يدخل القاص جمال عثمان همد عبر مقولة للروائي عبد الرحمن منيف "أعجب الأشياء أن تحصل في غير أوقاتها وفي غير أماكنها"، إلى عالم قصته القصيرة (فواتير مبدئية لذاكرة الآتي)، وكأنه أراد منذ البداية الإمساك بعنصري الزمان والمكان بإحكام. فما بين شارع (كمبشتاتو)، هو أهم شارع وأبرز معالم مدينة أسمرا، ومدافن (الشيخ الأمين) في ناصية منطقة (حزحز)، ضاقت الأرض بما رحبت، وتقلصت كل المسافات البعيدة والأزمنة السحيقة فيما بين تجويف الحلق والحجاب الحاجز لبطله، تلك المنطقة –من الجسد- التي تغلي اختصرت كل شيء.
ربما هذا ما غير فكرته اللحاق بأوراقه قبل أن تبتل او يجرفهما الماء، وفضل أن يشيعهما بحياء ليتابع السير في طريقه. لم تكن مجرد أوراق عادية بالنسبة له، بل شهادة الخدمة والتسريح وإذن صرف الإغاثة، وماذا يملك غيرهما غير بقايا عمر وذاكرة. الذاكرة صارت المكان الذي يعيشه بطل جمال همد، وأمتلأ المكان بما يكفي ليحصل على فاتورته المبدئية لشراء الآتي، والآتي هو الزمان الذي ينتهي بامتلاء الذاكرة.
عندما تتحول الذاكرة إلى سكن دائم تتوقف الأشياء، وتتوقف الحياة. وبطل همد سكن ذاكرته وآثر ان لا يبرحها شبرا، فما أن يخرج إلى الهواء الطلق ليرى حجم التحولات يحس بالخذلان، فالذاكرة ممتلئة لا تحتمل صوراً جديدة لتلتقطها لتتفاعل مع رصيفاتها القابعات هناك، وبالتالي الزمن توقف عند نقطة النهاية. لا فكرة جديدة لدى البطل ولا عين أخرى ينفذ بها إلى عالم الحقيقة الجديدة، الحقيقة التي كان يراها عندما كان أفق الاستقلال يلوح من بعيد. أما الآن والاستقلال صار حقيقة أخرى ماثلة وليست متخيلة، فحق له يطلق كل ضجره وبؤسه (هه) وهو يمر بجوار المتحف الذي يعتبر مظهراً من مظاهر الاستقلال. ثم واصل بطل جمال همد سيره و(كان الصمت يعوي تحت ضربات العكازين وصوت الحذاء البلاستيكي الكتيم , انحسار الهواء في الزقاق ساعده علي سماع وجيب قلبه بوضوح , فأحس بأنه حزين وبائس – ظل فقط يسعي بين الناس يسوق بضاعة تجاوزها الزمان – انفرج الزقاق علي صفوف من الفلات الأنيقة , حديثة العهد , تحرسها كلاب سمينة ممتلئة النباح .باعد من خطواته ليتجاوزها . (كم كلفنا هذا الاستقلال أل ...) اخرس ما تبقي من الجملة, فتتها في داخله خجلا وسار.
لم يحتج وقتاً طويلاً ليقرر الحصول على فاتورته النهائية. يكفي أن يرى تلك اللافتة القماشية المكتوبة على عجل وقد تدلى طرفها الأيمن (الشهداء مشاعل نور تضيء لنا الطريق) ليكتشف حجم ضآلته، وتشتعل تلك المنطقة ما بين الحلق والحجاب الحاجز لتتصاعد أبخرة تطغى على الذاكرة وتضغط على الذكرى، ليقول "أما نحن فظلال نسعى بين الأرجل، نسوق بضاعة كاسدة".
وما أن بلغ بطل جمال همد غرفته حتى "انفتح ثقب كبير في هامة الرأس الأصلع ...شده الثقب فجري علي امتداد العمر الذي شارف علي العقد الخامس . كانت ماضيات أيامه هلاما، مسخا ومتداخلا بصورة غاية في التعقيد والعبثية .. خلف هذا التشوش كانت أيد تلوح مبتعدة، وجوقة من الأغنيات القديمة تغني نشازا، تثقب طبلة الأذن .. ضاعف من وتيرة ركضه، صرخ فخرج صوته مشروخا ما هكذا كنا نغني الأغاني !! كيف استحالت أناشيدنا نشازا ؟ّ!!
التحية لك جمال عثمان همد بمناسبة عيد الأضحى المبارك، والأمر سيان هناك وهنا فالطيور على أشكالها تقع. كلفك والشعب الأرتري النضال من اجل الاستقلال الكثير والكثير، ولعلهم هناك أيضاً لا زالوا يتساءلون مثل بطلك (كم كلفنا هذا الاستقلال أل...). لكن إهزم هرمك واستمد عمراً آخر فالأيام دول، وحتما ستنتصر لقضيتك إن كنت تسعى للحق والسلام والحرية والديمقراطية، واحصل على فواتيرك المبدئية فبالتأكيد الآتي أجمل ولا تستغرب لأن "أعجب الأشياء أن تحصل في غير أوقاتها وفي غير أماكنها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق