تهريب واختطاف البشر في شرق السودان Human Smuggling
هذه السلسلة هي تحقيق كتب في العام 2013 ونشر في جريدة الخرطوم، وهو مبني على قصة حقيقية عشت جزءاً كبيراً من تفاصيلها بين مدينتي كسلا والخرطوم، مع تغيير أسماء الشخوص.
لحظة انسداد الأفق تنمو أشواك المخاطر. هذا ما حدث لأسمريت العشرينية البضة. لم تكن حياتها تختلف كثيراً عن قساوة تلك الحجارة الصخرية التي تحيط بمدينتها المحبوبة أسمرا مكونة تلك السلسلة من الجبال.
هي ليست من ذاك الجيل الذي عاش مخاض الثورة، ولا من الجيل الذي عاش انتصاراتها حتى بوابة الدخول العاصمة، لكنها ولدت بعد أن وضع الجنود سلاحهم وترعرعت وهي تقفز من ساحة لأخرى تردد تلك الأهازيج الثورية، لتنتقل إلى مرحلة الأغنيات الحالمة .. أغنيات الحب والوجد والصبابة لتحلم بعيشة هنية وسط أسرتها التي التأم شملها بعد انتهاء الحرب.
مثل كثيرين اصطدمت أسمريت بواقع الحياة القاسية في بلدها، فما أن شبت عن الطوق قليلاً حتى صم أذنيها صوت انفجارات مطار أسمرا الذي استهدفه الطيران الأثيوبي أثناء الحرب الدائرة في الحدود بين الدولتين دون أن تثير تلك الحرب اهتمام طفولتها، كانت الحرب بعيدة عن محيط طفولتها، ولا تدخل غمارها إلا عبر تلك الأناشيد والأغاني التي ترددها مع المغنين أثناء بثها في التلفزيون أو الراديو دون وعي منها. لكنها عاشت مأساة الحرب، وبدأت بذرة القساوة تتسلل داخل طفولتها، بعد أن علمت أن والدها لن يعود مرة أخرى، لن يعود وهو الذي حارب لسنوات طويلة في صفوف الثوار ضد (الدرق) ونالت على اكتافهم أرتريا استقلالها. لن يعود بعد أن سُجل إسمه في دفاتر ضحايا تلك الحرب اللعينة ضمن عشرات الآلاف الذين راحوا ضحيتها، وصار مجرد رقم في سجلات الموتى.
أسمريت تتقدم في العمر بفعل قوانين الطبيعة الربانية، فكل يوم يمر يضاف إلى رصيد عمرها، في حين تتراجع دولتها للوراء منذ انتصار الثورة. فما أن جفت دماء شهداء التحرير حتى وجد قادتها –الذين يجيدون فنون الحرب والكر والفر- أنفسهم أمام مهام لا يجيدون فنون انجازها، ويكابرون عائدين إلى حروب أخرى مع دول تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم، هذه المرة الحرب باسم الدولة لا باسم الثورة.
كان حضن أمها الذي احتواها أكبر أوطانها، وهي التي لا تعي شيئاً عن ما يجري حولها. لكنها تكبر ويضيق ذاك الصدر كلما اتسع نطاق المعاناة، إلى أن بدأت تعي البعبع الذي ينتظرها ويطلقون عليه اسم (القولقلوت) وهي الخدمة الإلزامية التي تفرضها السلطة الحاكمة على كل الشباب، والتي تثير رعبهم وكراهيتهم في ظل الحروب التي تخوضها دولتهم مع كل جيرانها والتعسف الذي تمارسه ضدهم. فلا مناص من أن تقودهم تلك الخطوة إلى إحدى الجبهات المتقيحة ونتيجتها الموت أو الإهمال والمعاناة في أحسن الفروض، حيث لا أفق أمامهم سوى عبور الحدود إلى الضفة الأخرى مهما بلغت المعاناة وخطر المجازفة.
ساوا عالم آخر
تفتحت زهور أسمريت وورودها، رغم ذاك الطقس الجاف، مما أكسبها رونقاً إضافياً، وصار قلبها يخفق استجابة لنظرات الشبان إليها وهمساتهم، بل وقع قلبها في فخ الحب متيماً، حالمة ببعض الحق في الحياة وفي السعادة رغم كل شيء. أثناء ذلك ظلت تواصل دراستها بكل جد واجتهاد وصار النجاح فيها متعة تعزيها كثيراً، متجاوزة بها كل ما يعكر صفوها. لكن ما حدث لأخوها محاري جعلها تعيد البصر كرتين، كان معينها وعينها التي ترى بها العالم لما يتمتع به من ذكاء، فقد قررت السلطات ربط امتحان الشهادة والدخول للجامعة بالجلوس إليه في السنة الأخيرة بمعسكر التجنيد الإجباري بمنطقة (ساوا).
غادر محاري المدينة صوب (ساوا) أملاً في الحصول على إجازة تؤهله دخول الجامعة، لكنه، بعد عدة أشهر، لم يجد سوى أسمريت –التي كان يثق دائماً في نباهتها- ليكتب لها في رسالة طويلة بأن "هنا في ساوا عالم آخر لا يطاق، لن تتحقق أحلامي هنا بعد أن رأيت من سبقوني ومصير الكثيرين الذين تم اقتيادهم للجبهة. قابلت بعض الأصدقاء ونرتب للهروب إلى السودان ومنها سأجد طريقة للوصول إلى إيطاليا، كبر لدي الحلم بمواصلة دراستي هناك فكثيرين غيري فعلوها وهم الآن أحسن حالاً، راسلت كبروم ابن عمي وقال إنه سيساعدني في ذلك. سأساعدك وأساعد أمي المسكينة حالما يستقر بي المقام وأجد عملاً مناسباً مع الدراسة. اهتمي أنت بدراستك ولا يشغلك شيء آخر. ملاحظة مهمة: يجب أن تحرقي هذا الخطاب بعد قراءته فوراً ولا تخبري أمي إلا بعد أن أتصل بها".
الهروب من أرتريا
لا تدري أسمريت كيف نجح محاري في عبور الحدود إلى السودان، وظل يساورها قلق وخوف من مصير مجهول ينتظره. في ذلك الوقت كان عبور الحدود الأرترية إلى البلدان المجاورة يقوم على مخاطرة كبرى، وإن كان حظك في قمة نحسه ستقع في قبضة حرس الحدود وبعد أن يقضوا وطرهم (سجناً وإذلالاً) منك، يعيدونك إلى أقرب جبهة قتال ملتبهة. ورغم ظاهرة الهروب الكثيرة بين الأرتريين إلى دول الجوار إلا أن السودان كان له نصيب الأسد في استقبال تلك الأمواج البشرية، وتلك حالة نفسو-اجتماعية أو ربما للإرث الكبير للسودان في استقبال اللاجئين والدور الذي تقوم به منظمات الأمم المتحدة المعنية خاصة المفوضية السامية للاجئين والمعسكرات المتعددة التي ترعاها، أو ربما للطبيعة الطبوغرافية التي تسهل المهمة ولا تتوافر في الحدود مع الدول الأخرى، وتأتي سهولة مغادرة السودان إلى دول أخرى أو فرص العمل في مدنه المختلفة العامل الأبرز في ذلك الاختيار.
لم تكن ظاهرة تهريب البشر مألوفة عندما غادر محاري معسكر ساوا سيراً على قدميه برفقة ثلاثة من زملائه متجهين غرباً صوب الحدود السودانية. كانت المغامرات فردية في معظمها، ومخاطرها كبيرة دون دليل يعرف الطرقات ويعلم كيف يتجاوز النقاط العسكرية المنصوبة في مناطق متفرقة. كثيرون وقعوا في قبضة حرس الحدود وآخرون نجحوا في العبور إلى الضفة الأخرى.
تلك الرغبة القوية في الهروب من أرتريا هو ما فتح الباب أمام بعض المغامرين ليجعلوا من تهريب البشر مهنة لهم بدلاً من السلع التجارية لما تدره عليهم من أموال مضاعفة لا تقارن وأرباح تجارتهم العادية. وبدأت أولاً حتى دون استغلال مركبات، بل صار الواحد منهم مجرد دليل يأخذ أجره في حالة نجاح الرحلة سيراً على الأقدام أو بواسطة الدواب، إلى أن دخل أصحاب المركبات الخاصة (البكاسي) المهنة من أوسع أبوابها، ليتطور الأمر بدخول سماسرة في هذا المجال يجمعون بين صاحب المركبة والراغبين في اجتياز الحدود بمقابل مادي مجزٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق