بورتسودان .. مدينة استمرت في العصيان
لا تحفل الصحافة والإعلام عموماً بما يجري
في المدن الأخرى، وتهتم بنسبة كبيرة بأحداث العاصمة، حتى في مجال الأحداث الكبرى
مثل انتفاضة مارس – أبريل. وعندما تذكر الانتفاضة تبدأ بالحراك الأول الذي انطلق
من جامعة أمدرمان الإسلامية وما تلاه من أحداث جرت في الخرطوم إلى حين سقوط
الطاغية نميري ونظامه، دون أن تستعرض دور المدن. إلا أن هناك مدن عصية على التجاهل
راكزة في ذاكرة الانتفاضة، فمدينة مثل بورتسودان .. تلك المدينة الاستثنائية، لا
يمكن اسقاطها من دفتر يوميات الثورة والانتفاضة للدور لكبير الذي لعبته في إحكام
قبضة الجماهير على خناق نظام مايو قبل وأثناء الانتفاضة.
حركة دءوبة انتظمت أروقة نقابات المهنيين
في مدينة بورتسودان عقب التطورات التي حدثت في الخرطوم وتصاعد المظاهرات
الجماهيرية في العاصمة وإعلان الهيئة النقابية لآطباء مستشفى الخرطوم الإضراب.
وربما حدد إضراب اطباء الخرطوم مسار النشاط التعبوي لينطلق من ميز الأطباء
بالمدينة، وهو غير موقعه الذي يتوسط مدينة بورتسودان، كان مقرأ لكل الأطباء
العاملين في المدينة. وللاطباء في ذلك الزمان موقع في قلوب المواطنين لأرتباطهم
المباشر بخدماتهم الصحية التي يقدمونها، خاصة إن من بينهم الدكتور طاهر عبد الرحيم
عبدالله والدكتور عبدالله أبو سن بمواقفهما الإنسانية المشهودة التي ظلت محفورة
ومحفوظة في وجدان المدينة.
بدأ المهندسون من مواقع عملهم المختلفة،
والتي تركزت في ثلاثة مواقع رئيسية هي هيئة الموانئ البحرية والسكة الحديد ومصفاة
البترول ومواقع أخرى، بدأوا تحركات واسعة وشكلوا وحدة واحدة للعمل من أجل توحيد
الجهود لإسقاط النظام المايوي التي بدأت بدأت وتيرتها في التصاعد. وهو ما حدث في
نقابات البنوك والضباط الإداريين والمحامين إلى جانب الأطباء والمهندسين ليتشكل
التجمع النقابي في مدينة بورتسودان، ويلحق بهم الإداريين في السكة حديد بورتسودان
قبل إعلان نقابة موظفي السكة الحديد المركزية الإضراب. ولم يتخلف عن الركب رجالات
سوق بورتسودان وتجاره، فبما غاب اتحاد العمال الذي كانت تسيطر عليه عناصر موالية
لنظام مايو، رغم ذلك التحقت نقابة عمال النسيج بالتجمع بقيادة المناضل عبد الله
موسى الذي كان يترأسها.
انتظمت الحركة داخل (ميز) الأطباء منذ
الأول من أبريل وبدت كخلية نحل مما اضطر جهاز الأمن للتدخل مرة واحدة فقط في
محاولة منه لفض الاجتماعات التي يعقدها التجمع.
التهبت المدينة وسيرت الجماهير مظاهرات
يتقدمها التجمع النقابي وحرقت مكاتب جمعية ود نميري وماكتب اتحاد نساء السودان
التابعة للاتحاد الاشتراكي. إلى أن جاء الخامس من أبريل حيث دعا التجمع النقابي
للعصيان المدني ونظم مسيرة ضخمة من ميز الطباء إلى مبنى المحافظة، خرجت فيها
المدينة عن بكرة أبيها مطالبة بسقوط النظام، تقدمها وخاطبها الدكتور طاهر
عبدالرحيم عبدالله.
يروي ممثل المهندسين في التجمع النقابي
بمدينة بورتسودان إنهم آثروا الا يمثلهم الباشمهندس معاوية حبيب مدير مصفاة
بروتسودان نسبة لموقعه الحساس في مرفق حيوي، وطلبوا منه الاستمرار في أداء واجبه
خوفاً من أي كارثة يمكن أن تحدث للمصفاة أثناء غيابه إدارياً وفنياً، ووافقهم على
مضض وهو يرى في الأفق ملامح التغيير القادم.
ويواصل ممثل المهندسين بأن هناك من
الحوادث التي انفردت بها مدينة بورتسودان أيام الانتفاضة ما ميزها على المدن
الأخرى، أولها أن جهاز الأمن وعناصره لم يعترضوا نشاطهم إلا في تلك المرة الوحيدة
أثناء اجتماعهم في ميز الأطباء، ومع مرور الأيام كانوا يتغاضون علانية عن نشاطات
التجمع النقابي، ويغضون الطرف دون أن يعلنوا حيادهم صراحة مثل بقية القوى النظامية
في الشرطة والقوات المسلحة، تلك التي لم تعلن حيادها بل تجاوزته بإشارات الانحياز
للموقف الشعبي الرافض للحكم المايوي.
كما أن كل التظاهرات التي خرجت في مدينة
بورتسودان، عدا تلك التي أحرقت فيها مكاتب جمعية ود نميري لرمزيتها ومكاتب اتحاد
المرأة التابع للاتحاد الاشتراكي، كانت متمسكة بالسلمية وعدم التخريب، وفي ذات
الوقت لم تطلق ولا رصاصة واحدة من قبل عناصر جهاز الأمن تجاه المتظاهرين ولا
استخدموا ضدهم أي شكل من أشكال القمع في تلك الأيام.
أما الحدث الثاني الذي امتازت به مدينة
بورتسودان دون غيرها من المدن هو تلك الإشاعة التي سرت سريعاً بين الناس بأن
النميري سيعود إلى السودان عبر مطار بورتسودان، وكان بعض المنتمين للتجمع النقابي
قد رأوا في تلك الأثناء عربة غربية الشكل ومريبة تتواجد في باحة المطار مما عزز من
قوة الشائعة. ورسمت الشائعة خط سير نميري من بورتسودان إلى مدينة جبيت حيث الحامية
العسكرية ومعهد المشاة، وانطلقت في تصورات للتصدي لذلك قبل أن يتمكن النميري من
الهبوط بطائرته في المدينة. وكانت طائرة نميري وقتها على وشك الانطلاق من واشنطن
لتحط رحالها في العاصمة المصرية القاهرة.
ولأن المدينة هي بوابة السودان ومنفذه
الرئيسي، فقد أحكمت سيطرتها لتقرر مصير السودان ومصير الإضراب السياسي والعصيان
المدني بانحيازها الكامل لخيار الشعب. توقف ضخ النفط إلى الخرطوم، وتعطلت حركة
القطارات والميناء التي تزود السودان باحتياجاته الغذائية. ليبرز الحدث الثالث،
وهو الأكثر أهمية، بعد إعلان استلام المجلس العسكري برئاسة الفريق عبدالرحمن سوار
الدهب السلطة، أعلن التجمع النقابي في مدينة بورتسودان رفضه فك الإضراب السياسي والعصيان
المدني، ورفضت المدينة الانصياع لطلب رئيس المجلس العسكري بفك الإضراب وعودة
الحياة إلى المدينة. وطالب التجمع النقابي في المدينة بحضور وفد من التجمع في
الخرطوم لشرح أبعاد التغيرات الجديدة أو سفر وفد منهم للقاء التجمع بالخرطوم، وكان
الثاني هو الخيار الأقرب، حيث سافر وفد من تجمع مدنية بورتسودان إلى الخرطوم
وبعدها تم الاتصال ببورتسودان ليعلن رفع الإضراب السياسي والعصيان المدني في
التاسع من أبريل، بعد ثلاثة أيام من سقوط نظام نميري. وعادت بعدها الدماء إلى
شرايين خطوط الإمداد إلى مختلف مدن السودان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق