أمير بابكر عبدالله
"زي إبل الرحيل شايلة السقا
وعطشانة"، هذا هو حالة المدينة العريقة عطبرة أو (أتبرا) كما يحلو للمعتَّقين
نطقها. بعد انهيار المرفق الخدمي الأكبر الذي جعلها عاصمة للحديد والنار لسنوات
طويلة، صارت عارية بلا حديد وتلهب النيران ظاهرها وباطنها ومن كل ناحية. إنهيار
السكة الحديد، التي كانت تهبها الحياة، واضح تأثيره على معالمها وعلى سحنات الناس
الذين يعانون الأمرّين من جراء الحالة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد عموماً
ووباء آخر إسمه (الدهب).
المدينة التي يلتف حولها الطريق البري
الرابط بين العاصمة والميناء البحري الرئيسي، ويتفرع منها ليربط مدن أخرى به، لا
يستفيد مواطنوها منه. فكل المواد المستوردة تمر عبرها، سواء عن طريق الشاحنات أو
الأنابيب أو ما تبقى من نفس في قطارات السكة الحديد. فالدولة التي تستورد أكثر من
ثلث حاجتها من الغاز (حسب تصريحات المسؤولين) تمر عبرها، والجازولين الذي
يستوردونه أيضاً كذلك. رغم ذلك يعاني المواطنون هناك طوال الشهور الماضية من شح
الغاز والمواد البترولية. وصل سعر أنبوبة الغاز في السوق السوداء إلى الستين جنيهاً
في بعض الأحيان، وأحياناً كثيرة لا يجدونه بأي سعر. أما الجازولين والبنزين
فيتناوبان الشح، فمرة ترى صفوف المركبات في محطات الوقود بسبب شح الجازولين، ومرات
بسبب البنزين، ولا أحد يعلم لذلك سببا.
رمت سلطات المدينة اللوم على الوكلاء، بعد
استفحال ازمة الغاز، وشرعت في البيع المباشر للجمهور من مستودعاتها، وهي طريقة غير
خطورتها في ظل تجمع أعداد كبيرة من المواطنين في مستودعات الغاز وبعيداً عن
احتياطات السلامة والأمان، تبدو عقيمة ومكلفة بالنسبة للمواطنين، بل وفتحت باباً
آخر للأزمة واستفحالها بعد أن صارت تجارة مربحة في ظل الطلب المتزايد للوقود. يمكن
فهم الأزمة لفترة محدودة بسبب الصيانة في مصفاة الخرطوم للبترول، أو لأي سبب آخر،
وهي فترة مرت على معظم مدن السودان بما فيها العاصمة، لكن أن تستمر الأزمة في ظل
صمت الجهات الرسمية بينما تزداد معاناة المواطنين في المدينة فوق معاناتهم الأصلية
يضع علامات استفهام متتالية على أسباب الأزمة، ويتطلب الأمر من المسؤولين الإجابة
عليها عاجلاً وليس آجلاً. والإجابة العملية بتوفير هذه السلعة وبأسعارها الرسمية
عبر الشركات العاملة في مجال الوقود، وعلى الوكلاء أن يكونوا تحت إشراف تلك
الشركات وتمنح لهم رخصة مزاولة المهنة عبر تلك الشركات وتكون هي المسؤولة عن أي
تجاوزات تحدث.
وللأمر جانب آخر ساهم في الارتفاع الكبير
في أسعر السلع بمختلف أنواعها، فتلك المدينة التي كانت ولسنوات قريبة أكثر مدن
السودان وفرة في المنتجات الزراعية، وكل أسباب المعيشة في متناول يد الجميع، صارت
تكشر عن نيوبها لمواطنيها ولا حياة لمن ينادوا. الكل يريد أن يبيع ويشتري في
مواطنيها البؤساء بسبب وباء (الدهب)، ما أن تدخل السوق أو تقف أمام محل تجاري أو
خدمي، وما أن تخطئ يدك مرتفعة لإيقاف عربة أجرة أو (ركشة)، حتى تتطلع إليك العيون
وتفحصك من أعلى رأسك حتى أسفل قدميك، ولا علاقة هنا للزي أو الشكل بالأمر، فأنت
أكيد من القادمين من تلك الفيافي وفي (جرابك) ملايين من عائدات التنقيب، في الوقت
الذي ينوم معظم مواطني المدينة وهم يضعون على قدروهم حجارة تغلي علّ الصغار
يتوهمون فينومون.
مدينة لا جاز ولا غاز وفوق ذلك يتهم
مواطنوها المغلوبون على أمرهم بالثراء لتنفتح شهية المتعاملين في سوق الخدمات
والتجارة، والسلطات كعادتها نائمة نوم العوافي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق