أسمريت .. فتاة في المزاد السري - 6

تهريب واختطاف البشر في شرق السودان

هذه السلسلة هي تحقيق كتب في العام 2013 ونشر في جريدة الخرطوم، وهو مبني على قصة حقيقية عشت جزءاً كبيراً من تفاصيلها بين مدينتي كسلا والخرطوم، مع تغيير أسماء الشخوص.

 (17)

كانت الشبكة تعلم أن أسمريت ورفاقها يساوون مبلغاً محترماً "والمعلم" يضع امامهم المعلومات عن الرؤوس الثلاثة التي باعها، لذلك لم يترددوا في دفع المبلغ الذي طلبه ثمناً لهم فهم يثقون فيه لكثرة تعاملهم معه. أما البعض الآخر فكانت طريقة التعامل معه مختلفة، فمنهم من دفع نقداً والآخر دفع (مقدم) بضمانات السداد لحين الوصول إلى السودان.

الصورة: موقع الجزيرة نت

حسب الخطة المرسومة سيتم تقسيم المجموعة بمجرد الوصول إلى القرية الواقعة على أطراف مدينة كسلا، وفي منزل خاص بعيد نسبياً عن الآخرين، وهو ما حدث فعلاً. فقد جرت اتصالات عديدة بين سائق العربة وآخرين في الطرف الآخر لتحضير عربتين فور وصوله لجهتين مختلفتين. المجموعة التي سددت قيمة تهريبها نقداً، تولى أمرها السائق نفسه حسب الاتفاق المسبق معها واتجه بها فوراً في رحلة أخرى طويلة ناحية معسكر (شجراب) للاجئين الواقع بالقرب من مدينتي القربة وحلفا، كان عليه الوصول إلى هناك قبل حلول الفجر. أم المجموعة الثانية التي دفعت مقدماً وتبقى عليها جزء من المبلغ المتفق عليه تولى أمرها سائق أخر ومجموعة من المسلحين الملثمين لتتجه إلى منطقة أخرى قريبة، وتم احتجازها إلى حين السداد.

أما أسمريت ورفيقاها وجدوا أنفسهم داخل عربة بوكس مع مجموعة أخرى من المسلحين. غادرت العربة مكانها في سرعة وسارت في طرقات مختلفة، في دائرة حول ذات المكان لتضليل المجموعة والإيحاء بأنهم سيتجهون إلى مكان آخر مستفيدين من شدة الظلام المخيم على المنطقة. عادت العربة فعلاً إلى ذات المنزل، واجتازت البوابة الكبيرة التي انتظرتهم مفتوحة على مصراعيها إلى الداخل، دون أن ينتبه أحد من الهاربين إلى حقيقة الأمر.

وجدت أسمريت ومجموعتها اثنين آخرين من الارتريين داخل المنزل في الانتظار، ليصبح العدد الكلي للمجموعة خمسة أشخاص (فتاتين وثلاث شبان)، وجدوا أنفسهم في حالة اختطاف.

(18)

من سوء حظ أسمريت أنها جاءت في مرحلة أغلقت فيها منافذ العمل لدى المهربين، فحتى التهريب إلى أسرائيل صار غير مغرٍ بالنسبة للهاربين بعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الاسرائيلية، وتناقصت بحدة اعداد الراغبين في السفر إليه. جاءت في مرحلة اختطاف البشر، وهي المرحلة التي أبرزت إلى السطح، وبقوة، قضية اللاجئين والتهريب والاتجار بالبشر ومن ثم الاختطاف.

هي مرحلة صاحبتها ظاهرة أخرى أكثر خطورة بدأت ملامحها منذ المرحلة السابقة (تهريب البشر) وهي تجارة الأعضاء البشرية. بدأت تجارة الأعضاء بعد تزايد عدد الضحايا من العاجزين عن دفع ثمن حرتهم بالتسلل إلى اسرائيل، حيث تحولت قيمتهم لدى بعض أفراد الشبكة من بدو سيناء إلى أعضاء يبيعونها في سوق تجارة الأعضاء المنتشر في مصر. وهي تجارة رابحة بكل المقايسس لقساة القلوب مقارنة بالتهريب، فهي تتطلب القتل والذبح حين تصبح أعضاء الإنسان أكثر قيمة من حياته. البعض من الناجين يقول إن سيارات مجهزة بغرف عمليات واطباء تتولى الأمر بعد قتل الشخص أو الأشخاص، لاستخراج ما هو مفيد منه ورمي بقيته في الطرقات أو دفنه كيفما اتفق.

لفت الأنظار إلى هذا الأمر القبض على عدد من بدو سيناء بواسطة السلطات الأمنية السودانية، ولكن الجريمة لا تقع هنا بل بعد تجاوز الحدود المصرية، لذلك سرعان ما يطلقون سراحهم لدخولهم بأوراق رسمية أو ربما يبقون لحين التحقيق معهم دون التمكن من بينات تثبت الأمر. وإذا كان الاهتمام بالأرتريين في مرحلة التهريب والاختطاف لمقدرة ذويهم على تسديد التكلفة أو دفع الفدية، فإن بيع الأعضاء لا يفرق بين أحد، حتى الأثيوبيين الغير مرغوب فيهم لدى عصابات التهريب لأنه لا يرجى من ورائهم فائدة مادية، صاروا سلعة يمكن الاستفادة منها في تلك المرحلة، إلى أن بدأت ظاهرة اختطاف السودانيين.

(19)

شعرت أسمريت بالخطر للمرة الأولى منذ بداية رحلتها، وهي تجلس القرفصاء منزوية في آخر الغرفة. وقفزت فزعة عندما ناداها أحدهمن ولكنها شعرت بارتياح كبير، بل وسعادة غامرة حين علمت إنها ستتصل بشقيقها محاري. تضاءلت كل المتاعب والمصاعب التي واجهتها أمام هذه اللحظة، وبدأت الأحلام تترى أمام ناظريها مرة أخرى وتنتشلها من حالة الخوف واليأس التي سيطرت عليها خلال اليوم.

جاءها صوت محاري من الطرف الآخر عبر الأثير، لتتضاعف أشواقها وآمالها. حاولت في خلال مدة الخمس دقائق التي منحت لها أن تحكي له كل أحلام السنوات السابقة لكنها لم تكن كافية، وهو يحاول جاهداً ان يهديء من نفسها ويجعلها تعي المأزق الذي وقعت فيه. كان محاري متابعاً ما يحدث للأرتريين من خلال ما يحكى وما يكتب وما ينشر عن قصصهم في أوربا، وظلت تلك الحكاوي الشغل الشاغل لكثيرين منهم لا تبارح جلساتهم ولا أحاديثهم الهاتفية، فالأمر تورط فيه أريتريون في الخارج تورد بعض الأموال في حساباتهم البنكية دون أن يرونهم.

اكتشفت أسمريت انها رهن حالة اختطاف بعد أن أخذ منها الشخص الذ استدعاها جهاز الموبايل في قسوة، وتابع حديثه مع أخيها:

-المبلغ المطلوب هو خمسة آلاف دولار.

قال له محاري في انزعاج:

- كيف أوفر المبلغ ده في الفترة القصيرة دي؟

- لازم توفروا عشان أختك تمشي معسكر اللاجئين.

- بس أنا ما عندي في الوقت الحاضر.

وجاء صوته هذه المرة حاملاً تهديداً أدركه محاري:

- على كل حال حا نتصل بيك تاني، لكن لازم تعرف إذا ما دفعت المبلغ أختك حا ترجع أرتريا، ده إذا ما ...

كانت عودتها إلى أرتريا تعني موتها إن فارقتها الروح أو إن بقيت في جسدها، وراودتها تلك الكوابيس المفزعة، لكن هذه المرة أثنا يقظتها. وعلمت أن مصيرها بات معلقاً في رقبة تصرف أخيها وقدرته على توفير الفدية المطلوبة لإطلاق سراحها وتسليمها لمفوضية شؤون اللاجئين ومن ثم ذهابها إلى معسكر اللاجئين. وكما بالونة مثقوبة تبخرت كل الأحلام وتناوشتها حالة من اليأس ولكن دون خوف هذه المرة.