أمير بابكر عبدالله
لا أزعم بأني كنت يوماً صديقاً للأستاذ ياسر سعيد عرمان، وإن كانت
الصداقة قيمة نبيلة وتضيف لرصيد الشخص إيجابياً لما لها من شروط وقواعد والتزامات
متبادلة. ولا أزعم بأني أعرفه معرفة خاصة تتيح لي النظر في خصائص شخصيته وطرائق
تفكيره إلا بما هو متاح للجميع. لكن ما هو أكيد بالنسبة لي التقائه ولقائه في
محطات عديدة ما بين الخاص والعام تحفزني على الأقل على قراءة ما يكتبه والتمعن
بعمق في ما يطلقه من تصريحات بنظرة مختلفة أتاحتها لي تلك اللقاءات.
ترتكز كتابات الاستاذ عرمان –بعيداً عن النصوص الشعرية ولهذه قصة
سأوردها - على شحنة عاطفية جياشة ومخزون من الإعجاب المستحق لأعلام السياسة الأكثر
تأثيراً في عالمنا الثالث المعاصر، وأبرزهم غاندي ومانديلا ثم قرنق وسلسلة طويلة
من فاعلين ومؤثرين آخرين. وهي كتابات تستحق الوقوف عندها – من وجهة نظري - أولاً
لأنها تمثل حالة شبيهة بأحوال المسلمين عموماً في حنينهم إلى الماضي ووقوفهم
كثيراً عند محطة (خامس) الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز المكنى بأبي حفص.
وثانياً لأنها، برغم شحنتها المليئة بالعاطفة، تنطوي على رسائل سياسية مهمة تستوجب
تفكيكها وإعادة تركيبها لقراءتها مع الواقع والوقائع السياسية ومقاربتها بالرؤية
والتطبيق لدى ياسر عرمان وخاصة ما نشره مؤخراً "زيارة لمملكة الضياء: إلى
مانديلا شعاع النور في كل الأزمنة". أما الشعر عموماً فلي معه حكاية جعلتني
أنأى بنفسي عن الدخول في دهاليزه إلا بمقدار ما يحققه لي من متعة دون الخوض في
تفاصيله بالنسبة لما يكتبه الأستاذ ياسر أو غيره، فقد حملت يوماً – وأنا إبن أربع
عشرة عاماً – ما حسبت إنه قصيدة شعرية جيدة السبك موزونة ومقفاة وفيها من بديع
التصوير وجمال التعابير، ووقفت بين يدي والدي الذي يتمتع بذائقة أدبية راقية ويحفظ
من الشعر وعلى دراية بدروبه ومتاهاته ما يؤهله للحكم عليها ويشجعني بالمضي قدماً
في هذا الدرب. قرأ والدي القصيدة باهتمام وفكر ثم نظر إلي نظرة طويلة ثم عبس وبسر
ليقول لي بعدها "شوف ليك شغلة غير الشعر يا إبني"، لذلك لا تدخل نصوص
عرمان الشعرية ضمن الكتابات المقصودة.
الربط بين الحالة العاطفية المسيطرة على كتابات عرمان وحالة
النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضي، لدى عامة المسلمين والتي تعتبر حالة عاطفية
كذلك، أن عقدتهما واحدة يمكن إحالتها إلى حالة العجز والفشل في تحقيق مشروع سياسي
يحقق العدالة والنزاهة والرفاهية كما حدث في عهد (خامس) الخلفاء الراشدين عمر بن
عبدالعزيز في حالة عامة المسلمين، أو قلة الإرادة وربما عدم الرغبة في تحقيق مشروع
سياسي بحجم ما أنجزه غاندي ومانديلا وما طمح إليه قرنق في حالة الأستاذ ياسر عرمان
والأخير ليس بماضِ وإنما معاصر يمشي على قدمين. وكلاهما يطمح إلى مشروع يراه قد
تحقق بالفعل ولكنه لا يطاله ولا يبلغ تخومه بسبب صراع النفس أو كما قال عرمان
أثناء زيارته لمملكة الضياء "المجبُولة على الخير
والأمارة بالسوء معاً." كلاهما عاجز عن تحقيقه لعدم توفر الإرادة والعزيمة
ومع ذلك يتغنى به ويبشر به ويحمله حلماً بين جوانحه فقط وكفى الله المؤمنين شر
القتال من أجله.
إن تردي أوضاع المسلمين وتراجع دورهم وفقدانهم البوصلة السياسية جراء
سياسات حكامهم وأنظمة القهر الكبت والترهيب والتخويف التي غلفوها باسم الإسلام،
جعلتهم ينصّبون أبا حفص عمر بن عبد العزيز خليفة راشداً خامساً (عن حق واستحقاق)
بعد ثمانية خلفاء توالوا على الحكم من بني أمية بعد مقتل رابع الخلفاء الراشدين علي
بن أبي طالب رضي الله عنه، وانقطع الرشد بعدها عن حكم وخلافة المسلمين بموت عمر بن
عبد العزيز، إذ لم نسمع بخليفة راشد (سادس) حتى تاريخه.
يحن المسلمون إلى أن يتولى حكمهم رجل مثا عمر بن عبدالعزيز، قال فيه
الذهبي "كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن،
كبير الشأن حافظاً قانتاً لله أواها منيبا يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده
لأمه عمر (بن الخطاب)، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري. عندما كان يكتب
للشعب كان يضيء شمعة من بيت المسلمين وعندما كان يكتب أمورا خاصة به كان يضيء شمعة
من ماله. لُقب بخامس الخلفاء الراشدين لسيره في خلافته سيرة الخلفاء الراشدين."
ويقول عرمان عن مانديلا (حقاً واستحقاقاً)
"كان شيوخ قريته يؤهلونه ليكون سلطاناً فى القرية فأصبح سلطاناً فى قلوب ملايين
البشر فى العالم أجمع، يتساوى فى الإعجاب به نجوم هوليود وقاطني البيت الأبيض وسكان
الأكواخ وهامش المدينة فهو نجم النجوم وسلطان قلوب الفقراء."
في خضم تلك العاطفة الجياشة المسيطرة على أجواء
زيارته لمملكة الضياء التي تؤكد مدى إعجابه وزهوه بتجرية المؤتمر الوطني الأفريقي
في جنوب أفريقيا كنموذج يحتذى ف"قضية التغيير الجذرى مرتبطة بشكل لافكاك منه بقضية
وحدة القوى الديمقراطية والحركات الإجتماعية الجديدة على اساس برنامج ديمقراطى لا تعرف
مفردات الإقصاء وعدم الإعتراف بالاخرين." كما يقول، وهو الشكل الذي تجاوز به
المؤتمر الوطني الأفريقي مأزق المسألة الوطنية في جنوب أفريقيا، في خضم تلك
العاطفة هناك العديد من الرسائل المبثوثة بين ثناياها، وعلى رأسها وحدة القوى الديمقراطية
والحركات الاجتماعية الجديدة، سنتناول ضرورتها وكسب الاستاذ ياسر عرمان فيها ليس
كشخص فقط وإنما كمؤسسة سياسية لها ثقلها ووزنها واعتبارها منذ ما قبل الإنفصال
وإلى الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق