14 أبريل 2004
هرج شديد غطَّى على كل أحاسيس التعب والإرهاق ونحن قادمون منتصف النهار، عندما جاء القائد الإداري ومسئول شئون المعتقلين في إدارة سجن "أدر سار"، النقيب سلطان وهو خريج كلية القانون في جامعة أديس أبابا الأثيوبية قبل تحرير إرتريا، وانخرط مثل كثيرين من أبناء الشعب الإرتري في النضال من أجل تحرير وإستقلال وطنه وانتهى به المطاف في الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا.
وقف سلطان وسط السجن وهو يحمل عدة أوراق في يده، قرأها البعض في خياله بأنها إفراج عن أعداد كبيرة من المعتقلين، وساور بعضهم التفاؤل في الخروج اليوم قبل غدٍ والعودة إلى الحياة الطبيعية.
كانت المفاجأة المضحكة المبكية التي أعلنها الضابط سلطان، وذلك بعد أن أمر الجميع بالجلوس القرفصاء في هجير الشمس، بينما وقف هو على أطراف ظلة شجرة تكاد تتوارى خجلاً من شدة فقرها خضرةً وظلاً. كانت المفاجأة أن الضابط المسئول عن الإدارة –وهو أقل من سلطان رتبة- قد جمع كل الأمانات التي بطرفه بما فيها أمانات المعتقلين من أموال (وهي أموال كثيرة بمقاييس أرتريا) ومقتنيات ثمينة كانت في حوزة بعض المعتقلين عند احتجازهم، جمع كل هذا وهرب إلى جهة غير معلومة. كانت هذه المفاجأة المضحكة، اما المبكية فهي إعلان سيادة القائد الإداري بأن كل من كانت له أمانة طرف سجن "أدر سار" يعتبرها في حكم الوديعة الضائعة ولا يحق له مطالبة أي جهة عنها لا حاضراً ولا مستقبلاً.
رغم النتيجة المبكية هذه إلا ان الجميع إتفقت أمنياتهم على "أن لا يقع الهارب في يد المخابرات"، خاصة وقد سرت شائعة سريعاً –رغم حرارة الشمس- أن الهارب توجه إلى السودان بغنيمته. ومرد هذه الأمنيات البادية الغرابة أن الهارب يعتبر من ذوي الرتب في الجيش الإرتري، وهم يعاملون بقسوة أشد كما ذكر لي مرة أحد الذين عرفتهم في مدينة أسمرا، وقد كنا نمر بقرب بناية فخمة، أنه كان داخل هذا المبنى مرة وعانى ما عانى من الرائد داؤود ملك التعذيب في المخابرات الأرترية.
مبنى ترافولو الراقي
المبنى يقع في حي "ترافولو" أحد أرقى أحياء العاصمة، الذي كان يسكنه في السابق جنرالات الجيش الأثيوبي في الفترة ما قبل التحرير، وهو مبني بفخامة ومزين بالزجاج يوهم من يراه من الخارج بأنه يخص أحدى الشركات الإستثمارية. مقابل الواجهة من الداخل مكاتب للضباط ومكاتب للتحقيق. ويواصل محدثي، أما من الجهة الغربية داخل المبني فيقوم حائط عالي في وسطه بوابة كبيرة تفضي إلى موقع الزنازين الأول، وهي عبارة عن ثماني زنازين رئيسية مداخلها جنوبية وتطل على ساحة كبيرة نسبياً، جنوبها تقع أربع زنازين أخرى لابد من المرور بباب صغير للوصول إليها، خلفها مباشرة ساحة بذات حجم الأولى. أما من الناحية الشرقية فتوجد بوبابة تفضي إلى أربع زنازين أخرى.
كل رواد هذا المبنى من المعتقلين ينتمون للجيش الأرتري، إما من قدامى المناضلين او من الذين خضعوا للتجنيد حديثاً. وارتبط هذا الموقع بالحرب الأخيرة بين إرتريا وإثيوبيا والتي من تداعياتها، غير حالات الجنون التي بدأت تظهر بشدة في شوارع العاصمة أسمرا وغيرها من المدن وبين الشباب خاصة الذين خاضوا غمار الحرب ولم يحتملوا ضجيج مدافعها، وغير حالات الفقر التي قادت إلى ظاهرة التسول بكثرة أيضاً في كل المدن، كانت واحدة من تداعياتها هي الإعتقالات وسط العسكريين والإعدامات التي طالت العديدين.
أما في هذا المبنى –كما يقول محدثي- فمعظم المعتقلين من القيادات العسكرية التي قادت أسلحة مهمة في الحرب الأخيرة. وجاء إعتقالهم نتيجة لآرائهم في الحرب بعد أن خفت صوت المدافع، وبعضهم أعتقل نتيجة لإنسحابات من موقع دفاعية مهمة بعد العمليات الهجومية الضاغطة التي قام بها الجيش الأثيوبي. وكان محدثي من ضمن الفئة الأولى (كما قال لي). وقد تعرض للتعذيب المستمر طوال فترة وجوده داخل المبنى كغيره من المعتقلين.
داؤود الجلاد
"كان يشرف على التعذيب أحد الضباط يدعى "داؤود" وهو واحد من سيئي السمعة في هذا المجال ويتبع مباشرة للجنرال تخلي منجوس الرجل الخامس في الدولة. كانوا يربطوا يدي بحبل خلف ظهري ويعلقونني في أعلى البوابة. إنه وضع مؤلم يقود إلى الكفر، أن تكون معلقاً لا تبلغ السماء ولا تلامس الأرض. غير هذا كانوا يجلدونني، إنه راتب يومي، رغم خدمتي الطويلة في الجبهة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير إرتريا قبل التحرير. إن آثار السياط لا تزال على جسدي –رفع لي طرف من قميصه ناحية الظهر ليؤكد لي على صدق روايته. غيري كانوا يمرون بنفس الموقف، حتى الفتيات كنا نسمع صراخهن يومياً بعد العاشرة مساء، كنا نقول إنهن يتعرضن للضرب أيضاً وربما الإغتصاب وهو شيء متوقع من داؤود وطاقمه".
أن يتعرض المعتقلون للتعذيب هو أمر إعتيادي، وقد شاهدت ضمن ما شاهدت ذلك الأثيوبي المعتقل معنا في سجن "أدر سار" –لا أذكر إسمه- وهو يتعرض للتعذيب البشع ومعه ذلك العجوز الإرتري ويدعى "قبرو سلاسي". وجدتهما داخل السجن حيث كنت أرى الأثيوبي (الوياني كما يطلقون عليه) يخرج من زنازين الحجز الإنفرادي لقضاء الحاجة فقط، فيما كان العجوز "قبرو سلاسي" معتقل في العنبر الذي يضمني. أعتقل الأول بتهمة محاولة الهروب من إرتريا والعجوز بتهمة محاولة تهريبه، أما العجوز فقد كان يقود عربة بوكس –هي أيضاً معتقلة داخل حظيرة السجن- تخص أحد المواطنين الإرتريين، هو أيضاً تم إعتقاله من أسمرا وإحضاره قبل أيام وهو لا يقل عن ذلك العجوز سناً وخضع لتحقيق شديد بواسطة رجال المخابرات، فقط لأن العربة ملكه هو وعائد عملها التجاري سيدخل جيبه في النهاية. رغم ذلك كان وضعه أفضل حالاً من سابقيه إذ كان يقضي يومه في مظلة فوق الأرض أمام العنابر التحت أرضية بسبب إصابته بمرض السكر وشفع له أنه إستطاع إقناع المسئولين بأن لا علاقة له بما جرى وأن عربته يقودها ذلك العجوز وهو من يحدد نوعية العمل وبالتالي يتحمل المسئولية عنه، ولكنه يقضي ليله تحت الأرض كبقية خلق الله من أمثالنا.
الحرب الأثيوبية الأرترية داخل السجن
كانوا يعلقون "الوياني" والعجوز "قبرو سلاسي" في أعمدة بعد ان يربطوا أياديهما من الخلف بحيث لا تلامس أرجلهما الأرض. ولكنهم كانوا يضغطون على "الوياني" اكثر من زميله العجوز، إلى أن أصيبت يداه بالشلل، ليعجز تماماً عن إستخدام كلتا يديه. ولكني لم أر أصلب منه وأقدر منه على تحمل الأذى. كان كل المعتقلين يشفقون عليه من التعذيب الذي يمارس في حقه، ويسخطون سراً ومرات علانية على تلك الممارسات ويقولون "نعم إنه وياني، ونحن قد عانينا من الحرب مثلما هم عانوا، ولكنه إنسان وقد كان يعيش في إرتريا قبل الحرب حياة طبيعية كغيره من الإثيوبيين".
كانت واحدة من الظواهر التي أفرزتها الحرب، وهي من أسوأ ما أفرزته، تصاعد حدة المشاعر السالبة بين المواطنين في البلدين (إرتريا وإثيوبيا) تجاه بعضهما البعض ولكن تلك الحدة خفَّت كثيراً –على الأقل في الجانب الإرتري- وهو ما لمسته رغم محاولات التصعيد الإعلامي الذي تمارسه سلطات الجبهة الشعبية داخلياً للتعبئة ضد الشعب الإثيوبي. لقد بلغت درجة الحدة -أثناء الحرب وقبل إنخفاض صوت مدافعها- أعلى مستوياتها عندما تعامل النظامان الحاكمان مع المواطنين المتواجدين في بلديهما بردود أفعال الحرب وتداعياتها. فقد طرد الجانبان المواطنين كل إلى بلادهم، وتمت تصفية العديد من المواطنين الإثيوبيين في إرتريا بواسطة جهات مجهولة. تقول إرتريا إن هذا رد فعل لما تقوم به السلطات الإثيوبية ضد مواطنيها هناك. ولكن –في إعتقادي- إن ما تم ليست له علاقة بذلك، وإنما يأتي في إطار تلك المحاولات التي تقوم بها الأنظمة عادة في مثل هذه الظروف، وكما يقول (مونتغمري) :"إن من يريد الإنتصار في الحرب عليه إولاً توحيد جبهته الداخلية" وواحدة من طرق توحيد الجبهة الداخلية لدى أنظمة العالم الثالث هو تعبئة المواطنين ضد مواطني الدولة الأخرى ومحاولة عرقلة القوانين التي جعلت من الممكن أن تتعايش تلك الشعوب مع بعضها رغم كل شيء. وها هي تلك القوانين تثبت فعاليتها داخل سجن "أدر سار" من خلال مظاهر التعاطف مع ذلك "الوياني" الذي أصاب يديه الشلل نتيجة التعذيب المستمر.
15 أبريل 2004
"دجَّن" تعني بالتقرنيا الأرض المحررة (كما قيل لي)، ولكنها تعني بالنسبة لي هذا الشاب الإرتري النشط الذي رمت به الأقدار في سجن "أدر سار". وهو من الشباب الذين تربوا وتلقوا تعليمهم في السودان، لم يتبق له من إرتريته سوى حبه العظيم لوطنه. "ولكنهم كرَّهونا فيها هؤلاء" –يقصد الجبهة الشعبية. عاش "دجَّن" حياته بين الخرطوم (تلاتة) وأركويت مع شقيقتيه ودرس هناك حتى المرحلة الثانوية، ثم قطع دراسته ليتمكن من مساعدة أهله وعمل سائق "رقشة". ولأنني لا أعرف الرقشة، وليس لي تصور محدد عنها وصفها لي "دجَّن" لدرجة أنني تخيلته هو نفسه الرقشة من كثرة حديثه عنها ونشاطه وحركته الزائدة سواء داخل العنبر أو عندما تم تكليفه مع أخوانا بابكر وعبده وإسحق للعمل في المطبخ بعد إطلاق سراح "عامر" وعودته للسودان.
علمت من "دجن" أن الإرتريين في السودان يتسللون إلى ليبيا عن طريق الصحراء، ومنها يحاولون الهجرة إلى بلدان أوربا وخاصة إيطاليا، وأن إحدى شقيقاته سافرت إلى ليبيا منذ عام لذلك يحاول توفير بعض المصاريف لها لتواصل دراستها هناك حتى تتمكن من السفر لاحقاً إلى أوربا. كان هذا سبب قدومه للمرة الثانية لإرتريا مجازفاً لملاقاة والديه المقيمين في مدينة تسني الحدودية لتوفير مبلغ أكبر من المال لشقيقته. نجح في المرة الأولى في عبور الحدود من السودان إلى إرتريا، كما نجح في العودة إلى الخرطوم دون عوائق تذكر. ولكن في المرة الثانية أصر عليه بعض الشباب من معارفه أن يذهبوا معه إلى السودان ويخرجوا من هذا الجحيم الذي يعيشون فيه.
إقتنع "دجن" بعد نقاش طويل معهم بأن يرافقوه في طريق عودته، ووضع خطة بعد أن درس كل الطرق التي يمكن أن يخرج بها في سهولة دون أن تلتقيه قوة من حرس الحدود أو المخابرات المنتشرة. وقرر أن يأخذ أصدقاءه عبر طريق قلسا كسلا بعد أن يقطعوا مسافة محددة مشياً داخل مجرى القاش، ومن ثم يعبرونه قرب جبل قلسا الشهير الذي بتجاوزه يكونوا قد وصلوا إلى بر الأمان.
قاد "دجن" مجموعته حتى وصلوا إلى جبل قلسة حيث كانت في انتظارهم قوة من حرس الحدود وأفراد من المخابرات. حاول "دجن" الهروب وكاد أن ينجح لولا أن القوة أطلقت الرصاص في إتجاههم فأصابت واحد من مجموعته. توقف بعدها وعاد إلى حيث رفيقه الجريح، لتعتقله قوات حرس الحدود هو وبعض أفراد المجموعة في حين نجح واحد في الفرار ومواصلة طريقه ولكن إلى أين؟ (هذا ما لا يعرفه دجن).
تم ترحيلهم فوراً إلى سجن المخابرات في "تسني" ومروا بما يمر به عادة المعتقلون هناك إلى أن تم ترحيلهم في العربة الفيات ضمن مجموعة كبيرة إلى سجن "أدر سار". وعندما سألته عن بقية أفراد المجموعة، قال لي أخذوهم إلى ساوا فهم لم يقضوا فترة التدريب العسكري.
سمهر ووالدها كبروم
شيء أقرب إلى هذا حدث مع "سمهر"، تلك الفتاة الحسناء التي لم تتجاوز السادسة عشر التي أقلقت مضاجعنا يوم أمس. قررت سمهر الهروب إلى السودان، يبدو أنها خططت لذلك منذ مدة طويلة وأسرَّت إلى إحدى زميلاتها بذلك. غادرت تسني إلى قرية قلوج الأقرب للحدود ومن هناك انطلقت على قدميها محاولة عبور المنطقة الحدودية من تلك الناحية حيث منطقة القرقف السودانية.
بدلاً من عبور الحدود وجدت سمهر نفسها داخل عربة لاندكروزر بك أب تابعة لجهاز المخابرات الأرترية عادت بها إلى قلوج، ومن ثم إلى تسني حيث أخضعت للتحقيق لفترة قبل أن يتم استدعاء والدها "كبروم" في منتصف الليل وضربه ليوافق على ما ذكرته إبنته. وكان ما ذكرته سمهر بعد الضغط الشديد عليها من قبل رجال المخابرات أن والدها كان على علم بمحاولة هروبها للسودان، بل هو من حرضها للقيام بذلك. ها هو الأب "كبروم" الذي تجاوز الستين من عمره يستلقي بجواري تعلو وجهه الدقيق الملامح نظرة قلقة وتملأ عينيه عبرة يحاول الإمساك بأطرافها قبل أن تنزلق دموعاً.
لكن ما يثير الدهشة هو أن مخابرات الجبهة الشعبية التي نجحت في إلقاء القبض على سمهر وغيرها وفشلت في إلقاء القبض على الأضعاف المضاعفة من الهاربين الذين نجحوا في عبور الحدود والتسليم للسلطات السودانية ومن ثم إلى مفوضية شئون اللاجئين، تلك المخابرات لم تسأل نفسها ما الذي يجعل فتاة في مثل عمر "سمهر" ذات الستة عشر ربيعاً تجازف كل تلك المجازفة لتعبر وحيدة الحدود إلى دولة أخرى، ولم تسأل نفسها كيف يمكنها الحد من تلك الظاهرة التي تفشت واستشرت بشكل يهدد ليس أمن إرتريا القومي فقط بل إقتصادها وتماسكها الإجتماعي. وكما قال لي "كبروم" هل سيظل عمل المخابرات في بلادي هو مطاردة الهاربين عبر الحدود بدلاً من وضع خطة متكاملة بزوايها السياسية والإقتصادية والإجتماعية تجعل من الممكن أن يعيش الإنسان في وطنه عزيزاً مكرماً بدلاً من السعي الدؤوب لهؤلاء الشباب في محاولات الهروب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق