أمير بابكر عبدالله
دائماً ما تحجب عنا عقلية المؤامرة قراءة كثير من الأحداث والوقائع
وفقاً للمنظور العلمي أو تخفي عنا الحقائق، فلا نكاد نعثر على أثر أجنبي –خاصة
غربي- حتى تشتم أنوفنا رائحة ما وتحيلها إلى مواد فحصنا المعملي القائم على تلك
العقلية لنشكك في غايات ذلك الغربي. ومن المسلمات في علم التاريخ والاجتماع
والانثروبولوجيا عندنا أن الرحالة والانثروبولوجيين هم وفود المقدمة لجيوش
الاستعمار، وربما ساهم في ذلك أن الرحلات التي قام بها أولئك الرحالة إلى كثير من
البلدان والبحوث والدراسات التي تناولت شعوبها وقبائلها سبقت نتائجها وملاحظاتها
بدايات الغزو الأوربي لتلك البلدان.
كنت أفكر في تلك الخلاصة وفي ذهني عبارة ستيفن في رواية
"اوليس" لجميس جويس التي يقول فيها إن "التاريخ هو كابوس أحاول
الاستيقاظ منه". في تلك الأثناء كانت العربة تنهب الأرض نهباً مثيرة كثير من
الغبار يغطي الأفق من خلفنا، وبجواري صديقي آدم اشبادين وخلفنا يجلس مجدي سيد أحمد
ونحن في طريقنا إلى "قوز رجب". سبب تلك الرحلة، وفرق كبير بين رحلتنا
ورحلة صمويل بيكر، هو مجدي سيد أحمد الذي يترجم كتاباً للرحالة والمغامر والصياد ومن
بعد حاكم إحد أقاليم السودان الإنجليزي صمويل بيكر له صلة بالمناطق التي زرناها
وهو كتاب "روافد النيل الحبشية – والصيادون بالسيف من عرب الحمران"،
أهداه في ذلك الوقت إلى صديقه أمير ويلز "البيرت إدوارد" معللاً ذلك
بأنه أول عضو من سلالة إنجلترا الملكية أبحر على مياه النيل. وغير هذا الاحتفاء،
فقد أطلق إسمه على البحيرة التي اكتشفها مع آخرين لاحقاً في اعالي نهر النيل في
يوغندا إسم "البيرت نيانزا" تخليداً لذكرى صديقه الأمير الذي توفي أثنار
رحلة الرحالة جنوباً، وجاء اكتشافها من قبل الأوربيين بعد بحيرة "فكتوريا"،
و"نيانزا" هي مفردة في إحدى اللغات الأفريقية في تلك المنطقة تعني
"بحيرة".
حسب كتاب "الرحالة الأجانب في السودان" الذي ألفه د. نسيم
مقار ونشره مركز الدراسات السودانية فإن الرحالة الألماني "جون لويس
بوركهارد" سبق صمويل بيكر في زيارة منطقة "قوز رجب" ، التي زارها في
العام 1813 وهو في طريقه من شندي إلى "التاكا"، فكان لابد له من المرور
بوادي نهر عطبرة ومن ثم "قوز رجب". كانت في ذلك الوقت من المراكز
التجارية الهامة في إقليم عطبرة حيث تتوقف عندها القوافل التجارية القادمة من شندي
وسنار في طريقها إلى التاكا، أو كسلا حالياً. ويقول بوركهارد "إن القوافل
القادمة من سواكن إلى سنار التي لا ترغب في المرور بعطبرة أو شندي تأخذ طريق قوز
رجب وتتقدم منها رأساً عبر الصحراء. وهو طريق مرغوب خلال فصل الصيف الحار، لأن بدو
الشكرية يحلون فيه خلال الشتاء ويكون السير فيه خطراً"، هذا غير السبب الآخر
وهو تفادي الجبايات والضرائب ونفقات الإقامة في شندي وعطبرة.
سكان مركز "قوز رجب" كان خليطا من الشكرية والهدندوة
والبشاريين، وإلى وقت قريب، وربما ما زالت، تحل مشاكل المنطقة بانعقاد مجلس من
زعماء القبائل الثلاث رغم التغيرات الكبيرة التي حدثت في المنطقة على مدى قرنين
كاملين منذ زيارة "بوركهارد" وقرن ونصف منذ زيارة صمويل بيكر.
يقع كتاب "روافد النيل الحبشية والصيادون بالسيف من عرب
الحمران" الذي يترجمه ويحققه الباحث مجدي سيد أحمد في (22) فصلاً سرد فيها
صمويل بيكر تفاصيل رحلته منذ دخوله السودان سعياً وراء إكتشاف تلك الروافد، خاصة
على نهر عطبرة التي لم يهتم بها أحد قبله. تلك التفاصيل مليئة بتاريخ المنطقة
وقبائلها وعاداتهم وتقاليدهم وبأحداث ووقائع، وكان هدف رحلتنا أو بالأحرى صحبتنا
للصديق مجدي لرغبته في الوقوف على الطبيعة على تلك المناطق والتحقق من كثير من
الأسماء والوقائع وسماع ذلك من أهالي المنطقة، وذلك عمل مراكز بحثية ومؤسسات علمية
آثر أن ينجزه وحده عسى ولعل ان يكون إضافة حقيقية للمكتبة السودانية وإضاءة لجزء
من تاريخنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق