أمير بابكر عبدالله
مثلما حاول الأستاذ ياسر عرمان الدمج بين مسيرتين مختلفتين في
الاستراتيجيات والمنهج والأدوات، صورها حلمه بنموذج المؤتمر الوطني في جنوب
أفريقيا وكأنها مسيرة واحدة، يحمل بين جوانحه ملامح شخصية تنبئ عن تعامله مع الآخر،
والرؤية للآخر هي مفتاح مشروع وحدة القوى الديمقراطية. الشخصية يصورها – من داخل
البيت – الاستاذ فايز الشيخ السليك وهو داخل الدائرة
الأقرب في علاقات عرمان الاجتماعية وتجربة حياته العملية في المسيرة الأخيرة، حيث يكتب
في وميض تساؤلاته تحت قصف المعركة! "وبالطبع ليس هناك أحد في الحركة الشعبية يجهل
أن " التعيينات" كلها تخضع للأمزجة الشخصية، ولقرب وبعد مسافة المعينين من
قلب الأمين العام على وجه التحديد، ودائرة صنع القرار بوجهٍ عام، وبالتالي تنتفي عوامل
الكفاءة، والقدرة على الإبداع، وعلى الإنتاج.". وفي إشارة أكثر وضوحاً يكتب "
فهو بمثلما تكتيكي من طراز فريد لا يعير الاستراتيجيات اهتماماً، كما أنه يضيق ذرعاً
بالنقد والرأي الآخر، لدرجة الاستبداد، ويفتقر إلى سعة الصدر. وسمة الإستبداد هذه أقوى
نقاط ضعف عرمان، وهي كعب أخيل الذي توجه عبره سهام النقد لقائد سياسي لم تساورني شكوك
حول وطنيته، ومواقفه الصدامية من عصابة المؤتمر الوطني، لكنه يحتاج إلى وقفة مع الذات،
وسماع الآخرين بدلاً عن اتخاذ المواقف السلبية.لأن تاريخ الرجل، وقدرته التكتيكية والسياسية
كافية لتحصينه من أي اختراق لو ترك خصلة الاستبداد تلك، والغضب من الرأي الآخر. وهذه
الحالة هي التي تساهم في عملية خلخلة الحركة، بل وضعضعتها، وبالتالي دفع كثيرين نحو
الخروج من المؤسسات والضيق بها، لأن العمل السياسي ليس شركة مساهمة محدودة، أو ورثة
ورثها البعض بواقع الحال، والأسبقية التاريخية والتراتبية النضالية، فالاستبداد مثلما
يقصي عمداً المخالفين في الرأي، هو كذلك يدفع آخرين نحو الهروب."
ربما كان هذا الرأي الذي جهر به فايز السليك
وليد ظروف لا نعلمها وملابسات داخلية وصراع داخلي مقروءاً مع توقيت كتابته ونشره،
لكن ما هو ما هو أكيد أن عرمان أثناء مسيرته الأولى في الحزب الشيوعي السوداني لم
يرتق لمركز صنع القرار أو التأثير فيه لحداثة عهده وتجربته التي لم تتجاوز المرحلة
الثانوية وسنواته الأولى في المرحلة الجامعية، وهذا من البديهيات. لكنه وعبر تجربة
طويلة شاقة إرتقى إلى أعلى مراكز صنع القرار داخل الحركة الشعبية (الأم) وصار
رقماً لا يمكن تجاوزه في أكثر الدوائر ضيقاً فيها، لدرجة أن رشحته الحركة الشعبية
كمنافس في انتخابات رئاسة الجمهورية 2010 وحاز – رقم المقاطعة – على أكثر من
مليوني صوت، أما في الحركة الشعبية – شمال فهو الأكثر حراكاً وتأثيراً وإذا ما
أخذنا برأي السليك فهو صانع القرار فيها.
الحركة الشعبية (الأم) حاضة حلم عرمان فشلت
تماماً في تحقيق وحدة القوى الديمقراطية، وكانت الفرصة مواتية لها في مراحل تطورها
ومحطات انتقالها، لكنها آثرت الإنكفاء على ذاتها أكثر واكثر. ما كان الأستاذ ياسر
يحتاج ان يكرر لنا في زيارته لمملكة الضياء "إن بناء منظمة وطنية ديمقراطية لا
ياتي من المجهول أو من سماء زرقاء صافية بل من حصيلة تحالف أو إندماج طوعي بين المنظمات
الديمقراطية الموجودة، وعبر بناء مظلة ديمقراطية تنضج تحالفاتها فى نار النضال من أجل
التغيير المشتعلة، ورغبة الشعب فى العبور إلى ضفةِ أُخرى تحافظ على وحدة السودان على
أسس جديدة وتتطلع إلى (إتحاد سودانى) بين دولتى السودان مع إحتفاظ كل دولة بإستقلالها."
وكان من واجبه أن يقدم لنا شرحاً وافياً عن أسباب فشل الحركة الشعبية (الأم) في
بناء تلك المنظمة وبالتالي الحفاظ على وحدة السودان بدلاً من التطلع –من جديد- إلى
اتحاد سوداني بين دولتي السودان.
بدلاً من تقديم النموذج الجنوب أفريقي سعت
الحركة الشعبية إلى بناء والمحافظة على نفسها وفقاً لسياسات الأمر الواقع، والأمر
الواقع هو بناء منظمة لا علاقة لها بالديمقراطية بالرغم من "إن السودان يحتاج
إلى منظمة ديمقراطية عريضة تضم كل القوى الإجتماعية الجديدة وقوى الهامش وقوى الإستنارة
والمثقفين الثوريين، تضع فى صدارة برنامجها تحقيق دولة المواطنة بلا تمييز التى تصون
حقوق الإنسان وتحقق العدالة الإجتماعية وتلتزم بسيادة حكم القانون والتداول السلمي
للسلطة وتعطي اولوية لتحرير النساء وأولوية لقضايا الشباب و إتاحة الفرصة لهذه الفئات
فى لعب دور قيادي حاسم فى إتخاذ القرارات."
هذا الفشل مرده إلى طبيعة الحركة الشعبية نفسها
وبنيتها التنظيمية الذي يكرس لمركزية قابضة، وكذلك إلى منهج الحركة ورؤيتها للآخر
الذي كانت تغطي عيوبه وتشوهاته مسيرة الحرب الطويلة وصدى العمليات العسكرية وأصوات
المدافع. تكشفت تلك العيوب بل صارت تمشي على قديمها بعد توقيع اتفاقية السلام
الشامل وبلغت طور البلوغ بعد الانفصال لينهدم المعبد باندلاع الحرب بين أخوة الأمس
ورفقاء النضال بأسوأ مما كانت عليه. وكشفت عن أن الحركة الشعبية الأم ليست سوى وجه
آخر للمؤتمر الوطني بطبيعته الاستبدادية وأنها لم تتعلم من تجارب الآخرين شيئاً.
في رأيي أن الأستاذ ياسر – بموقعه المؤثر
وحراكه السياسي ومسؤوليته المباشرة عن ملفات العلاقات مع القوى السياسية - مسؤول مسؤولية مباشرة عن غياب استراتيجية وحدة
القوى الديمقراطية من مقدمة أجندة الحركة الشعبية، وإبرازها ككرت تكتيكي عند
الحاجة إليها، فأصحاب الأحلام الكبرى لا يجترونها في غمرة انفعالاتهم العاطفية، بل
يسعون إلى تحقيقها عملياً. وقد كان هذا الأمر متاحاً – ولا زال - فكثير من
القطاعات الاجتماعية والقوى الديمقراطية والمثقفين، بل الوطن يتطلع إلى وحدة القوى
الديمقراطية فالمعادلة السياسية فاقدة للتوازن بسبب غياب طرف أساسي من عناصرها،
تلك الوحدة هي المسؤولة عن ما يجري وما سيجري للوطن. كثير من احاديث وكتابات
الأستاذ ياسر عرمان تؤكد إنه مسحور بتجربة المؤتمر الوطني الأفريقي لكنها ستظل
مجرد حلم يرويه لنا كلما غالبته الأشجان وحركت الذكريات عواطفه، فالطريق إلى وحدة
القوى الديمقراطية لا يمر بتقاطع التكتيكات وإنما بدرب الاستراتيجيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق