة شرقه المميزة؛ ففي منتصف النهار وصلت –وسط ترقب المعتقلين في سجن "أدر سار"- الشاحنة الفيات من مدينة تسني. وصل على متنها هذه المرة ما يفوق الخمسين معتقلاً بينهم خمسة سودانيين من أبناء الشرق ومن مدينة كسلا بالتحديد. إثنان من أبناء الهدندوة هما فرج وأونور والآخرين من أبناء الرشايدة هما بِركي ومحمد وإدريس (أول مرة أسمع بهذا الإسم بين أبناء الرشايدة).
كما ذكرت في موضع سابق فإن التداخل القبلي بين إرتريا والسودان يكاد أن يذيب الحدود الجغرافية وهو بالفعل يذيب الحدود الإثنية خاصة في الحدود الشرقية للسودان التي تقابل الغربية لإرتريا. ويتبدى ذلك جلياً في الإمتداد القبلي المتمثل في قبائل الهدندوة والتي تسمى في إرتريا بالحدارب وهم من يتحدثون لغة البدويت، وقبائل البني عامر عندنا هي قبائل التقري كما يسمونها هناك وهم من يتحدثون بلغة التقري، وقبائل الرشائدة المتواجدة في الدولتين وهم معروفون بأصولهم ولغتهم العربية.
إذاً قويت شوكتنا –نحن السودانيون- بهذا العدد المعتبر، فقد أصبح عددنا تسعة معتقلين يحملون الجنسية السودانية ومصنفون كسودانيين في سجلات السجن. أقول هذا لأن كثيرين من أبناء إرتريا وخاصة أبناء القبائل الحدودية المذكورة يحملون الجنسيتين السودانية والإرترية وهذا يعد من المؤشرات المضيئة للعلاقات الأزلية بين الشعبين رغم أنهم يعاملون في إرتريا باعتبارهم إرتريين وفي السودان باعتبارهم سودانيين.
ليس هذا العدد المعتبر هو ما قوى شوكتنا فقط، لكن تلك الروح المرحة التي أضفاها على عنبرنا -التحت أرضي- كل من فرج وإدريس، لتصبح الفترة ما بين الواحدة بعد الظهر (نهاية الفترة الأولى من الأعمال الشاقة) والثالثة عصراً (بداية الفترة الثانية من الأعمال الشاقة) أكثر الأوقات إمتاعاً بعد أن كانت تمضي ثقيلة ومثقلة بتعبنا وإرهاقنا وكثير همومنا من مصير مجهول. ففرج يجيد الغناء خاصة بالبدويت، وهو عضو في فرقة فنية معروفة في منطقة كسلا وما حولها ويمتلك حنجرة صافية وصوت شجي، إلى جانب ذلك فهو صاحب نكتة وتعليق ينم عن سرعة البديهة وحضورها. أما إدريس الرشيدي فكان يجيد التقليد والمحاكاة، ليتبادلا فينا تلك السويعات نغطي خلالها دهشتنا واستحساننا وضحكاتنا بجدار من الأسمنت والحذر وجسد مرهق أصلاً خوفاً من سوط السجان.
صار الطقس سودانياً –داخل عنبرنا- أكثر من كونه أرترياً رغم وجود ما يفوق المائة وخمسين من المواطنين الأرتريين داخله. فمعظم المعتقلين هنا إما متهمون بالهروب إلى السودان أو متهمون بمحاولات تهريب مواطنين إلى السودان، وداخل هذا الطقس الذي خفف علي كثيراً وكلما صدح فرج بأغنية هدندوية استرخى جسدي وسرح فكري في تلك المعاملة السيئة التي يلقاها السودانيون المقيمون في إرتريا تحت ظل حكم الجبهة الشعبية. فما أن تقترب أيام المناسبات التي تنظمها الجبهة الشعبية حتى ترى السودانيين المقيمين هناك يسيرون بجوار الأسوار خوفاً من الزج بهم في السجون. رغم ذلك لا يسلم أحد من قضاء فترته في السجن من قبل بدء الإحتفال المعني وحتى ما بعد انقضاء مدته إلا من رحم ربي. ولا يسلم حتى المنتمين لتنظيمات معارضة من ذلك.
بين الدولة والثورة
للجبهة الشعبية مواقف كثيرة مع المعارضة السودانية وأفرادها المقيمين في المدن وحتى المتواجدين في الجبهة الشرقية تكشف عن نوعية الذهنية التي تسيطر على قادتها. ويبدو أن نشوة إنتصارها على الجيش الإثيوبي وتحقيق الشعب الإرتري لإستقلاله (وقد كانت تمثل طليعته وقتها، بعد أن أزاحت عن طريقها كل الحركات الإرترية المقاتلة في فترة سابقة)، يبدو أن نشوة الانتصار تلك صورت لها أنها قادرة على إخضاع كل منطقة القرن الأفريقي وأن لها القدرة على لعب دور مركزي في المسألة السودانية يمكنها من السيطرة على كل خيوط اللعبة. ولكنها تجاهلت أو بالأحرى لم يفهم قادتها أن اللعبة السياسية لها قواعد متحركة سواء داخلياً أو على المستوى الإقليمي أو الدولي وأن متطلبات التعامل مع قواعد النضال المسلح هي ليست متطلبات التعامل مع جهاز الدولة.
يكتب عبدالرحمن ابن محمد بن خلدون الحضرمي في مقدمته في الفصل 47 (في كيفية طروق الخلل للدولة): "فإذا جاءت الدولة طبيعة المُلكِ من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك، فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم. ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من المُلك والعز والغلب، فيحيط بهما هادمان وهما الترف والقهر. ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون ويقلون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم، وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها، فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها، وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية، إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية، لفقدان الرحم والقرابة منها."
فإذا كانت الدولة التي عاصرها بن خلدون، وقرأ بحصافة ودقة ما قبلها، تقوم على العصبية القبلية (الأمويون، العباسيون وغيرهم عند العرب، وحتى على أيام الفرس والروم والممالك الأوربية هي أمثلة ساطعة لذلك) ويفعل فيهم صاحب الأمر ما يفعل بدافع الخوف على ملكه، فإن الأنظمة الاستبدادية تقوم على عصبية أخرى تحكمها مصالح أكبر من مصالح القبيلة لكنها تقود إلى ذات النتيجة ويفعل صاحب الأمر ما يفعل أيضاً بدافع الخوف على حكمه.
الشعبية وعنق الزجاجة
إسقاط هذا القول على الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة) لا يحتاج لكبير عناء على المستوى الداخلي لها. ولأنها لا تقرأ جيداً فهي لم تستفد من ما يحدث حولها، ويعزى ذلك لضعف قدراتها على مستوى إدارة دولة، وكذلك لقلة خبراتها في التعامل مع قواعد اللعبة السياسية. وقد قلت من قبل إن قادتها يحاولون ممارسة السياسة على طريقة الفهلوة السودانية فيدخلون أنفسهم في الزجاجة ويغلقونها خلفهم ثم لا يعرفون طريقاً للخروج من عنقها الشيء الذي يجيده الساسة السوادنيون. ومرد ذلك لا لشيء إلا للخبرة الطويلة للسودانيين في ممارسة العمل السياسي والتي تقف أمامها تجربة الجبهة الشعبية ضئيلة جداً وهو ما يجعلها تتخبط لأنها لا تريد أن تقرأ أصلاً. وحتى أنها لم تستفد من أخطاء ألد أعدائها (نظام الخرطوم) الذي بدأ عدائياً لدرجة الهوس تجاه التعددية السياسية والديمقراطية وفعل في مواجهتهما ما فعل، وانتهى به المطاف للإضطرار لدفع إستحقاقات قيام نظام ديمقراطي يقوم على التعددية السياسية، يؤمن به أو لا يؤمن ليس مهماً ولكنها القواعد المتحركة للعبة السياسية.
الجبهة الشعبية حاولت لي عنق هذه الحقيقة (ضعف خبرتها السياسية) في تعاملها مع المعارضة السودانية، واعتقدت أنها لطالما استضافتها –رغم أن الذي استضافها هو رحابة صدر الشعب الإرتري- فإنها ستحقق عبرها أجندتها وتستطيع أن تملي عليها ما تريد، متجاهلة أنها تتعامل مع قيادات وأحزاب عركت السياسة وعركتها. وتحضرني هنا واقعة –والعهدة على الراوي- أن الأمين محمد سعيد (أمين عام الجبهة الشعبية) اتصل هاتفياً بمكتب مولانا الميرغني وقال لمستقبله على الخط، بعد أن عرف نفسه، أنه يريد مولانا. فرد عليه المستقبِل :"مولانا .. مرة واحدة. ما تقول ..... أو..... بعدين تجي لمرحلة مولانا".
26 أبريل 2004
وغنى مرة أخرى فرج ليقوم بعده إدريس بتمثيل وقائع تعذيبهم في سجن المخابرات بتسني بطريقة ساخرة جعلت صوتنا يرتفع ضحكاً. إنها السخرية التي تقتل المعاناة والرتابة وتعمل على تجاهل كونك معتقلاً مع الأشغال الشاقة وتحت الأرض.
أفراد كثيرين تعرفت عليهم هناك وحقائق أكثر تكشفت لي أثناء مسيرتي من سجن المخابرات الأرترية "تراكبي" بالعاصمة أسمرا إلى سجن "أدر سار" الواقع في وسط رئاسة قوات حرس الحدود الأرترية بالقرب من الحدود الشرقية للسودان. أبرز هذه الحقائق أن نظام الجبهة الشعبية (للديمقرطية والعدالة) يعادي كل شعبه، لا يفرق في هذا بين التقرنيا والبلين ولا بين التقري والساورتا ولا بين المسلم والمسيحي. إنه يعادي الجميع دون تمييز، فقط صفوة قبيلة الجبهة الشعبية وديانتها هي السائدة. ولكنها كما كتب بن خلدون " يحيط بها هادمان وهما الترف والقهر. ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون ويقلون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم"
هذه الحكاوي ينطبق كثير منها على كل الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث التي عانت شعوبها تحت ظل أنظمة وطنية أكثر مما عانت اثناء فترات استعمارها. ولا مخرج لنا من كل هذا سوى الإيمان الراسخ بالديمقراطية قولاً وفعلاً، وجوهرها هو الاعتراف بالآخرأوالإيمان به وبقدراته واحترامه واحترام حقوقه. إنه المفتاح للولوج إلى لب الحل، أنه المفتاح لبناء الدولة على أسس متينة والمفتاح للتنمية والنهضة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق