أمير بابكر عبدالله
قبل ما يزيد عن العامين كتبت وتحت عنوان "السودان بين ماغنيتسكي وياكوفليف" وهما القانونان اللذان صدرا في العاصمتين واشنطن وموسكو على التوالي، لتبدأ بعدها الحرب العلنية في ساحات المنظمات الدولية بين الدولتين. جاء ذلك بعد أن كانت روسيا تختبئ لسنوات تحت غطاء خيبتها وانكساراتها إثر إنهيار الاتحاد السوفيتي وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية نفسها قطباً وحيداً تدور حول بقية الدول. وجاءت الضربة القاسية التي استفاقت بعدها موسكو من سباتها عندما اكتشفت الخديعة الكبرى لتمرير قرار تبنته الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لتنفيذ حظر جوي يمنع نظام القذافي من استخدام سلاح الجو في ضرب مناهضيه، لتظهر الحقيقة بعدها بقليل إثر التدخل العسكري المباشر لحلف الناتو في ليبيا لترجيح الكفة ضد القذافي ونجح في ذلك.
ذكرت في ذلك المقال أن "روسيا الخارجة من رمادها تعد العدة لتكون طرفاً في معادلات داخلية لكثير من الدول، بعد اتجاهها لتبني سياسة خارجية أكثر تشدداً. فقد جاءت التوجهات الجديدة التي وقع عليها الرئيس بوتن مطلع هذا العام حادة وواضحة تكشف عن نيتها الدفاع عن حقوقها ومصالحها الوطنية في كل مكان. هذا يعني تشكيلها لمحور ومركز القطب الثاني لإعادة التوازن الدولي، وهو ما سيزيد من حدة الصراع في العالم."
روسيا تفعلها في سوريا
وها هي تفعلها في سوريا بعد أن حالت دون أن يتخذ مجلس الأمن قراراً بأي تدخل تشتم منه رائحة ما حدث في ليبيا، ثم تتدخل مباشرة عسكرياً هناك في نصرتها للنظام الحليف وضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بصفة خاصة. حالف روسيا الحظ كثيراً نتيجة تفجيرات باريس الأخيرة التي ألهبت حماس الغرب ليدخل بثقله العسكري هذه المرة حلبة الصراع ضد "داعش"، فجهزت كل من فرنسا وبريطانيا واخيراً ألمانيا جيوشها فعلاً إلى جانب الولايات المتحدة التي تتصدر قائمة المتدخلين في الشأن السوري.
الواقع الحاضر يستدعي نظرة بعيدة وقراءة مستقبلية للمراقبين لما يمكن أن يؤول إليه مصير تنظيم الدولة تحت ظل تلك الحرب التي تغطي سماوات دولتي العراق والشام، المكان الذي انطلق منه وأعلنه إسماً له. وعلى المراقب السوداني أن يستبق البقية بمراحل للتنبؤ بما يحدث ل"داعش" واحتمالات تمددها جنوباً، حتى لا ينطبق عليه مثل جحا الذي قيل له أن ناراً اشتعلت في أطراف المدينة، فقال لهم بعيداً عن حيي، ولما قيل له النار قد وصلت حيّك، قال لهم بعيداً عن بيتي إلى أن أدركته في داره.
الواقع بعد التدخل العسكري في سوريا، وقلب المعادلة الدولية هناك بإحداث توازن سيكون ضحيته الأولى وربما الوحيدة هم تنظيم الدولة "داعش". مقابل هذه الحقيقة حقيقة أخرى توضح أن ذلك التنظيم، الذي نشأ في حالة اللا دولة في العراق ومن ثم انتشر منتهزاً فرصة الفوضى التي ضبرت بأطنابها في ربوع سوريا، لن يستسلم بسهولة للقضاء عليه.
داعش والتضييق عليها
تمدد تنظيم "داعش" إلى دول أخرى لا علاقة لها بالعراق والشام، ويبدو أن بنيته التنظيمية القائمة على الخلايا العنقودية الغير مركزية ساعده في هذا الانتشار على الأرض، خاصة في الدول ذات السيولة السياسية والمضطربة. فهو بعد تجربة الهجرة إليه التي باتت تحيطها الكثير من المحاذير إثر التضييق الأمني عليه وتعقب ومعرفة وجهة المجندين، فضل بقاء مجنديه ببلادهم أو إلحاقهم بالتنظيم في البلدان التي يعبرون منها، مثلما يحدث يحدث في ليبيا الآن التي صارت تستقبل مجندين من الدول الأخرى كالسودان.
الحصار المضروب الآن على التنظيم في مناطق نشأته، والحد من قدراته العسكرية بعد التدخل الروسي المباشر وثورة الترويكا الأوربية الأخيرة، سيدفع قادته ربما إلى اللجوء إلى ليبيا باعتبارها من أكثر الدول المستقرة في منطقة شمال أفريقيا وتمثل بيئة ملائمة للحياة فيها. لكن ملاحقته في ليبيا بعد قصم ظهره في مناطق انتشاره وقوته الحالية، ستكون بالضرورة المهمة التالية لقوات التحالف، فموقع ليبيا الاستراتيجي وإطلالته على الشواطئ الأوربية وقربه منها سيثير كثيراً من المخاوف لدى تلك الدول التي طالتها ضربات التنظيم في عقر دارها.
داعش وأرض السودان
لن يجد التنظيم وقادته، إذا ما أراد البقاء، إلا التمدد في أفريقيا غرباً والتحصن جنوباً مما يجعل السودان واحدة من الدول التي سيضع التنظيم عينه عليها. فإن كانت مصر تبدو عصية عليه لعوامل جيوسياسية، فإن السودان بواقعه الحالي سيمثل خير قاعدة بديلة لإنطلاق التنظيم. فالسودان غير عدم الاستقرار السياسي، الذي يلازمه بسبب الحروب الدائرة هنا وهناك وانتشار السلاح، فإن موقعه الجغرافي واتساع مساحاته التي يصعب ضبطها ومراقبتها يمثل وضعاً ملائماً لإيوائه.
عوامل أخرى تجلعه ربما يفكر في السودان، رغم نفي المسؤولين لقدرات التنظيم على الدخول إلى السودان، مثل وجود قاعدة (على قلتها) تمثل رصيداً له على الأرض، فبدلاً من سفرهم والتحاقهم بالتنظيم في تلك المناطق المتواجد فيها الآن سيبقون هنا ليؤسسوا قاعدته. هذا غير السودانيين الذين التحقوا فعلاً بالتنظيم هناك (في العراق والشام) وفي ليبيا ولا زالوا يؤدون أدوارهم، وهم أدرى بطبيعة بلدهم مما سيقفز بهم إلى أعلى سلم القيادة في وقت لاحق، ولا ندري عن السوريين وآخرين من الذين لجأوا إلى السودان فربما من بينهم من يناصره إذا لم يكن عضواً فيه.
علينا النظر في تداعيات الحرب في سوريا من كل جوانبها، ووضع الخطط المناسبة لتلافي آثارها المحتملة على السودان حتى وإن كانت بنسبة أقل من الواحد في المائة، وإلا سنجده في غمضة عين بين ظهرانينا ولا نسطيع ساعتها بوضعنا الحالي أن نحرك ساكناً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق