أمير بابكر عبدالله
فرق بائن بين رحلتنا ورحلة الرحالة صمويل بيكر إليها، فرق يماثل
المسافة الزمنية لأكثر من قرن ونصف، المائة عام الأولى كانت وتيرة التطور التقني
بطيئة أكثر منها فيما تلاها من أعوام. على عكس الاتجاه الذي سلكناه لبلوغ مقصدنا
"قوز رجب" من مدينة كسلا، التي قصدها الرحالة لاحقاً، فقد جاءها صمويل بيكر من اتجاه بربر متتبعاً
أثر النهر من نقطة مصبه على نهر النيل. وإذا كانت الاتجاهات لم تتغير ولا تشكل
فرقاً، فإن التكنولوجيا لعبت دوراً بارزاً في إظهار الفرق، وهو ما أظهرته العربة
الحديثة التي نمتطيها ونحن نقطع مسافة 160 كيلو متراً في غضون أقل من ساعتين، تلك
المسافة احتاج بيكر لخمسة أيام ليجتازها على ظهور الإبل، هذا غير الأيام التي
احتاجها أثناءها للراحة من عناء ووعثاء السفر.
الفرق الأكثر سطوعاً، والذي سيلازم رحلتنا، هو تغير الطبيعة والحياة
البرية في تلك النواحي التي قصدها صمويل بيكر أثناء رحلته وهو يتابع وادي نهر
عطبرة من مصبه نزولاً إلى مصادره وروافده. تلك الأوصاف للطبيعة التي جاء ذكرها في
يومياته، كانت المنطقة تبدو في بعض أنحائها وكأنها أكمة وغابات من الأشجار، خاصة
أسفل النهر في منطقة "الصوفي البشير" التي تماثل "قوز رجب"
الواقعة في منتصف الوادي تقريباً في أهميتها في كتاب "روافد النيل
الحبشية". "الصوفي البشير" تقع على نهر عطبرة في المنطقة التي يقام
فيها حالياً سد عطبرة وسيتيت، وهي مهددة بالغرق الآن. وقريباً منها تتمدد أشهر
غابات المنطقة وهي غابة "الفيل"، التي نمر عبرها دون أن يلفت انتباهنا
أن تلك المنطقة كانت مليئة بالأفيال في وقت ما، ولم يلحق صمويل بيكر ذكر "عرب
الحمران" المشهورون بصيد الأفيال بالسيف.
لم نلحظ أثناء رحلتنا سوى بضعة قطعان للماعز والإبل ولماشية، في الوقت
الذي يمتلء فيه الكتاب بذكر شتى أنواع الحيوانات البرية من أضخمها وهو الفيل وحتى
الأرنب والتي تجد ما يناسبها من بيئة لحياة تجعلها تزدهر وتتكاثر وتتسيد مواطنها
دون خوف، وكذلك الحيوانات النهرية من فرس النهر "القرنتي" والتماسيح
والأسماك.هذا غير "مراحات" الإبل والماعز والماشية التي تجد في تلك
السهول المنبسطة المراعي الغنية خاصة في مواسط الأمطار.
من الملاحظات المهمة التي يسطرها قلم صمويل بيكر في كتابه "روافد
النيل الحبشية ..." عن إنسان تلك المناطق يقول " بينما تحمل الإنجيل في إحدى يديك، وتتراءى هذه القبائل التي لا تتغير
أبدأ أمام ناظريك، فسيتاح لك تصوير مثير للسجل المقدس، يصبح الماضي هو الحاضر، ويرفع
الحجاب عن ثلاثة آلاف سنة، والصورة الحية الآن، هي شاهد على دقة الوصف التاريخي. وفي
نفس الوقت يلقى الضؤ على بعض المقاطع الغامضة في العهد القديم، من خلال معايشة عادات،
وأنماط كلام العرب الحاضرة، فهي تتطابق بدقة، مع تلك الفترات التي وصفت "في العهد
القديم". ويواصل في تسجيل ملاحظاته "الوصول المفاجيء، والمخرب، لسرب من الجراد،
الوباء، أو أي كارثة غير متوقعة، يتم نسبها لغضب الرب، ويعتقد أنها إنزال للعقاب على
هؤلاء الذين أصيبوا بها، تماماً مثل وباء مصر، الذي أنزل بصورة خاصة على الفرعون والمصريين.
لو قدر للتاريخ الراهن لهذا البلد أن يكتبه كاتب
عربي، فسيجيء أسلوب الوصف مطابقاً بجلاء لاسلوب العهد القديم، والكوارث المختلفة، أو
السعود الطيبة، التي حلت بالأفراد والقبائل، على السواء، ستروى على إنها إما زيارات
خاصة للغضب الإلهي، أو نِعم جزاءاً للأعمل الطيبة التي عُملت. وإذا أشير في الحلم لاتجاه
معين لسير الأحداث، فسيعتقد العربي أن الله حادثه ووجهه، وسيصف الكاتب أو المؤرخ العربي
"المفترض" الحادثة، يكتبها المؤلف أيضاً بحروف إنجليزية ونطق عربي (كلام
الله) خاطب الشخص، أو إن الله ظهر له في الحلم و"قال" ... الخ . هكذا سيكون
من الضروري على القاريء الأوربي أن يسمح بكثير من التجاوز لتصوير أفكار وتعابير هؤلاء
الناس. ومثلما لم يتغير العرب، فقد ظلت آراؤهم اللاهوتية مماثلة لتلك التي سادت في
العصور القديمة، مع إضافة الإعتقاد البسيط في محمد "صلى الله عليه وسلم"
كنبي."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق