أمير بابكر عبدالله
ترفض البراغماتية كمذهب فكري وفلسفي، خاصة عند جون
ديوي أحد أعمدته الأساسية ، ترفض مبدأ الحديث عن الإنسان خارج علاقاته الاجتماعية باعتباره
حديث عن الإنسان خارج تجربة حياته العملية. والعلاقات الاجتماعية ليست بتلك البساطة
المتخيلة والمؤطرة داخل منظومة المجاملات والزيارات وقدرة شخص ما على خلق شبكة اجتماعية
واسعة لما يتمتع به من شخصية قادرة على ذلك أو، في ظروف أخرى، موقعها يفرض عليها ذلك
شاءت أم أبت. لكنها عملية أكثر تعقيداً ترتبط
بشبكة من العناصر المؤثرة وبنيان متكامل من الأنظمة التي تتفاعل تأثراً وتأثيراً
في علاقات الفرد ومحيطه، وهذا لا يخرج من تجربة الحياة العملية.
في زيارة إلى مملكة الضياء يبعث الأستاذ ياسر عرمان
رسائل قاصدة وحدة القوى الديمقراطية مستلهماً تجربة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في
جنوب أفريقيا. أول تلك الرسائل اعتبار ذلك الحزب نموذجاً عالمياً لتجمع إنساني عالمي
ضم أعارق مختلفة على طريق المصالحة الإنسانية القائمة على العدالة والإنصاف والديمقراطية.
ويشبه القضايا التي طرحت على مناضلي جنوب أفريقيا "في إقامة مجتمع قوس قزح rain bow nation وإقامة "الوحدة
فى التنوع" شديدة الشبه بالواجبات التى تطرح على دفاتر القوى الديمقراطية بالسودان
مع إختلاف الخصائص."
التجارب الإنسانية هي رصيد مفتوح للسحب منه، وتجربة
المؤتمر الوطني الأفريقي لا ينقصها الثراء فهي، بخلاف عمرها الذي تجاوز القرن من الزمان،
غنية بالأحداث والسير ونشأت في بيئة سياسية لا تشبه مناخاتها ما كان سائداً في بقية
أقطار القارة الأفريقية، وربما يعود ذلك في المقام الأول إلى موقعها الجغرافي. كما
إنها توفرت على فئة من القيادات عجم عودها نضال مستمر دفعوا ثمنه أرواحاً ودماءاً وحرية.
وهي تجربة عبرت محطات عديدة منذ بداياتها وتنقلت بين الحوار والعمل المسلح وقيادة الانتفاضات
الجماهيرية إلى أن بلغت آخر محطاتها وتتويجها بإنتهاء نظام الفصل العنصري. وقمة نجاحه
كانت في عدم وجود مستعمر ليخرج (ويمشي لي بلدو)، بل استوعب البيض ضمن النظام السياسي
الجديد في أكبر مشروع سياسي وطني لمصالحة تاريخية بين مكونات المجتمع الجنوب أفريقي.
هل الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال مؤهلة لتلعب،
هنا، الدور الذي أنجزه المؤتمر الوطني الأفريقي في بلاده؟ هذا السؤال مطروح بين ثنايا
تلك الرسائل كرغبة وحلم يحمل الأستاذ ياسر بين جوانحه منذ أن غادر الحزب الشيوعي ونضاله
الجماهيري وعمله اليومي الشاق إلى فضاء العمل المسلح منتسباً إلى الحركة الشعبية لتحرير
السودان (الأم). وهو إنتقال من فضاء إلى فضاء مختلف الفكرة والأدوات والوسائل والمنهج.
ما حدث من انتقال نتيجة ذلك الحلم لا يخص الحزب
الشيوعي ولا يخص الحركة الشعبية، الحزب الشيوعي له تجاربه المختلفة تماماً عن الحركة
الشعبية ومنهجه المغاير لطريقتها، وياسر يحاول المزاوجة بين تجربتيه في كليهما. بينما
تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي وقياداته تجربة متصلة، تدرجت من العمل السلمي والحوار
مع نظام البيض لعقود من الزمان إلى أن انطلق الكفاح المسلح كاستراتيجية بديلة للحوار
بعد تطور القمع وقتل المتظاهرين السلميين إثر حملة التحدي السلمية التي قادها المؤتمر
الوطني الأفريقي ضد نظام الفصل العنصري لتكسير قوانينه التي سنهان لتصل بعد نجاحها
إلى تكوين لجنة الحقيقة والمصالحة التي اجازها أول برلمان جنوب أفريقيا عقب انتهاء
نظام الفصل العنصري. تلك التجربة التي سحرت الاستاذ ياسر عرمان، وربما جعلته يغادر
صفوف الحزب الشيوعي السوداني، أو كما قال في زيارته لمملكة الضياء " وإن ما يميز
المؤتمر الوطنى الافريقى هو الوان الطيف، و محاولة بناء وحدة فى التنوع ، إن هذا ما
يحتاجه السودان بالضبط، ولذا فإننى مسحور بالمؤتمر الوطنى الافريقى منذ بداية الثمانينيات
وكل ما تعمقت معرفتى به بدأ لى ولناظرى إن هنالك صلةٍ ما بين السودان وجنوب افريقيا،
يمكن إعادة صياغة السؤال بنحو مختلف، هل تجربة ياسر
عرمان في الحزب الشيوعي ثم اتصالها بتجربته التي لا تزال مستمرة في الحركة الشعبية
كفيلة بتصديه لمهام وقضايا مثل تلك التي نجح في مواجهتها المؤتمر الوطني الأفريق؟،
أم أن البيئة الحاضنة لتجربته الأولى (الشيوعي) مغايرة ومختلفة عن الثانية (الحركة
الشعبية) خاصة على مستوى الأفكار الكبرى ومنصات الإنطلاق، فالشيوعي ينظر إلى الأمر
من زاوية الصراع الطبقي بينما أطروحات الحركة الشعبية تتغذى من القوميات والهامش؟ وعلى
مستوى الآليات فإن الحزب الشيوعي يعتمد التحالفات السياسية كتكتيك مرحلي بينما تعتمد
الحركة الشعبية على استيعاب الآخرين داخل منظومتها.
تلك الأسئلة تقودنا إلى الرسالة التالية، والأهم
في تقديري، بين ثنايا مملكة الضياء وتجربة الأستاذ ياسر المتنازعة بين التحالف التكتيكي
واستيعاب الآخرين وحلمه الذي لم يغادر جوانحه إلى فعل ملموس، وهي " إن السودان
يحتاج إلى منظمة ديمقراطية عريضة تضم كل القوى الإجتماعية الجديدة وقوى الهامش وقوى
الإستنارة والمثقفين الثوريين".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق