(1)
لا يمكن تحديد او تعريف القوى الديمقراطية في السودان إلا بقراءة الواقع السياسي وتطوره منذ ما قبل الحكم الوطني وإلى اليوم. فتلك القوى لا تستظل بكيان موحد يجمعها، وإنما نجدها متفرقة وموزعة – لأسباب عديدة - تحت مظلة لافتات سياسية واجتماعية كثيرة بعضها يتناقض مع أسس الممارسة الديمقراطية نفسها.
يمكن في ظل هذا الوضع تصور تعريف لتلك القوى بأنها الأغلبية التي لديها مصلحة في سيادة النظام الديمقراطي الذي يمكنها من المشاركة الفعلية في سلطة اتخاذ القرار عبر آليات وهياكل ومؤسسات حزبية وبالتالي مؤسسات دولة قادرة على استيعاب رؤاها وطموحاتها وتطلعاتها السياسية والاقتصادية والثقافية الاجتماعية. وصفها بأنها الأغلبية لا يجانب الحقيقة، فغير القوى المنضوية تحت لافتات أحزاب (كثيرة) حديثة النشأة في السودان تؤمن بالديمقراطية وتدعو لها وتتمسك بأنها السبيل لضمان وحدة واستقرار السودان، هناك قوى كثيرة منضوية تحت لواء الأحزاب التقليدية والطائفية وتلك التي تتكئ على خلفية أيديولوجية يسارية أو يمينية، تكشف تطلعاتها وحركتها ونشاطها الأفقي بأنها رصيد للتيار الديمقراطي، فكثير منها يتململ من ضيق المواعين الحزبية – بطبيعتها - التي تحرمه من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار داخل الحزب. يتمظهر ذلك في كثرة الانشقاقات والانقسامات والخروج على تلك الأحزاب واستمرار بقاء آخرين داخلها على أمل أن يسهموا في التغيير داخلها. هذا غير الكتلة الأكبر التي فضلت البقاء خارج أطر الأحزاب السياسية والتي تحسب كرصيد وافر للتيار الديمقراطي والقوى الديمقراطية إذا ما توافرت الآليات والقدرات لاستيعابها وإشراكها في تقرير مصيرها، وتلك الكتلة الأخيرة تنتظم داخل كيانات اجتماعية مختلفة يمكن تجييرها لصالح مستقبل الديمقراطية في السودان.
التطلع إلى النظام الديمقراطي وممارسة الديمقراطية ليست وليدة اللحظة وإنما هو تيار متجذر داخل المجتمع السوداني بمنظوماته المتعددة. وتلك القوى الديمقراطية ظلت تتطلع وتدعو إلى المشاركة في سلطة اتخاذ القرار الشيء الذي لا تتيحه لها الأنظمة السياسية السائدة في السودان أو تلك التي سادت. وذلك يتطلب أولاً الاعتراف بالتعدد والتنوع في السودان الذي لا يمكن إدارته إلا وفقاً للقواعد والنظم الديمقراطية، ويتطلب ثانياً إمتلاك مفتاح تلك الإدارة وهو إتاحة الحريات. ذلك هو الطريق الذي يقود إلى إقرار دستور دائم يضمن استقرار السودان ويؤسس لنظام حكم مستقر يتم تداول السلطة فيه سلمياً وديمقراطياً.
عقدة وحدة الكيان
رغم امتلاك قادة التيار الديمقراطي بكياناته المتعددة لرؤى واضحة حول الأهداف الاستراتيجية، إلا أنه يفتقر إلى القدرة على بلوغها بسبب عقدة وحدة الكيان الذي يجمع القوى الديمقراطية، الآلية القادرة على تحقيق تلك الأهداف. القاعدة الديمقراطية العريضة التي تم توصيفها، خاصة تلك التي لا تنتظم تحت مظلة الأحزاب السياسية أو تلك المنتسبة إلى الأحزاب التقليدية والطائفية لا تار في التيار الديمقراطي قوة يعتد بها وقادرة على إحداث أثر واضح في مستقبل السودان بسبب ضعفها وعجزها. وهي إن كانت تتطلع إلى الكيان الذي يجمعها ويحقق تطلعاتها، فهي ترى في تلك الأحزاب والتنظيمات الحديثة التي تدعو وتناضل من أجل التحول الديمقراطي وبرغم التضحيات الكبيرة التي تقدمها من أجل ذلك، تراها غير قادرة على تحقيق تطلعاتها بفشلها في الإنصهار في كيان واحد مؤثر وفعال، فكل حزب منها يقوم بفعل إيجابي لكنه محدود الأثر سرعان ما تطغى وتسيطر عليه الآليات المضادة التي تستخدمها القوى التي تخشى من وحدة القوى الديمقراطية.
غير الحرب المتعددة الوسائل التي تستخدمها القوى التي ليس لديها مصلحة في أرساء نظام ديمقراطي تتيح آلياته مشاركة الجميع في صنع القرار، هناك العديد من المسالب الموضوعية والذاتية، والتقاطعات بينهما، التي صاحبت أداء قيادات التيار الديمقراطي وأثرت على مجمل آفاق تطور وتماسك هذا التيار وتوجهه نحو وحدته المفترضة. وإذا كانت مظاهر تلك الحرب التي تعيق التطور الطبيعي للتيار الديمقراطي ووحدة قواه تتجلى أسطع صورها في الإنقلابات العسكرية التي قطعت الطريق أمام تطور التجربة الديمقراطية، فإن قادة هذا التيار مسؤولون بصورة مباشرة عن إختلال الميزان السياسي لتعثرهم في إنجاز مشروع الوحدة.
(2)
قلنا في الجزء السابق إذا كانت مظاهر تلك الحرب التي تعيق التطور الطبيعي للتيار الديمقراطي ووحدة قواه تتجلى أسطع صورها في الإنقلابات العسكرية التي قطعت الطريق أمام تطور التجربة الديمقراطية، فإن قادة هذا التيار مسؤولون بصورة مباشرة عن إختلال الميزان السياسي لتعثرهم في إنجاز مشروع الوحدة.
مع إيمانهم بأن الديمقراطية هي الحل إلا أنهم واقعون تحت تأثير العوامل المعوقة للتطور الديمقراطي، لذلك تجدهم يفضلون الحركة في جزر معزولة وكيانات مغلقة تتسم بالصفوية رغم أن شرط تقعيد الديمقراطية هو جماهيريتها. هذا يتمظهر بشكل جلي وواضح في تعدد تلك الكيانات، وحتى الذين لا ينضوون تحت مظلة أي منها يفضلون (التنظير) منفردين دون تحمل أعباء المسؤولية العملية في دعم وترسيخ رؤاهم وتنزيلها بين أفراد المجتمع. عدم القدرة على الانفتاح على الآخرين ستظل العقبة الكأداء التي تواجه الكيانات التي تزعم أنها ديمقراطية، طالما ظلت قواها متفرقة وقاعدتها تنظر إليها بعين من الريبة وأخرى من الشك في قدرتها على تحقيق تطلعاتها.
العقلية الاقصائية
أبرز العوامل المعوقة للتطور الديمقراطي هو العقلية الإقصائية، وتلك من موروثات الممارسة السياسية التقليدية التي تتمسك بالمحافظة على مصالحها على حساب المصلحة العامة. لتلك العقلية مبررات وذرائع تسوقها، في خوفها من الانفتاح على الآخر، يساعدها في ذلك المناخ السياسي القائم على الهدم وليس البناء. وبدلاً من التمسلك بمقولة " لا بديل للديمقراطية إلا مزيداً للديمقراطية" ينقلب إيمانها بها وحرصها عليها إلى ممارسة إقصائية تتناقض مع أصل الفكرة.
الظاهرة الملفتة للانتباه هي أن تلك الكيانات، وحتى الأفراد المؤثرين في محيطهم، يتحدثون عن رؤى وبرامج تتطابق على المستوى النظري والتطبيقي ولا يجد فيها المراقب فرقاً، ومع ذلك تسود بينهم حالة من التوجس تكشف عن إنعدام الثقة في النفس وفي الآخرين، وتمثل هروباً من حالة التطابق والاتفاق إلى حقيقة العزلة والصفوية.
أكثر من ذلك أن بعض القيادات التي تتصدى للممشروع الديمقراطي مصابة هي كذلك بلوثة التمسك بمواقعها القيادية والخوف من فقدان البريق الذي يضفيه عليها وبعضها تتغلب عليه مصالحه، وتكون تلك اللوثة مصحوبة في بعض الأحيان بتضخيم الذات والقدرات مما يجعل تقديراتها للواقع وقراءاتها لمجريات الأحداث خاطئة، وهذا يجعلها تراوغ في دفع استحقاقات ما هو استراتيجي وتفضيل ما هو تكتيكي. هذا يشكك الكثير من القطاعات صاحبة المصلحة في هذا المشروع بجدواه طالما أن قياداته لا تفارق الممارسات التي ينتقدونها ويزعمون مناهضتها.
وحدة القوى الديمقراطية، إضافة إلى مزيد من الصبر على الممارسة الديمقراطية، تتطلب قيادة واعية بدروها في رسم ملامح المستقبل وأن إنجازها للمشروع الديمقراطي ليس مرتبط بالضرورة بوجودها هي على قمة الهرم وإنما هو مشروع يقوم على العمل الجماعي، ومدركة لشروط الممارسة الديمقراطية ولدور وحدتها في إحداث التوازن المطلوب في المعادلة السياسية بما يحقق تطلعات الجماهير ويحافظ على حقوقها.
اختلال المشهد
خلصنا إلى نقطة جوهرية – ضمن نقاط أخرى - في الجزء السابق بأن على قيادات القوى الديمقراطية أن تكون واعية بدور وحدتها في إحداث التوازن المطلوب في المعادلة السياسية بما يحقق تطلعات الجماهير ويحافظ على حقوقها. الواقع الحالي للقوى الديمقراطية المتمثل في تفرقها يضع على عينيها غشاوة تحجب عنها مدى قوتها وقدرتها على إحداث فعل التغيير، وهي ربما استمرأت هذا الوضع لأسباب أوضحناها سابقاً. تلك القوة إذا ما اجتمعت حري بها إحداث التوازن الذي نتحدث عنه وعن أهميته؛ إختلال المعادلة في المشهد السياسي السوداني هو السبب الرئيسي في عدم الاستقرار السياسي الذي لطالما غلبت عليه الإنقلابات العسكرية والتمرد على سلطة المركز.
الذين تصدوا لبناء النظام السياسي الديمقراطي، وإن استصحبوا في مسيرتهم القوى الديمقراطية، لا يعبرون في النهاية سوى عن مصالحهم سواء الطائفية أو العقدية تلك المصالح تحققها الدولة وريثة الاستعمار. لذلك لم يكونوا حريصين على إعادة بنائها وتأسيسها بما يستوعب المواعين الديمقراطية اللازمة التي تحقق التداول السلمي المستدام للسلطة والشفافية والعدالة، مما جعلها (هشة) وغير قابلة للاستقرار. غياب المعادل لطرف المعادلة - أو ضعفه – هو ما جعلها مختلة.
من مكاسب وحدة القوى الديمقراطية هو قدرتها على ضبط إيقاع الحراك السياسي، فهي بذلك تجعل للجماهير، التي تتطلع إلى حقوقها والمحافظة عليها، خيارات سياسية متعددة وفاعلة، وتضع بين يديها قرارها تتخذه بكامل الحرية. غياب تلك الوحدة يضع تلك الجماهير أمام سياسة الأمر الواقع ويصبح لا فرق لديها بين محمد وحاج أحمد، ويجعلها رهينة للطائفية والقبلية كلافتات تحمي مصالحها. ضبط إيقاع ذلك الحراك يعني بالضرورة رضوخ الأحزاب التقليدية والشمولية لشروط الممارسة الديمقراطية وإلا ستلفظها قواعدها بعد حين.
سيناريوهات المستقبل السياسي للسودان تحتم وحدة تلك القوى؛ استمرار النظام السياسي القائم على ما هو عليه نتاج طبيعي لتفرقها وتمترسها خلف لافتات عديدة تجعل منها الخيار الأضعف، وهو ما أتاح لتحالفات القوى المعادية للتطور الديمقراطي مساحات عريضة للمناورة وكسب الوقت. دخول تلك القوى بوضعها الحالي في مرحلة سيناريو التسوية السياسية المحتمل من شأنه أن يفاقم من أزمة الوطن أو على الأقل ستراوح تلك الأزمة مكانها، إذ لن تأتي التسوية بجديد في شأن إعادة بناء الدولة ومؤسساتها بحيث تدعم وترسخ للنظام السياسي الديمقراطي المرتجى. وحدتها الآن وليس غداً هي التي سترسم إيقاعات تلك التسوية وتفرض إرادتها بقوة القاعدة العريضة التي تستند عليها.
الأدهى من ذلك هو دخول القوى الديمقراطية (بوضعها الحالي) إلى مرحلة سيناريو (الانتفاضة الشعبية). تجارب التغيير في السودان، التي كان للقاعدة الشعبية الديمقراطية القدح المعلى فيها، أفرزت ممارسة ديمقراطية هشة بسبب عدم وحدتها. بل سرعان ما انتكست تلك التجارب وعادت الأمور إلى سيرتها الأولى لقوة التيار المعادي للديمقراطية، لتدخل البلاد في نفق فجر الانقلابات العسكرية. وحدة تلك القوى هو الضمان وصمام الأمان لمخرجات سيناريو الانتفاضة الشعبية إذا سبق سيناريو التسوية السياسية.
لكل ذلك، ولغيره من الأسباب، ستظل وحدة القوى الديمقراطية واجب المرحلة ويتحمل مسؤلية إنجازها الكيانات الحديثة والشخصيات القادرة على إحداث فرق لصالح الممارسة السياسية الرشيدة، وستظل مسؤولية استمرار الأزمة السودانية على عاتق كل من يدعي إيمانه بالديمقراطية ويظل عاجزاً عن إنجاز وحدة قواها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق