مثلما تذكرنا بدايات شهر يناير بالرعيل الأول من السياسيين الذين
رفعوا راية استقلالنا، فإن النصف الثاني وخواتيمه تذكرنا بفاجعة محاكمة وإعدام
الأستاذ محمود محمد طه، ورحيل الفنان الفذ الأستاذ مصطفى سيد أحمد. مصطفى سيد أحمد
مثلما هو مطرب فهو ملحن لم تستعص عليه مفردات القصيدة مهما كان موضوعها طالما كانت
كلماتها موحية وغنية وملئية بالصور الشعرية، نموذجاً لذلك قصيدة "الرحيل في
الليل" للشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى الذي رحل عنا ذات ليلة وكان وحيداً.
كنت - كما تاجر أفلس - أقلب في في دفاتري لأجد حوار
أجراه أديبنا د. بشرى الفاضل مع الراحل المقيم الفنان مصطفى سيد أحمد حول تلحينه وأداءه
لقصيدة الرحيل في الليل التي يحمل ديوانه اسمها. وكان د. بشرى قد أهداني مطلع
التسعينيات شريط كاسيت مسجلة عليه القصيدة الملحنة إضافة إلى حوار أجراه مع الفنان
مصطفى سيد أحمد في موسكو إبان تلقيه العلاج في مستشفياتها، وكنت قد فرغت نص الحوار
الذي دار حول كيفية تلحينه لقصيدة "الرحيل في الليل".
د. بشرى: استاذ مصطفى، تعتبر قصيدة الرحيل في الليل
في ديوان أبوذكرى قصيدة أساسية، كيف استطعت تلحينها، نتكلم عن القصيدة عن الديوان الذي
قرأته.
مصطفى: الإحساس الموجود في القصيدة، بعد اطلاعي
على الديوان ، كأنما هو خيط منظومة عليه كل القصائد الموجودة في الديوان. كل البيئة
النفسية الموجودة في الديوان مكثفة في هذه القصيدة بالتحديد. الشيء الآخر حسيت بأنها
تعكس ملامح الغربة، غربة الأديب السوداني وبالتحديد أبوذكرى بكل ما مر به في تجربته
والتي انتهت النهاية المعروفة، والتي اعتقد أنها كانت شكل احتجاج لكل الاحباطات الحاصلة،
الكان ظاهر صوتها حتى في قصائده بين عام 63 و73 في ديوان الرحيل في الليل.
حقيقة كثير من المبدعين السودانيين يسقطون سهواً،
وتعركهم ظروف الحياة والظروف العامة والإحباط العام، ويغتربوا سواء داخل البلد أو في
خارجها، ويكون الاغتراب أكثر مرارة عندما تكون جرعات الاحباط متلاحقة، حتى وإن ظهرت
بوادر تفاؤل في وقت من الأوقات، وده بالذات على صعيد البلد ككل ناهيك عن الإهمال والاستلاب
لوجدان الإنسان السوداني من خلال مبدعيه سواء كانوا شعراء أو أدباء أو مغنين أو موسيقيين
والذين يسقطون سهواً، وذاكرة الدولة وذاكرة النظام لا تستطيع أن تحتويهم، ولا يستطيعوا
أن يجدوا فيها مكاناً بل يعيشون اغتراباً كاملاً. هذا تبلور في النهاية في شكل الإحساس
بالرحيل المستمر والاغتراب المستمر والمرارة.
بشرى: نحن نقول في السودان في مرات كثيرة جداً قامة
المبدع في السودان أكبر من قامة وزارة الثقافة
. الأديب المغني السوداني
بمعنوياته يظهر هذا الشكل من أشكال الكتابة (الإنسان المنفرد الوحيد الضائع) لما تزوروه
بواكير الخريف تكون تلك منطقة لحنية وسطى بالنسبة ليك في الأغنية. لما تزوره بواكير
الخريف يكون هذا الجزء من القصيدة مختلف عن السلطة الضائعة في البلد، يعني ذي فيها
صوتين، الصوت القصير الأمد المليء بالإشراقات والصوت الطويل الأمد المشحون بإحباطاته
ووحدته وعزلته، كيف وجدت المعادلة اللحنية، يعني من الداخل هل عشت القصيدة كأنك كاتبها؟؟
أريد أن أعرف الطريقة التي لحنت بها القصيدة وتهت فيها، أنا أعتقد إنه جزء موفق جداً
إنك انتقلت من النداء الطويل في أيها الراحل إلى الجمل القصيرة اللحنية التي تقول فيها
زارتني بواكير الخريف. أنا فعلاً لمستها وأنا أفتكر إن الشاعر قصدها أيضاً، يعني كيف
لحنتها.
مصطفى: في الحقيقة عندما قرأت القصيدة أول مرة حسيت
بأنها تمسني في مكان ما، لكنها لم تتبلور بالشكل الكامل، يعني لم أستطع الوصول للمعادلة إلا بعد أن قرأت الديوان كله. فمن خلال اطلاعي على الديوان تكثفت الصورة من خلال كل
القصائد الموجودة في الديوان لدرجة أحساسي بيها وما كان عندي لحن جاهز، لكن بمجرد ما
مسكت العود تدفق اللحن بشكله الحالي كشيء تلقائي جداً، لأني تشبعت بالبيئة الموجودة
في كل قصائد الديوان وكما قلت في روح بتربطها بالضبط كالخيط الذي (ينضم) حبات العقد.
فمن خلال اطلاعي على كل القصائد كثفت الروح الوجدانية والبيئة النفسية لأبوذكرى التي
تبلورت في النهاية في القصيدة الأساسية في ديوان الرحيل في الليل. إمتلآت بهذه الروح
لدرجة إنني بمجرد ما مسكت العود طلعت كشيء تلقائي، يعني اطلاقاً ما كان فيها معالجة
قبل ما أبدأ أسجل، إطلاقاً ما كانت كده. ده لأنو حصلت درجة عالية من التقمص، ما لم
تحصل هذه الدرجة من التقمص بتبقى المسألة ظاهرة فيها الصنعة وليّ الأشياء لكيما تطاوع
القوالب المحددة وربما تكون مختلفة منها تماماً، وهذا طبعاً يعكس عدم صدق العمل الفني،
لكن الشيء التلقائي بيكون فيه روح الصدق.
بشرى: شكراً جزيلاً استاذ مصطفى القصيدة لحنها هذا
سيدوي يوم تأبين الشاعر الراحل عيدالرحيم أبوذكرى. شكراً جزيلاً
مصطفى: وأنا بدوري أهديها لكل الأخوة في اتحاد الكتاب
وكل الأخوة ذوي هاجس الكلمة، الذين لديهم هاجس أن يكتبوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق