أمير بابكر عبدالله
للحرب أوجه متعددة ووسائل مختلفة تحقق عن
طريقها أهداف محددة لتزيل أسباب إندلاعها أو خلق التوازن المطلوب لتحقيق تلك
الأهداف بطرق أخرى. وهي عادة ما تنشب بين دولتين وأسباب ذلك يمكن حصرها في الحدود
وهو الأكثر شيوعاً في عصرنا الراهن، أو لأسباب اقتصادية استعمارية وأحياناً لأسباب
إيديولوجية والأسباب الأخيرة تضاءلت واتخذت طرقاً أخرى لبلوغ غاياتها غير المواجهة
العسكرية. أما الحرب الأهلية داخل البلد الواحد فتختلف أسبابها وتتعدد وإن كانت
تتخذ ذات الوسائل وأكثر، وفقاً لطبيعة البلد وثقافته وطبيعة الأسباب التي أوقدت
نيرانها. فإذا كانت المواجهة العسكرية المباشرة هي الشكل الكلاسيكي للحرب بغية
تدمير وشل قدرات الطرف الآخر في سبيل تحقيق تلك الأهداف، وهناك أشكال أخرى كالحرب
الاقتصادية التي تدمر وتشل موارد الطرف الآخر وحرمانه من الاستفادة منها، تأتي
الحرب النفسية كوجه آخر للحرب بغرض السيطرة على عقل وتحطيم معنويات الطرف الآخر،
وهي معروفة وفاعلة منذ قدم التاريخ، وكما قال الزعيم البريطاني تشرشل "كثيراً
ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ".
إن التعامل مع كل وجه أو شكل من أشكال
الحرب يتطلب معرفة آلياته وطريقة عملها للتصدي لها، فإذا كانت المواجهة عسكرية فإن
لها آليات عديدة كالطيران والمدرعات والمشاة والمدفعية والمظلات والقطع البحرية،
وهي تستخدم وفقاً لطبيعة الأرض والحرب. هذه تتطلب من الطرف الآخر آليات مقابلة لها
ومضادة، فالطيران لا يمكن مواجهته بالمشاة وإنما بمضادات الدفاع الجوي "ولو
بالنظر"، وهكذا، وكذا الأمر بالنسبة لأشكال الحرب الأخرى.
إذاً الحرب النفسية، التي يطلق عليها
أيضاً حرب تحطيم المعنويات أو حرب العصابات أو حرب العقول أو حرب الأفكار، تعد من
أخطر أشكال الحروب. وهي الحرب التي يمكن أن تستخدم، إضافة لآلياتها المعروفة،
آليات الأشكال الأخرى للحرب. وهي قادرة على أن تتموه في أشكال الحرب الأخرى ومن
هنا تأتي خطورتها وتفوقها على الأشكال الأخرى، لأن التصدي لها يصعب على مواجهها،
إذ يعتمد الرأي العام أن الدعاية والإشاعة فقط كآليات للحرب النفسية ولكنها تتجلى
في أشكال أخرى طالما تندرج تحت هدف تحطيم معنويات العدو. لذلك النظر إليها من
زاوية آليات الأشكال الأخرى للحرب والتعامل معها بذات آليات المواجهة لها يقلل من
فعالية التعامل معها ويحقق تقدماً ومكسباً لمستخدم تلك الآليات ويوقع الطرف الآخر
في شرك الحرب النفسية.
ما حدث في أم روابة وأبو كرشولة يمكن
قراءته من زاوية الحرب النفسية التي تخوضها الحركة الشعبية –شمال، بمعاونة الحركات
الدارفورية، الهادفة لتحطيم معنويات مركز السلطة بكافة أجهزته. وهي تحركات بعيدة
كل البعد عن محاولات إحراز نصر عسكري حاسم لا تمتلك أدواته الكافية، وإنما تتماهى
التحركات العسكرية الأخيرة بدافع الحرب النفسية في حرب العصابات كمحرك أساسي لما
حدث في الآونة الأخيرة. ويمكن إبراز عدة حقائق تقودنا إلى فهم طبيعة الحرب النفسية
القائمة ومدى نجاح أو إخفاق كل طرف فيها.
أول تلك الحقائق هو أن الحرب الدائرة الآن
هي حرب داخلية أسبابها سياسية وتنموية مرتبطة بمجمل الأزمة في السودان وقضاياه
المصيرية، وهي بالتالي لا تخضع للجغرافيا السياسية ولا عابرة للحدود، بل وتتقاطع
معها قضايا مناطق مختلفة في السودان وإن لم تحمل السلاح في مواجهة السلطة. هذه
الحقيقة تقوي من عناصر استخدام آليات الحرب النفسية التقليدية كالدعاية والإشاعة
للطرف المعادي للسلطة، فالعدو بالنسبة للسلطة ليس أجنبياً بحيث تتراص الجبهة
الداخلية كلها ضده، بل يجد مناصرين له قليلين أو كثيرين داخل قطاعات وشرائح متعددة
من المجتمع، كما يمكنه الاستفادة من موقف محايدين كثر لا تعجبهم سياسات السلطة ولا
هم معنيون بدعم عدو السلطة لا يفرحون لنصر هذا أو هزيمة ذاك، ويعتبرون أنفسهم
الخاسرين الوحيدين من كل ما يجري، ويقفون موقف المتفرج، ووتتأرجح تلك الشريحة
وفقاً لبندول الحرب النفسية وهي تسب السلطة وتلعن سلسفيل عدو السلطة للمأزق الذي
وجدت نفسها فيه بسبب حيادها.
الحقيقة الثانية هي أن الحركة الشعبية –
شمال، ومنذ إعلان استقلال الجنوب، متواجدة على أراضي في السودان الشمالي وتنطلق
منها عملياتها ضد السلطة، وهي – حسب ما تزعم- متواجدة وتسيطر على مساحة تقارب
ال40% من ولاية جنوب كردفان، رغم أن هذا التواجد لا يعني قدرتها على الحفاظ عليها
نتيجة التفوق العسكري، بل يفرض عليها التزامات لا تستطيع الإيفاء بها تجاه
المواطنين المدنيين إن وجدوا. ولن ندخل في جدل الأرقام ولكن حقيقة وجود قوات
للحركة تكشفه قدرتها على التنقل من منطقة إلى أخرى دون أن تكون تحت نظر وبصر
القوات المسلحة وما يتيح لها ذلك هو منهج حرب العصابات كآلية من آليات الحرب
النفسية.
ثالثة الحقائق هي الظروف والمعطيات التي
شهدت فيها السلطة بوادر (أن تشم نفسها قليلاً) في ظل الأزمات المتفاقمة المتوالية
على كافة الصعد، وبداية لاسترخاء وأخذ قسط من الراحة بعد زيارة الرئيس البشير
لجوبا واتفاقه مع الرئيس سلفا كير على حلحلة كافة القضايا المعلقة وإعادة فتح
أنابيب النفط أمام البترول الحبيس أملاً في انفراجة اقتصادية قريبة، متزامناً معها
بدء المفاوضات بينها والحركة الشعبية – شمال المؤمل في إنهائها لسنوات الشد
والتوتر والقلق بين الجانبين.
الإجابة على نجاح عدو السلطة في استخدام
الحرب النفسية من عدمه ووقوع السلطة في شركها يمكن قراءتها، وفق الحقائق أعلاه،
بالنظر إلى ردة فعل السلطة وساستها. فقد مثل وصول قوات الحركة الشعبية – شمال
مدعومة من الحركات الدارفورية إلى أم روابة في ذلك التوقيت صدمة كبرى بقراءة ردود
الأفعال لدى قيادات السلطة.
بيان الناطق الرسمي للقوات المسلحة بدا
مرتبكاً ويكشف عن حجم الصدمة، حيث جاء البيان بعد دخول قوات الحركة لمدينة أم
روابة، وكانت قبلها قد اجتاحت عدة مناطق. الملاحظة الأولى أن صدر البيان بعد دخول
قوات الحركة لمدينة أم روابة وليس قبلها من المناطق، ووقع في أخطاء فادحة لإنطلاقه
من أن ما حدث كأنه اجتياح عسكري لا قبل للقوات المسلحة بصده " وتسللت هذه القوات
عبر المسالك الوعرة بجبال النوبة مستفيدة من الغطاء الذي توفره طبيعة المنطقة إلى أن
وصلوا منطقة أبوكرشولا حيث تصدت لهم قواتنا وأحدثت فيهم خسائر في الأرواح والمعدات.
غير أنهم واصلوا تقدمهم من أجل إحداث أقصى ما يستطيعون من تخريب فنهبوا قرية الله كريم
ثم استهدفوا مدينة أم روابة حيث قاموا بتدمير برج الإتصالات ومحطة الكهرباء ونهبوا
ممتلكات المواطنين ومحطات الوقود. وقد تصدت لهم القوات المسلحة بالمدينة حيث لا تزال
المعارك دائرة ".
هذا تصريح فيه إدعاء ينعكس أثره النفسي
سلباً على القوات المسلحة نفسه، غير الأثر الذي يتركه على المواطنين، في الوقت
الذي لم يكن للقوات المسلحة وجود عملياتي في تلك المناطق باعتبارها مناطق هادئة لم
تطأها أقدام الحركة بعد، حيث تنفتح وتنتشر في مواقع مؤثرة وليس مطلوباً منها
التواجد في كل الأماكن بطبيعة الحال، فإن اجتمع الشعب السوداني كله ليسد كل
الثغرات لما وجد إلى ذلك سبيلا، فالأمن القومي لا تحرسه القوات المسلحة واستتباب
الأمن لا يوفره الأمن وأجهزته المختلفة بل قدرة السلطة على إدارة شؤون الدولة
وسياساتها هي المسؤول الأول عن ذلك.
البيان نفذت إليه الثغرات عندما تعامل مع
أدوات الحرب النفسية باعتبارها آليات لحرب مواجهة عسكرية بين جيشين نظاميين. وقال،
في غمرة ارتباكه، إن قوات الجبهة الثورية "واصلت تقدمها" رغم أن القوات
المسلحة تصدت لهم وأحدثت فيهم خسائر في الأرواح والمعدات قبل دخولها أم روابة حسب
البيان، وفي هذا القول استهانة بالقوات التي ينطق باسمها وهزيمة معنوية لها، ويؤكد
غياب المعلومات أو عدم إكتمالها قبل إصدار البيان. الحركة الشعبية – شمال مفروض في
قواتها أن تعلم مواقع تمركز ومعسكرت القوات المسلحة وتهاجمها إن هي أرادت المواجهة
المسلحة، لكن قرائن الأحوال تشير إلى أنها لم تكن تسعى لحرب مواجهة مع القوات
المسلحة ستفقد جراءها الكثير خاصة مع التطور الإقليمي الجديد وملامح تغير واقع
العداء مع الجنوب بإعلاء صوت المصالح وبالتالي إمكانية فقدانها لعنصر لوجيستي مهم.
إذاً غاياتها تحقيق صدمة نفسية وضربة إعلامية مستغلة حالة الاسترخاء العام للسلطة،
وتلك طبيعة حرب العصابات التي يسعى فيها الطرف الأضعف عسكرياً والذي لا يمتلك
أدوات وقدرات الدولة إلى كسب الحرب النفسية أكثر منه رغبة في تحقيق نصر عسكري
ميداني حقيقي، مستهدفاً بتحركاته ضمن أخريات إحداث حراك جماهيري يحسم أمر المركز.
والناظر إلى طبيعة العمليات العسكرية الممتدة من مناطق دارفور إلى النيل الأزرق
مروراً بجنوب كردفان يلحظ ذلك بسهولة.
الحركة الشعبية – شمال، وكل الحركات
المسلحة وغير المسلحة التي تواجه السلطة، تفتقر إلى امتلاك آلية دعاية (جهاز
إعلامي مؤسس) تدير من خلالها حربها النفسية في اتجاه تعبئة ورفع الروح المعنوية
لمنسوبيها ومقاتليها وفي الاتجاه المعاكس تديرها بغية تحطيم معنويات السلطة، لذلك
فهي تدير معاركها وتستخدم أسلحتها ميدانياً بما يحقق لها ذلك دون أن تدير معارك
عسكرية تقليدية لا تمتلك أدواتها. فالحرب النفسية عادة ما تسبق المواجهة العسكرية
ميدانياً بغرض تحطيم إرادة كل طرف في الحروب بين الدولة وبين الجيوش النظامية، لكن
في ظل معطيات الحروب الداخلية يكون استخدام السلاح ضمن آليات الحرب النفسية ويهدف
ضمن ما يهدف إلى استقطاب قطاعات من المجتمع وانخراطها في العمل المسلح المباشر أو
دعمه.
ردود الفعل السياسية من قبل السلطة جاءت
أسوأ من بيان الناطق الرسمي للقوات المسلحة، وطغت على ما ذكر على لسان الرئيس
البشير بأن السعي للسلام والتفاوض سيمضي رغم ما حدث. وهي ردود فعل رفعت من أسهم
الحرب والمواجهة في ميدان لا يستدعي الحرب والمواجهة وتجييش الجيوش، بل استدعاء
العقل والحكمة والسياسة، وحملت القوات المسلحة فوق طاقتها على المستوى الإعلامي
بأن جعلتها تبدو كالمهزومة ميدانياً وحملتها مسؤولية فشلها في التعامل مع رسالة
سياسية أكثر منها عسكرية، ويتحمل وزير الدفاع بصفته السياسية مسؤولية هذا الاتجاه.
ففي مناخ الصدمة النفسية تم تجييش (المجاهدين) وجهزت قوات جهاز الأمن والمخابرات
الوطني واستعدت قوات الشرطة للذهاب للخطوط الأمامية، كل ذلك يقدح في قدرات الجهة
الرسمية وهي القوات المسلحة ويوحي بعدم قدرتها على تحمل مسؤولياتها، وكأن من
مسؤولياتها تحمل أخطاء السياسيين في الشؤون الداخلية. وهم بذلك يتجاهلون حقيقة أن
ميدان المعركة مفتوح، وأن خروج قوات الحركة من أبو كرشولا لا يعني القضاء عليها،
وأنها متواجدة في مناطق وتنطلق من مواقع داخل السودان سكت عنها السياسيون إلى أن
جاءت أحداث أم روابة وأبو كرشولا، ما يكشف استسلامهم ووقوعهم في شرك للحرب النفسية
وأن ما حدث هو ضربة سياسية وليست عسكرية. فالقضاء على الحركة العسكرية الداخلية لا
يتم بالمواجهات العسكرية المباشرة لأنها ليست من وسائل تحقيق أهدافها، بل يتم
بالحنكة السياسية ومعالجة جذور القضايا التي تقوي من أسباب وجودها وتمدها بالحياة.
الإشاعة كواحدة من آليات الحرب النفسية
تجلت في الأحداث الأخيرة بشكل أكثر فاعلية وقدرة على التأثير، ولعبت الأسافير
دوراً مهماً في ذلك. فمن هول الصدمة النفسية استسلمت قيادات السلطة للاشاعة التي
انطلقت من الأسافير بأن القوات التي اجتاحت أم روابة هي الآن على تخوم مدينة
الأبيض وتحاول دخولها، وأن هناك معارك ضارية تجري. ورفعت دعاية السلطة وإعلامها من
توتر المواطنين أكثر بمحاولات الاستنفار والتعبئة بما يوحي بأن قوات الحركة قادرة
على دخول مدينة الأبيض أو أي مدينة أخرى. والواقع يقول ان قوات الحركة لن تسطيع
البقاء في مدينة أم روابة وغن عليها العودة أدراجها بعد أن حققت أهدافها وبلغت
رسالتها، وهي كما قلنا رسالة سياسية وليست عسكرية. وفي سعيها للحفاظ على قواتها
وآلياتها المستخدمة في الحرب النفسية لن تجازف بها في هجوم على مدينة تتواجد بها
وحدات للقوات المسلحة مما سيدخلها في مواجهة ميدانية، والحركة تدرك ذلك وهم لا
يدركون.
ثم تأتي إشاعة موت قائد قوات الحركة
عبدالعزيز الحلو كشاهد على قوة وتأثير الحرب النفسية. وربما صدق من قال إن من
أطلقها هي الحركة نفسها وصدقتها آلة الإعلام والدعاية الموالية للسلطة ونسجت حولها
الأساطير، لينفضح الأمر بعدها وتفقد تلك الآلة مصداقيتها.
لم تكتف السلطة وسياسيوها بذلك، عندما
جعلت من مركز السلطة هدفاً لقوات الحركة وإنهم سيدخلونها اليوم قبل غد، حتى أن
واحد من قادتهم الكبار قال في ندوة سياسية إن الدم سيسيلل لحد الركب إن حاولت
الحركة الدخول للخرطوم بالسلاح. وهو قول يعبر عن اضطراب من هول الصدمة النفسية التي
يمكن أن تحدثها الإشاعة، ويقول بكل بساطة للمواطنين سندافع فقط عن الخرطوم
بأرواحنا ودمائنا أم أنتم في المدن والأرياف الأخرى فموتوا بغيظكم وبسلاح قوات
الحركة.
السياسيون في السلطة والواجهة السياسية
للقوات المسلحة وقعوا في فخ وشرك الحرب النفسية وانقادوا لأصوات الحرب محملين
القوات المسلحة وزر أخطائهم، وحاصروا أنفسهم داخل التكتيك الحربي فقط، وللحرب
استراتيجيات، بتعاملهم مع الأحداث إنطلاقاً من زوايا الحرب العسكرية الميدانية وأن
العدو محتل لأرض يجب أن يخرج منها الآن قبل غد وكفى، متجاهلين بذلك مسؤولياتهم
ودورهم الذي يفترض أن يلعبوه في هزيمة أسباب الحرب لا المحاربين، فطالما ظلت أسباب
الحرب باقية لن يفيد كثيراً هزيمة المحاربين وهذا ليس دور القوات المسلحة. ستخرج
قوات الحركة من أبو كرشولا اليوم أو غداً، روبما تكون خرجت فعلاً، ثم ماذا بعد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق