أمير بابكر عبدالله
تسارع الخطوات السياسية والمسارات الجديدة التي يسلكها، ويعيشها المشهد السوداني، ليست ببعيدة عن التطورات الإقليمية والدولية. هناك خيط، ليس رفيع، بل من السمك والوضوح يربط بينهما ما يجعله ماثلاً في كل الخطوات الجارية رغم محاولات تغييبه عمداً، وحصره في المحاولات التي تبذلها الآلية الأفريقية للتوفيق بين الفرقاء السودانيين ومساعي رئيسها في تسهيل ذلك. لا يمكن إلغاء المشهد الإقليمي الكلي وتطوراته وحذفه من سيناريوهات المستقبل، فما يدور فيه من أحداث وإعادة تشكيل وتوزيع للأدوار لن يكون السودان ولا وسيطه الأفريقي بعيداً عنها.
التطور الأبرز على الصعيد الإقليمي الذي يشمل السودان هو الحلف العربي ضد الإرهاب أو بصورة أكثر دقة ضد الإسلام السياسي وممثلهم الرئيسي (الإخوان المسلمين). وهو يشمل السودان باعتبار أن ناظمه الحاكم يمثل البؤرة الأهم، فهو ليس حركة سياسية معارضة بل يتحرك بمقومات وإمكانية دولة لابد من الضغط عليها لإعادة ترتيب أوراقها بحيث تتواءم مع الأهداف الكلية للحلف الجديد. الحلف الجديد الذي انطلق ثلاثياً وشمل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، واكتملت ملامحه باجتماع جدة الأخير ليضم أكثر من عشرة دول عربية، وضع أهدافاً واضحة وتحرك بوسائله المختلفة لبلوغها.
على رأس الأهداف التي حركت ذلك الحلف هو محاصرة والقضاء على الإسلام السياسي في محيطها وضرب كل الحركات التي تشكل مصدراً للإرهاب في تلك الدول، وهو هدف مشروع في ظل التطورات الداخلية والمهددات الأمنية التي تواجهها عملياً. وهو ما بدأته مصر فعلياً بإسقاط حكم الأخوان المسلمين وآزرت خطواته ودعمته كل من المملكة العربية السعودية والإمارات وهي تستشعر الخطر المتنامي للنشاط السياسي لتلك الجماعة ومن يمثلها في بلدانهم. الهدف الذي يليه في الأهمية هو محاصرة إيران وسياساتها في المنطقة وهو ليس ببعيد عن الحركات الإسلامية في البلدان العربية التي تمولها إيران بعيداً عن المذهبية والطائفية بل لأسباب متعلقة بمصالحها الاستراتيجية.
تحرك الحلف الثلاثي في محاور متعددة بهدف توسيع قاعدته من الدول الأخرى وتقوية آلياته لمحاربة الإرهاب، ومحاصرة الدول ذات الصلة بدعم وتمويل حركات الإسلام السياسين وتجفيف مصادر تمويل وضرب تلك الحركات في معاقلها. إجتماع جدة الأخير كشف بعض الدول التي انضوت تحت مظلة الحلف الجديد وهي دول الخليج الست إضافة إلى الأردن والعراق ومصر ولبنان بينما أعلنت بعض الدول الأخرى دعمها القوي لذلك التوجه مثل الجزائر (التي تعاني الأمرين من العمليات الإرهابية التي يشنها الإسلاميون) والمغرب. نجحت ترويكا الحلف في تدعيم آلياتها بالتأييد الواسع الذي وجدته، وفي ذات الوقت نجحت في الضغط على بعض الدول الداعمة والممولة لحركات الإسلام السياسي وعلى رأسها قطر.
ضغت المملكة العربية السعودية والإمارات، من خلال مظلة دول التعاون الخليجي، على دولة قطر باعتبارها تمثل بالنسبة لهم أكبر الدول الداعمة لهذا النشاط، فيما لعبت مصر دوراً كبيراً في محاصرة نشاطها داخل أراضيها بمحاصرة حركات الإسلام السياسي وعلى رأسها (الأخوان المسلمين) وقطع خطوط إمدادها ودعمها. وضعت دول الخليج شروطاً ومطالباً محددة لدولة قطر تستهدف وقف دعمها المالي والسياسي والإعلامي لتلك الحركات بدءاً من مصر. اثمرت تلك الضغوط بدليل وجود دولة قطر ضمن اجتماع جدة الأخير مما يعني استجابتها للمطالب الخليجية،بالإضافة لمطالبتها بطرد للعديد من القيادات الإسلامية المعارضة لبلدانها المتواجدة داخل أراضيها.
الدولة الأخرى البارزة في (تربيذة رمل) الحلف الجديد هي السودان، والضغط عليها جاء من عدة محاور، لكن قبل استعراضها سننظر في تلك الخريطة على مواقع الحركات المستهدفة في البلدان العربية التي تشمل سوريا والعراق وليبيا وقطاع غزة. سوريا والعراق ليستا ذات علاقة مباشرة بالسودان وموقعه من تلك الخريطة، خاصة بعد وان الاتجاه الدولي بمحاربة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بدأت خطورته مؤخراً قبل بدء تلك الخطوات، وإن كان بدء نشاطها الفعلي في سوريا قبل تحركها الأخير في العراق الذي استرعى الانتباه الدولي، وصارت المخرج لتدني شعبية الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعد خطابه وسياساته الأخيرة التي أعلنها عشية الاحتفال بالذكرى السنوية لأحداث 11 سبتمبر. والحديث عن سوريا يطول لكثرة التقاطعات فيه وتدخل العديد من الأطراف (دولاً عربية وإقليمية وغربية) في مجرياته.
دول الحلف
تنطلق مصر لتأمين أمنها القومي وحدودها من (خطر الإسلاميين) عبر ثلاثة محاور على رأسها السودان، وقطاع غزة واخيراً ليبيا بعد تطورات الأحداث فيها ضمن مخاطر ومحاور أخرى. وهي تعتبر حكومة الخرطوم في السودان أكثر خطورة عليها من دولة قطر التي تلعب –بالنسبة لها - دور الممول والداعم السياسي، بينما يلعب السودان بحسب موقعه الجغرافي دوراً أكثر خطورة ومباشرة. لذلك تعاملت دول الحلف الجديد التي تقف خلف مصر وتدعمها بكل قوة، مع تلك المحاور بتكتياكات مختلفة بتركيز أكبر على حكومة الخرطوم باعتبارها رأس الرمح.
حكومة الخرطوم في السودان متهمة من وجهة نظر الحلف لخلفيته وطبيعته وتاريخه الحافل في دعم الإسلام السياسي، فهي متهمة بدعم حركة الإخوان المسلمين في مصر قبل صعودهم إلى سدة الحكم وهبوطهم السريع منها، فهي غير الدعم الدعم السياسي الذي تقدمه لهم تفتح الحدود السودانية لقياداته بعد أزمتهم الأخيرة، وتدعم حركة حماس وتمويلها بالسلاح بتهريبه عبر الحدود المصرية ومتهمة بالتدخل في الشأن الليبي لصالح الأطراف الإسلامية المتشددة هناك بدعمها وفي أقوال أخرى القتال إلى جانبها، وتمويلها بالسلاح. هل تحتاج ليبيا الخارجة من رماد القذافي أو أي فصيل داخلها إلى سلاح من أحد وهي التي تستلقي على ترسانة من الأسلحة فاضت بها كثير من دول القارة الأفريقية بعد إزاحة القذافي ونظامه؟
الاتهام الثاني الذي قض مضاجع الحلف والجانب الخليجي فيه هو علاقة حكومة الخرطوم في السودان مع إيران، وهي قضية مركزية في الاستراتيجية الخارجية بالنسبة لتلك الدول، ومهدد رئيسي لوجودها واستقرار أنظمتها. ويكفيها أن تتحرك إيران في مياه الخليج، فهي جزء منه، وما يشكله ذلك من تهديدات لها فإذا بها تفاجأ بوجودها خلف ظهرها متجولة في مياه البحر الأحمر، وترسو سفنها في مياه السودان الإقليمية وموانئه.
تعاملت دول الحلف مجتمعة مع محور غزة بالضغط عليها وتجفيف كل مصادر تمويل حركة حماس الإسلامية من مال وسلاح. ضربت الحكومة المصرية كثير من الأنفاق التي تستخدمها حماس كقنوات تعبر بها الحياة إليها في ظل الحصار، وهدمت تلك النفاق فوق رؤوس حافريها. وتستهدف في ضغطها إخضاع حماس وعودة قطاع غزة إلى سيطرة الضفة ودخول حماس تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، أي تغيير النظام الحاكم في غزة. وتعاملت مع الوضع الليبي بالضرب المباشر لمعاقل التيارات الإسلامية المتشددة في ليبيا، وليس ببعيد عن الأذهان الضربة الجوية القوية التي نفذها سلاح الجو بإحدى الدول الخليجية لمواقع المتشددين في ليبيا والتي من قوتها اتهمت بتنفيذها الولايات المتحدة الأمريكية، التي نفت من جانبها ذلك، بل وأبدت استياءها وغضبها من الحادث لكنها سرعان ما تراجعت عن موقفها بسبب الضغط الخليجي. هذا بالإضافة إلى دعمها لتنظيمات ليبية أخرى تقاتل ضد تلك الحركات المتشددة في خضم الفوضى الضاربة بأطنابها هناك منذ إنهيار نظام القذافي.
بالإضافة لمصر كان هذان المحوران، غزة وليبيا، على طاولة بحث العلاقات مع السودان ضمن أجندة أخرى من بينها العلاقة إيران، وقبلها على طاولة بحث العلاقات بين دول الخليج من جهة ودولة قطر من الجهة الأخرى وليس خافياً العلاقات بين دولة قطر وحكومة الخرطوم والخيط (السميك) الذي يربط بينهما وتلك القضايا والأجندة المرطوحة.
إذا كان المنهج المستخدم ضد دولة قطر هو تهديدها بطردها من منظومة دول مجلس التعاون الخليجي أو حتى بقلب نظام الحكم فيها، فإن السودان يكفيه في المرحلة الأولى (عصرة) اقتصادية قوية بدأت ب(قفل) التعاملات المصرفية مع بنوكها في وجهه. الضغط على قطر يعني الضغط على السودان (مباشرة)، فأي تحولات وإعادة ترتيب أولوياتها واستراتيجياتها الخارجية نتيجة استجابتها للضغط الخليجي يعني إعادة النظر وترتيب علاقاتها مع حكومة الخرطوم، وهي رسالة وجهتها دول الخليج إلى دولة قطر في إطار الضغط المباشر على الخرطوم.
حاولت حكومة الخرطوم امتصاص (العصرة) الاقتصادية، لكنها فوجئت بتحولات في مواقف دول الحلف أكثر خطراً وحجماً وتمثل تهديداً قوياً لوجودها مؤخراً، خاصة بعد توسع مظلته وانضمام دول أخرى إليه. وهي تحولات نتجت عن المواقف الأخيرة للمعارضة السودانية وحركتها، ومرتبطة بمواقف حكومة الخرطوم.
خطوات تنظيم
يبدو أن تداعيات المشهد الإقليمي وتطوراته المتواترة أسرع من نشر القراءة والتوقعات بمآلاته، فها هي دولة قطر ترضخ للضغط الخليجي الذي ظهرت نتائجه مباشرة بعد انتهاء اجتماع جدة الأخير، وها هم قيادات إسلامية من الوزن الثقيل تجهز حقائبها لمغادرة الدولة. وليبيا على مستوى رئيس وزرائها تتهم السودان صراحة بدعم جماعات إسلامية متشددة هناك تحارب السلطة. هذا بالتأكيد له تداعياته على التطورات السياسية الداخلية مما يتطلب خطوات تنظيم من الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني).
تشمل خطوات التنظيم تلك عدة وقفات لأخذ نفس عميق، أولها على مستوى إدارة الشأن الخارجي، فقد اكتفى السودان من التصريحات الوردية التي يطلقها المسؤولون كل مرة في الشأن الخارجي، مسؤولو الحكومة أو المؤتمر الوطني، فالحراك الواسع الذي ابتدره السيد الصادق المهدي عقب توقيعه على "اتفاق باريس"، والمساحات المقدرة التي تمددت فيها أرجل الجبهة الثورية، كشف عن غياب تام وضعف بائن في استراتيجية العمل الخارجي لحكومة المؤتمر الوطني. وأن كل المحاولات التي بذلها مهندسو الحكومة في هذا المجال للخروج من عنق زجاجة الحصار، بسبب السياسات الخارجية منذ عهد (الإنقاذ) الأول واستمرارها حتى الآن، كانت ذات أثر محدود إن لم نقل إنها باءت بالفشل.
حجر الزاوية في هذا الفشل، الذي تضررت منه سياسات (السودان) الخارجية، هو الإنطلاق في رسم تلك السياسات من من منصة حزبية. فإطار صناعة القرار داخل الحزب أضيق بكثير من إطار الدولة ويستوعب المصالح الجزئية التي تخص الحزب متجاهلاً المصالح الكلية التي تعود بالفائدة لكل الوطن والشعب.
الإشارات المهمة على صعيد الإقليم تتمثل أولاً في الاستقبال الذي وجده السيد الصادق المهدي في مصر وعلى مستوى الجامعة العربية وفي دولة الإمارات بعد توقيعه إعلان باريس مع الجبهة الثورية. على صعيد الأخيرة (الجبهة الثورية) نجحت في فرض وجودها على طاولة مفاوضات أديس تحت مظلة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى التي يرأسها ثامبو أمبيكي، وتوقيع موفدي لجنة الحوار الوطني بالداخل على إتفاق أديس أبابا. التوقيع الذي بدا غريباً في شكله لكنه يمثل اعتراف ضمني من قبل لجنة الحوار وبالتالي الحكومة والمؤتمر الوطني، الذين أيداه على استحياء، بكيان اسمه الجبهة الثورية. الحكومة، وحزبها، حاولت استخدام إتفاق أديس على علاته ليجب إعلان باريس في محاولة منها لإستعادة السيطرة على الأمور وجرياتها، لكن دون جدوى.
ملف التفاوض مع الجبهة الثورية، أو فصائلها منفردة، تعاملت معه الحكومة (المؤتمر الوطني) وفقاً لفقه التجزئة، ففصائل دارفور مكانها وثيقة الدوحة والحركة الشعبية شمال (قضية المنطقتين، جنوب كردفان والنيل الأزرق) مكانها الآلية الأفريقية وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي. الآن ومع تداعيات المشهد الإقليمي ظهرت ملامح واقع جديد لم يكن في حسبان الحكومة وولا حزبها. إنتقل الملف إلى أديس أبابا لتواجه الحكومة وحزبها بوجود فصائل دارفور التي تقاتلها مع الحركة الشعبية في كتلة واحدة إسمها الجبهة الثورية. هذا الواقع الذي ظلت تهرب منه طوال الفترة الماضية حتى لا تعترف بهذا الكيان تحسباً لهذه اللحظة.
تعزيزاً لهذه الخطوة، واتساقاً مع تطورات المشهد الإقليمي، كانت الإشارة التالية عندما حطت طائرة رئيس الآلية الأفريقية ثامبو أمبيكي في الدوحة. ولم تكن الدوحة عندما حطت تلك الطائرة هي ذات الدوحة التي احتضنت مفاوضات الحكومة وفصائل دارفور والتي خرجت عنها وثيقة دارفور. اعتراف الآلية الأفريقية بالجبهة الثورية ككيان ووجود فصائل دارفورية في هذا الكيان لابد أن يتبعه اتصال وتنسيق مع الجهة الأخرى التي كانت ترعى الإتفاق الدارفوري. اعتراف الدوحة بالجبهة الثورية يعني خروج القضية التي ترعاها من نطاق دارفور لتشمل المنطقتين، وتلك لا ناقة لها فيه ولا جمل، معها سينتقل الملف برمته إلى طاولة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، وسيتبعه انتقال كل ملف الحوار السوداني إلى تلك الطاولة، وهذا ما يرمي إليه ثامبو امبيكي في إطار سعيه لتوسيع تفويضه لدى مجلس الأمن الذي كان مقتصراً على المنطقتين.
على المستوى الخارجي فإن الضغط على دولة قطر والسودان ظهرت ملامحه سريعاً في الخطوات التي اتخذتها الحكومة وحزبها على صعيد العلاقات مع إيران. المراكز الثقافية الإيرانية ومسألة الشيعة والتشيع هي رأس جبل الجليد في تلك العلاقة، فالأهم هو الحلف العسكري الإيراني السوداني وهو حلف يستفيد منه السودان وتستفيد منه، حسب الاتهامات الموجهة إلى السودان، حماس في قطاع غزة وتستفيد منه الجماعات المتشددة في مصر وليبيا، هذا غير فائدة حكومة الخرطوم المحاصرة من عدة اتجاهات دولية وإقليمية.
الخطوة المتوقعة، حسب بعض القراءات، هي تنازلات أكثر أثراً من حزب السلطة (المؤتمر الوطني) يبدأها بالاعتراف الرسمي بالبجهة الثورية، ومن ثم التفاوض معها في القضايا الفنية المتعلقة بالترتيبات الأمنية والعسكرية ووقف إطلاق النار، يليها الجلوس مع كل الأطراف التي تضم الجبهة الثورية وبقية القوى المعارضة لبحث أجندة الحوار الوطني السياسي. وهو ما سيتم تحت مظلة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، وبعدها إنطلاقة الحوار الوطني في الداخل بمراقبة الآلية الأفريقية واطراف إقليمية وربما دولية.
هذه الخطوات تعني قبول الحكومة وحزبها الحاكم بمطلوبات الحوار وتهيئة اجوائه وفي مقدمتها وضع إنقالي تقوده حكومة إنتقالية مؤقتة بفترة زمنية محددة ومهام واضحة تنجزها خلالها للانتقال إلى وضع ونظام سياسي تعددي وديمقراطي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق