أمير بابكر عبدالله
ظلت مسألة العلاقة بين الجنوب وإسرائيل مركزية في خطاب السلطة التحريضي، منذ الحرب الأولى، ضد الحركات المسلحة التي تمردت على سياسات فرض الأمر الواقع ومركزية الحكم ومحاولات الهيمنة الثقافية. وارتكز هذا الخطاب على قاعدة عقائدية إقصائية هي صنو للمكارثية في منهجها بزرع الخوف من الخطر الشيوعي. مع اختلاف واضح في الربط بين العلاقتين، فالثانية تقوم على اتهامات بوجود صلة تربط بعض الناس بالمنظمات الشيوعية حتى دون إثبات كافي لدعم الإدعاء، إذا يكفي أن تشير بأن هذا الشخص شيوعي لتثير حوله الشبهات في كل مقاصده. أما الأولى فهي تهمة لم تنفها حركة الأنيانيا، فقد اعترفت على لسان قادتها بأنها تلقت دعماً عسكرياً وفنياً من إسرائيل في إطار حربها ضد المركز حتى إعلان اتفاق سلام أديس أبابا 1972.
لذلك الخطاب مبرراته المنطقية ومنصاته الثابتة التي ينطلق منها في ذلك الوقت. فالدول العربية ، كغيرها من دول العالم الثالث، مشحونة بروح الثورة والتحرير، وخارجة من قبضة الاستعمار السياسي المباشر بفضل نضالات شعوبها. لم تتوقف تلك الروح الثورية والرغبة في الانعتاق من حكم المستعمر عند حدود دولة بعينها، بل تمددت لتشمل كل البلدان العربية. وبفضل تلك الروح تحول مركز الصراع العربي إلى القدس عندما اكتشف الجميع إن إسرائيل موجودة ليس على خاصرة خريطة الوطن العربي بل في قلبها، بعد المؤامرة الكبرى التي حاكها العالم الغربي ضد فلسطين.
دعم ذلك الخطاب التحريضي قوةً ظلال الحرب الباردة التي كانت تخيم على العالم، وانتقال الحرب إلى ساحات بعيدة عن مراكز اتخاذ قرارها. استفاد الخطاب من الصراع الدائر بين القوتين العظميين "الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي" من أجل السيطرة على مفاتيح العالم، وتحرك في مساحة واسعة ليجد قبولاً وصدى لدى دول أخرى غير عربية، في ظل التمدد الإشتراكي الذي انتظم كثير من البلدان الخارجة من ربقة الاستعمار.
إن الخوف من اسرائيل وقوتها، والدعم الغربي لها، إضافة لبحث الأنظمة العربية عن هدف يمكن حشد الجماهير حوله في سهولة، هو ما جعل الخطاب التحريضي قوياً وفاعلاً وليس لأن العرب أرادوا تحرير القدس أو راغبون في تحرير فلسطين. لقد تقاعس العرب قبل هزيمة 1967 عن دورهم في دعم القضية الفلسطينية، لتجيء تلك الهزيمة وتضع حداً فاصلاً بين الواقع السياسي والتطلعات المشروعة للجماهير العربية، ليكتفوا بالمطالبة باستعادة، وليس تحرير، الأراضي المحتلة في 1967 بدلاً من تحرير كامل التراب الفلسطيني، وحتى الفلسطينيون تقاعسوا، في مراحل أخرى، عن ذلك الدور بقبولهم بأراضي يمارسوا فيها "السلطة الفلسطينية" وليس دولة معترف بها كاملة السيادة. ولم يكتفوا بذلك، وإنما دارت الحرب بينهم ووجهوا فوهات بنادقهم إلى بعضهم البعض لوراثة تلك السلطة المنقوصة.
السودان لم ينتبه لطبيعته الخاصة، التي تميزه عن الكتلة العربية في عمومها، وهو يستخدم ذلك الخطاب التحريضي السلطوي. فجزء عريض من المكون السوداني لا يهتم كثيراً بالقضية العربية "المركزية" إلا في إطارها الإنساني وليس العقائدي. فليس من المستغرب ان تستعين الحركات المسلحة في الجنوب بإسرائيل وأن لا يشكل ذلك الخطاب هاجساً مؤرقاً لدى قادتها، بل على العكس تماماً فإن صراعها مع المركز جزء منه يشكله الخطاب الأحادي العربي الإسلامي المهيمن دون مراعاة لوجود مكونات ثقافية أخرى في البلد. كما إنه تجاهل طبيعة التطورات السياسية من حوله، حتى داخل دول المقاومة أو الطوق، التي هزمت، أو قل، قللت من حدة ذلك الخطاب، ليس بدءاً من اتفاقية السلام "كامب ديفيد" ولا انتهاءاً بمشاريع أوسلو.
هذه التطورات التي كسرت حاجز الخوف من "شيء إسمه اسرائيل"، حيث بدأت ظاهرة جديدة في عهد الإنقاذ، وهي ظاهرة اللجوء إلى إسرائيل ومن أنحاء متفرقة من السودان القديم، وليس قصراً على السودانيين الجنوبيين للبحث عن مبررات غير واقعية لذلك. إن ذلك يمثل قمة الهزيمة للخطاب التحريضي السلطوي وابتعاده عن الواقع السوداني بقضاياه المتعددة والمتشعبة التي تتطلب نظراً وخطاباً قادر على استيعابها والتعاطي معها من أجل وضع حلول واقعية وعملية بعيداً عن افتعال قضايا مصطنعة.
بالنظر إلى الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، والدول الأفريقية الأخرى التي تحيط بالسودان وكلها تقيم علاقات مع دولة إسرائيل، يمكن قراءة التراجع في الخطاب التحريضي الرسمي ضد إسرائيل. فكثير من الدول العربية يرفرف فيها علم إسرائل شامخاً، وبعضها لديه علاقاته التجارية والاقتصادية معها، ومن حولنا التعاون مع إسرائيل بلا حدود. كما أنه ليس لدى قادة المؤتمر الوطني مانع في النظر في العلاقة معها "إذا ما تخلت عن سياساتها الاستيطانية واعترفت بالدولة الفلسطينية"، أو كما اشترط أمين أمانة الإعلام بالمؤتمر الوطني البروفسير إبراهيم غندور لتحسين علاقة السودان مع اسرائيل ،تحولها من دولة مغتصبة ومستعمرة ،والا تتعدى على المقدسات ولا تدمر البيوت حينها سيكون لاية دولة حرة فى العالم ان تراجع علاقاتها. وقال اذا لم تكن زيارة سلفاكير الى اسرائيل مدعاة للاعتداء علينا سنظل نتعامل معها بحسب موقفها منا، مبينا ان السودان لديه علاقات مع دول كثيرة لها علاقات مع اسرائيل.
مع الإبقاء على الخطاب التحريضي غير الرسمي في قمة تطرفه ليس من أجل عيون القدس ولا الفلسطينيين، وإنما لإيجاد هدف للتعبئة والحشد بعيداً عن الأهداف التي يتطلع إليها الشعب. وهذا تنازل سيقود إلى مزيد من التنازلات في ظل التحولات الآنية الجارية في محيط السودان العربي. فاذا سيفعل الخطاب التحريضي غير الرسمي السودان مع موقف حزب النور (السلفي) في مصر الذي صرح ناطقه الرسمي لإذاعة إسرائيلية بأنهم كحزب حريصون على الحفاظ على الاتفاقيات الدولية مع إسرائيل وكذلك ترحيبه للسياح الإسرائيليين بالمجيء إلى مصر. وماذا سيفعل إزاء موقف الأخوان المسلمين وهم يعيدون حساباتهم ويعترفون بالدولة المدنية الديمقراطية ويعترفون بدولة إسرائيل التي لن تتأثر علاقتها ومعاهداتها بوصولهم إلى الحكم في مصر.
إن الخطاب التحريضي السلطوي ضد إسرائيل كانت تدعمه أنظمة ذات توجهات إشتراكية وقومية عربية، ووجدت الدعم الكامل من المعسكر الاشتراكي ووصل ذروته في صراع الحرب الباردة، ليبدأ في التراجع مع التحولات داخل منظومة الحكم العربية إلى اتجاه اليمين والحلف الرأسمالي. ولأن الحركات الإسلامية والإسلام السياسي يمثل قمة اليمين فسينهزم ذلك الخطاب في عهدها، ويتراجع بدرجة كبيرة داخل الوجدان الشعبي. فهزيمة الإشتراكية والاتجاه العالمي الجديد، عالم القطب الواحد، هو الذي دفع بالإسلاميين إلى السطح بعد دعمهم للمعسكر الرأسمالي في ضرب الاشتراكية والشيوعية. إنه حلف ليس بين ندين، لذلك سرعان ما سينضوي الإسلاميون تحت جناح الدول الرأسمالية، مكانهم الطبيعي.
وهو ما سيحدث في السودان، ففي وقت ما كانت الشيوعية سبة ومنكر في السودان في ظل ذلك الخطاب الذي استفادت منه الحركة الإسلامية. الآن مع ارتفاع الوعي والنضال الحقيقي الملموس للشيوعيين في السودان وفرض وجودهم وقدراتهم، يفاخر الإسلاميون بصِلاتهم بهم. الترابي صاحب الدور الأبرز في تثبيت أركان اليمين في السودان يقول "الحزب الشيوعي الآن أقرب حزب لنا".
هو ما سيحدث في السودان وفي ظل حكم الإسلاميين ان يندثر الخطاب التحريضي الرسمي وغير الرسمي المناهض لإسرائيل، وهم الذين يسعون حفاة عراة لينالوا رضا الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن ترفع إسم السودان الذي تسببوا في أن يكون من ضمن قائمتها للدول التي ترعى الإرهاب. ولأنهم ميكافليون والغاية عندهم تبرر الوسيلة فهم يعرفون أن الدخول إلى قلب أمريكا يبدأ من بوابة "إسرائيل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق