أمير بابكر عبدالله
في غضون أسبوع من نشري لمقالة "المخابرات تحكم العالم" باكتمال جزئها الثاني، الذي جاء عن السودان ودوره، وجاء فيه أن السودان يشكل جزءاً من المنظومة المخابراتية لإعادة ترتيب الإقليم، وأيضاً جنوب السودان "فبالرغم من موقف الجنوب المتعاطف الحركة الشعبية شمال السودان –على الأقل- بحكم إنتمائها إلى حركة واحدة قبل خروجها عن الحركة الأم عقب الإنفصال، إلا أن الموقف الجنوبي الجديد سيرتبط بعلاقته مع الشمال ومصالح الدولة الجديدة. وغير هذا فإن سطوة المخابرات العالمية ستشمله دون شك في سبيل إعادة الترتيبات تلك، في غضون أسبوع من اكتمال نشر هذا المقال وقع رئيسا جهازي المخابرات في كل من الشمال والجنوب على اتفاق وقف العدائيات بين البلدين، ليحدثا اختراقاً هاماً في ملفات التفاوض بينهما والتي ظلت لفترة طويلة "محلك سر".
العلاقة بين دولتي الشمال والجنوب لم تصل لمرحلة إطلاق الرصاص واستخدام المدفعية والمدرعات والطيران، أي مرحلة الحرب الشاملة. فكلا الطرفين أضعف مما نتصور ليجاذف أحدهما بالبدء في إطلاق الحرب من عقالها، لأسباب موضوعية يدركانها قبل الآخرين. بالرغم من ذلك ظل شبح الحرب المحتملة يمثل هاجساً إقليمياً ودولياً لتوفر ظروفها الموضوعية أيضاً، فإتفاقية نيفاشا التي أفضت إلى قيام دولتين ظلت بنود كثيرة منها تراوح نصوصها داخل الوثائق، وخلفت قضايا معقدة (عالقة) تحتاج إلى معالجات كان الطبيعي أن تحسم قبل أجل إعلان الدولة الجديدة، وبذلك باتت العلاقة مفخخة قابلة للانفجار في أي لحظة.
ربما كان هذا الوضع مثالياً بالنسبة للنظامين هنا وهناك، لجملة القضايا الداخلية التي تأخذ بخناقهما، فيجدا متنفساً في شماعة يعلقان فشلهما في حلها والتعاطي معها عليها. لكن ضحايا هذا التفكير السلطوي هم مواطنو الدولتين، قتلاً وتجويعاً وتشريداً وقمعاً. ويظل الاحتمال بنشوب الحرب قائماً، وهو ما جعل بصر العالم يرتد مرة اخرى إلى تلك البقعة، ويعمل ضاغطاً للوصول إلى حلول تحول دونها، قبل أن يتجاوز الأمر الحرب بالوكالة بين الدولتين. لذلك جاء اتفاق وقف العدائيات الموقع بين الطرفين في أديس أبابا في العاشر من فبراير الجاري برائحة أمنية لا ليسكت صوت مدافع تجاوز صداها الأفق ولكن ليعيد المعادلة الأمنية بينهما إلى المرحلة الصفرية.
يمكن قراءة الاتفاق في ظل الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، حتى قبل إعلان الدولة الجديدة، وفي إطار (الحرب) التي يشنها كل من النظامين على اطراف سياسية أو عسكرية او كلاهما تقف في ضفة المعارضة وتعمل من أجل إسقاط النظام. وتمهيداً لاتفاقات أخرى ترسم الطريق لعلاقة مستقبلية تضمن بقاء النظامين لأطول فترة في الحكم.
اشتمل الاتفاق على جزئين وتسع مواد، يفسر ثانيهما الجزء الأول من خلال بسط وتفصيل المواد، حيث اشتمل الجزء الأول على مبادئ حسن الجوار وعدم الاعتداء التالية:
1. الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي.
2. عدم التدخل في الشئون الداخلية لبعضهما.
3. رفض استخدام القوة في إدارة علاقاتهما وفقاً للمبادئ المنصوص عليها في مواثيق الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
4. المساواة والمنفعة المتبادلة.
5. التعايش السلمي.
البند الأول من المبدأ الأول لا يحمل جديداً، فهو مجرد نص تقريري متعارف عليه يصلح لأي اتفاق بين دولتين، لكنه لا يصلح في حالة السودان وبعض حدوده وأراضيه لم يحسم أمرها بعد. أما البند الثاني من ذات المبدأ فهو المدخل لبقية المواد الأخرى. ورغم إنه بدأ بشيء تقريري هو احترام سيادة كل دولة للاخرى لكنه ألحقها بتخصيص "بما في ذلك استقلالها السياسي".
من هنا تبدأ ملامح الاتفاق الذي يعني الأجهزة الأمنية في الدولتين. فقد شكلت القوى المعارضة والاتهامات بدعمها من كلا الجانبين مربط فرس الاتفاقية، وهي المعنية بصفة خاصة بما اطلق عليه "العدائيات". فقد داخل المبدأ الثاني مباشرة في صلب الموضوع بامتناع كلا الدولتين في شئون الأخري "بما فيها الشئون التشريعية والتنفيذية"، ويبدو ذلك التخصيص غريباً للذي لا يعرف مدى التداخل والتعقيدات التي ستلازم العلاقات الشمالية الجنوبية طويلاً. فمن "بما في ذلك الاستقلال السياسي" تم تضييق الحلقة أكثر لتشمل التشريعي والتنفيذي، بما يوحي أن التدخل كان مستفحلاً حتى النخاع بين الدولتين.
بعدها، وفي البند التالي من المبدا الثاني، يذهب الاتفاق مباشرة إلى جوهر الحرب والعدائيات المقصود والمستهدف "لا تدعم أي من الدولتين، الأحزاب السياسية، والفعاليات السياسية الأخرى ولا المجموعات والحركات المسلحة المعارضة في الدولة الأخرى". وهو ما سيظل يدور حوله اتفاق وقف العدائيات في كل بنوده القادمة، ما يؤكد حرب الوكالة لا الأصالة التي تحاول الدولتين إشعال نيرانها في ظل ضعفهما وعدم قدرتهما على شن حرب شاملة مباشرة بينهما.
ما سلف يؤكده المبدأ الثالث والمتعلق بالامتناع عن استخدام القوة فيما يتصل بالعلاقات بينهما، وهو المبدأ الأكثر تفصيلا لاشحتوائه على بنود كثيرة مفصلة. بنود هذا المبدأ في ظاهرها تضع الأسس لتفادي حرب شاملة متوقعة بين الدولتين، أو كأنما هو اتفاق لوقف إطلاق النار بعد حرب ضروس جرت بينهما، لكن في حقيقة الأمر ركز على بشكل أكثر وضوحاً على دعم المجموعات والحركات المسلحة المعارضة، وبدا ذلك في أكثر من بند.
1. لا تسمح أي من الدولتين لدولة أخرى باستخدام أراضيها، او لأي مجموعة او حركة مسلحة بإدارة أي فعل عدائي أو تشرع في اي أعمال عسكرية أو أي نشاطات تخريبية ضد الدولة الأخرى.
2. لا تسمح أي من الدولتين بتقديم ملاذ أو أي شكل من اشكال الدعم للمجموعات المسلحة او المرتزقة أو المنظمات الإرهابية او الجماعات الإجرامية المنظمة العابرة للحدود الوطنية التي يمكن ان تقوم باعمال عدائية ضد الدولة الأخرى.
3. لا تقدم أي من الدولتين المساعدات التقنية والاستخباراتية والتدريبية بأي شكل لدولة أخرى أو كيان قد يستخدمها في أعمال عدائية ضد الدولة الأخرى.
واضح جداً من تلك البنود التي ضمها المبدأ الثالث تحركها في ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول والذي يمثل الهاجس الأكبر لدى الدولتين هو الحد من نشاط الحركات والمجموعات المسلحة المعارضة هنا وهناك، وإبطال محاولات إسقاط النظام الحاكم في الدولتين عبر العمل العسكري. الإلتزام بهذا البند ستكون له تأثيراته على الحركات المسلحة بشكل مباشر، وعلى مجمل العمل السياسي المعارض للنظام الحاكم هنا وهناك، بشل قدرات آلية فعالة "النشاط المسلح" من آلياته تبنتها بعض القوى المعارضة وسارت جنباً إلى جنب مع الآليات الأخرى.
الاتجاه الثاني، وهو أقل درجة من الأول، الحد من نشاط وقدرات المنظمات الإرهابية أو الجماعات الإجرامية المنظمة العابرة للحدود الوطنية. وهي في حالة الجنوب والشمال تمثل جهتين لهما تأثيرهما على الدولتين، الجهة الأولى هي جيش الرب اليوغندي الذي يمكن أن يلعب لصالح أي من الدولتين في ظل الحصار المفروض عليه، وظل الجنوب يتهم الشمال بدعمه لزعزعة الاستقرار في بعض أقاليمه. الجهة الثانية وهي محور اهتمام إقليمي ودولي تنظيم القاعدة، يظل الشمال بوضعه السياسي غير المستقر وتمدد الجماعات الأصولية والسلفية فيه مناخاً ملائماً لتواجده ولو خاملاً، أما الجنوب فهو أيضاً أرض خصبة لتواجده وبناء قاعدة له هناك للعبور إلى مناطق أخرى في ظل عدم الاستقرار والتردي الاقتصادي والصراعات المسلحة.
الاتجاه الثالث مبني على احتمالات الحرب مع دولة طرف ثالث، وتقديم أي من الدولتين مساعدة لها ضد الدولة الأخرى، وهو افتراض يظل في علم الغيب طالما لا توجد نذر حرب بين احدى الدولتين الموقعتين على الاتفاق ودولة أخرى (طرف ثالث).
المبدأ الثالث معني بالأمن الاقتصادي لكلا الدولتين، ويشير بشكل اكثر صراحة إلى عدم استغلال الشمال للواقع الجغرافي للجنوب وبالتالي الامتناع عن محاصرته وفتح الطرق جواً وبحراً وبراً أمام حركته مع العالم بموجب مبادئ القانون الدولي.
العبرة في التنفيذ كما يقولون، فبعد يومين من توقيع الاتفاق اتهم الرئيس البشير دولة الجنوب بالعمل على إسقاط النظام في الخرطوم بينما اتهمت جوبا سلاح الطيران الشوداني بقصف مواقع في الجنوب. ستظل تلك الاتهامات متواصلة في إطار علاقة لم تتضح ملامح استقرارها بعد، لكن يبقى هذا الاتفاق هو المدخل لما يمكن ان يحدث في ظل القراءة التي قدمتها سابقاً عن "المخابرات تحكم العالم" والترتيبات الإقليمية التي يسعى إليها المجتمع الدولي بناءاً على التقارير المخابراتية وتوصياتها، وهو كما ذكرت لن يستثني السودان ولا جنوبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق