المغامرة الأخيرة
إذاً انتبهت قيادات الجيش للتطور النوعي الذي طرأ على العمليات التي تنفذها قوات الأنيانيا، وغياب المعلومات عن استخباراته بوجود مرتزقة أوربيون يقاتلون إلى جانب تلك القوات، لولا تلك القصاصة من الصحيفة الألمانية التي نشرت خبراً عن وجود رولف شتاينر في جنوب السودان.
دعم تلك الحقيقة ما ذكره رولف شتاينر لاحقاً بعد ان ألقي القبض عليه ومحاكمته في الخرطوم، حيث اعترف "نعم كنت أقوم بإعداد الطلبة الحربيين نفسياً على تحمل أعبائهم في حركة الانانيا، وكنت أيضاً أعلمهم عمل الخرائط الأرضية بمقاسات الرسم، وعلمتهم أيضاً القذائف والمتفجرات، وضرب النار، وقد اشتركت معهم فعلياً في الهجوم على مدينة كاجو كاجي." كما جاء في ملف الصحافة السياسي المشار إليه في الحلقات السابقة.
بذلت القوات المسلحة السودانية مجهودات جبارة في محاولة لكسر شوكة الأنيانيا، فازدادت العمليات العسكرية بينهما. ورداً على تلك العمليات التي قامت بها قوات الأنيانيا بقيادة جوزيف لاقو في خواتيم العام 1969 وبداية العام 1970، شن الجيش السوداني هجمات قوية على مواقع تلك القوات في كل مناطق تواجدهم وحتى على معسكراتهم على الحدود مع الدول المجاورة. وبدأت القوات المسلحة في شن هجمات عنيفة ومنظمة وفقاً لخطط مركزة ودقيقة شارك فيها سلاح الطيران.
بجانب تلك الهجمات العسكرية، ساعدت التحولات الداخلية في يوغندا، والتوجه الإقليمي الجديد في المنطقة على تحجيم القدرات القتالية لقوات الأنيانيا. تطور عاملان مهمان دفعا بالرئيس اليوغندي ملتون أبوتي للتفاعل معهما، كان اولهما النفوذ المتنامي لقائد أركان جيشه عيدي أمين الذي كان يعزز سلطاته في يوغندا ويجند مواطنين من جنوب السودان في الجيش اليوغندي، خاصة من أبناء قبيلته الكاكوا والقبائل الاستوائية الأخرى، حسب المعلومات التي كانت ترد إلى الرئيس أبوتي. وثانيهما تلك الموجة الاشتراكية التي هبت على أفريقيا ليعلن أبوتي تحولاً أيديولوجياً كبيراً في مسار السياسة اليوغندية تجاه اليسار. تبع ذلك التحول أشياء أساسية في بنية الدولة اليوغندية، فقد ألغى الرئيس أبوتي الملكية بموجب هذا التوجه، وتبع ذلك فرض دستور جمهوري في العام 1967. تلك التطورات الدستورية دفعت بتصاعد الصوت الإنفصالي والمطالبة بحق تقرير المصير في المناطق الشمالية ليوغندا، ليجد ابوتي نفسه في مأزق خطير بين معادلة تأييد حق تقرير مصير جنوب السودان ومنع مثل هذه المطالب في يوغندا.
وكانت سياسة الحكومة السودانية بعد إنقلاب مايو 1969 تسعى حثيثاً لوضع حد للحرب في جنوب السودان، وتبني موقف إيجابي باقتراح الحكم الذاتي الإقليمي الذي طرحه بيان يونيو 1969. أعقب ذلك الإعلان بداية إتصالات واسعة مع المجتمع الدولي والإقليمي (بتركيز على الفاتيكان وإثيوبيا) لبذل جهود الوساطة مع حركة التمرد، لقبول مبدأ الحوار والتفاوض السياسي لوقف الحرب وتحقيق السلام.
كل ذلك دفع بالرئيسي اليوغندي لاتخاذ مواقف معادية لإسرائيل في المنطقة ونشاطاتها في جنوب السودان، وتحول الموقف إلى العلن بتصويت يوغندا في الأمم المتحدة والمحافل الدولية ضد اسرائيل. ولعل من المواقف المشهودة للرئيس أبوتي معارضته لمسعى الجنرال زامير رئيس المخابرات الإسرائيلية تزويد طائرته بالوقود في يوغندا لشحن أسلحة لقوات الأنيانيا، بالرغم من السعي الحثيث للقائد الأعلى للقوات اليوغندية، حينها، عيدي امين العمل على تلبية الطلب الإسرائيلي.
مع هذه التطورات، قادت حكومة السودان خلال منتصف العام 1970 مفاوضات مكثفة مع الحكومة اليوغندية لوقف مساعداتها للتمرد، والدفع في جهود السلام. قاد تلك المفوضات من الجانب السوداني السفير آنذاك محجوب عثمان، والملحق العسكري عبدالله محمد عثمان. نجحت تلك الجهود في تحسين العلاقات السودانية ـ اليوغندية، وقبول الحكومة اليوغندية إغلاق الحدود، والسماح بتوغل القوات السودانية لمسافات محدودة داخل الأراضي اليوغندية لمطاردة وتدمير المتمردين.
في ظل تلك التحولات الكبرى ظل رولف شتاينر يقوم بمهامه في التدريب وقيادة العمليات العسكرية عملياً بعد ان صار القائد الميداني لقوات الأنيانيا. وحسب ملف الصحافة السياسي المشار إليه، كان شتاينر يعرف جيداً الشيء الذي يجيده. ذلك جعله يتحدث بوضوح مع قادة حركة الأنيانيا عن أهدافه، فقد سعى لكسب ثقة ضباط الحركة، وكان يهدف لتوضيح مهاراته وموهبته في التخطيط العسكري مما جعلهم أكثر ثقة فيه. انتقل بعدها إلى مرحلة أخرى في استراتيجيته وكان أهمها وحدة الهدف والتنظيم داخل الحركة، فاقترح على الجنرال تافنج والمقدم بيتر سريليو في بداية مارس 1970 الذهاب إلى ونجي بول حيث رئاسة حركة الأنيانيا للقاء جوزيف لاقو (ولم يكونا في ذلك الوقت تحت قيادته)، وكان قد رتب لذلك مسبقاً. ولثقة شتاينر في المقدم بيتر سريليو كان يعتقد أن ذهابه مع تافنج قد يكون مفيداً للغاية.
بعد هذه المحادثات كانت النتائج كما توقعها شتاينر، حيث وافق الجنرال تافنج وسريلو وآخرين على العمل تحت قيادة جوزيف لاقو، وكنا قد أشرنا سابقاً إلى تزايد ثقة قوات الحركة في جوزيف لاقو وانضمت إليه القيادات والقوات في غرب الاستوائية بعد ان بسط سيطرته على شرقها.
انتقل شتاينر إلى معسكر "ونجي بول" حيث رئاسة المنطقة التي تسيطر عليها الحركة، وبدأ في مهامه التدريبية العسكرية ثم بدأ خطة الهجوم على مدينة كاجو كاجي التي يسيطر عليها الجيش السوداني، في محاولة منه لتوسيع نطاق المواجهات العسكرية مع الحكومة والانتقال من العمليات الصغيرة إلى ما هو أكبر. وازدادت إثر ذلك ضراوة المعارك بين الطرفين، إلى أن جاءت المعركة الفاصلة في مغامرة شتاينر الأخيرة في أفريقيا.
العملية الأخيرة
في الجانب الإستراتيجي العسكري تقرر أن تقوم القوات المسلحة بعمليات قتالية واسعة النطاق في جنوب السودان لتدمير القدرات القتالية لحركة الإنيانيا، ودفعها لقبول التفاوض السياسي. (تلقت القوات المسلحة السودانية خلال العام 1970 دعم عسكري غير محدود من الكتلة الشرقية).
تقييم الإستخبارات السودانية للقدرات العسكرية لحركة الإنيانيا في مطلع العام 1970 أوضح تلقيها مساعدات عسكرية كبيرة، وأنها تسيطر على مناطق واسعة في شرق وغرب الإستوائية، وأن التجميع الرئيسي للقدرات السياسية والعسكرية موجود في منطقة غرب الإستوائية في معسكر موروتو.
يقع (معسكر موروتو) في غرب الإستوائية في المثلث الحدودي الممتد من مدينة ياي ـ كايا ــ كاجوكاجي، وتبلغ مساحة المعسكر 180 كيلومتر مربع، ويمكن رسم خريطة كروكية له كالآتي: (منطقة العمليات المشار إليها عبارة عن مثلث. رأس المثلث في مدينة ياي. ضلع المثلث الأسفل يرتكز على الحدود مع يوغندا. بداية الضلع الأسفل في مدينة كاجوكاجي شرقاً، وغرباً في مدينة كايــا. معسكر ومطار موروتو في منتصف المثلث).
يضم المعسكر القيادة السياسية والعسكرية العليا لحكومة الأنيدي، ورئاسة قوات حركة الإنيانيا في غرب الإستوائية. يشرف المعسكر على مناطق واسعة، تضم المعسكرات الفرعية والمستودعات ومناطق الإنتاج الزراعي. يوجد بموروتو مهبط جيد للطائرات مزود بأجهزة توجيه ومساعدات ملاحية، وعبر ذلك المطار تأتي المساعدات المختلفة من الخارج.
توفرت لأجهزة الإستخبارات السودانية معلومات دقيقة عن وجود قائد المرتزقة الأوروبيين في أفريقيا رولف شتاينر في معسكر موروتو، حيث يعمل كمستشار وخبير عسكري متعدد الخبرات ضمن قيادة قوات حركة الإنيانيا.
عملية طلائع النصر
تعتبر عملية (طلائع النصر) والتي نفذتها القوات المسلحة السودانية في سبتمبر 1970 بمناطق غرب الإستوائية من أكبر العمليات واسعة النطاق منذ بدأ تمرد جنوب السودان في مارس من العام 1955. تم التخطيط للعملية في القيادة الجنوبية (جوبا) وأشرف على التخطيط وقيادة العملية رئيس أركان القيادة الجنوبية العميد الركن (آنذاك) عمر محمد الطيب. شارك في تنفيذ العملية قوات مكونة من: (ثلاث كتائب مشاة/ 48 ناقلة جند مدرعة/ كتيبة مدفعية ميدان/ سرايا نقل وإشارة ومهندسين/ سرب طيران مكون من 6 طائرات هلكوبتر، ثلاث مقاتلات، وقاذفتي قنابل/ مستشفى ميدان كامل التجهيز.(
بدأت عملية طلائع النصر لتدمير قدرات حركة الإنيانيا في غرب الإستوائية وتأمين الحدود الجنوبية مع يوغندا في صباح يوم 23 سبتمبر 1970، وأنطلقت من محاور مختلفة بمساندة وحدات المدفعية والطيران. إستطاعت القوات تنفيذ الخطط بنجاح كامل، وتدمير كل القدرات العسكرية في منطقة موروتو، والإستيلاء على المطار، ثم التوغل جنوباً داخل الأراضي اليوغندية في مطاردة قوات الإنيانيا المنسحبة جنوباً، بالاتفاق مع السلطات اليوغندية التي سمحت بتوغل محدود للقوات المسلحة السودانية داخل أراضيها. إنتهت عملية طلائع النصر في صباح يوم 29 سبتمبر 1970 بنجاح كامل وتحقيق كل الأهداف في الخطة.
وفي رواية لوالدي نقلاً عن اللواء محمد عبد القادر، الذي تعرف عليه في مدينة جوبا وكان وقتها قائداً للقيادة الجنوبية، إنهم وبعد أن أحكمت قواته الحصار للقبض على شتاينر داخل الحدود السودانية جاءته برقية من القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس جعفر نميري بإيقاف العملية والاكتفاء بما تم مما حال دون إلقاء القبض على شتاينر داخل الحدود السودانية. يقول اللواء محمد عبد القادر إنه غادر جوبا فوراً، مغاضباً، واتجه فور وصوله الخرطوم لمقابلة نميري.
في ذلك الاجتماع كان رد الرئيس نميري للواء عبد القادر، عندما سأله عن سبب إيقاف العمليات "إن هذه أمور سياسية لا شأن للجيش بها". يقول محمد عبد القادر إنه خلع الكاب فوراً ووضعه على الطاولة وقدم استقالته كتابة ولم يأخذ نميري وقتاً للموافقة عليها وكلفه بعدها محافظاً لمديرية كسلا.
أبرز ما حققته عملية طلائع النصر
* تدمير قدرات حركة الإنيانيا العسسكرية في منطقة موروتو بغرب الإستوائية، وتأمين الحدود الجنوبية مع يوغندا.
* شجعت قادة جنوب السودان المعتدلين للإستفادة من إعلان 9 يونيو وقبول الحوار والتفاوض، وبنفس القدر أكدت لدول الجوار الإقليمي قدرات حكومة السودان العسكرية المتفوقة، وتأكيد رغبتها القومية لوقف الحرب وتحقيق السلام آنذاك.
انسحب شتاينر ضمن بعض قوات الأنيانيا في اتجاه يوغندا، حيث تتواجد بعض المعسكرات الخلفية داخل الحدود الشمالية ليوغندا، وهي الملاذ الآمن بالنسبة للقوات ولرولف شتاينر، يعود إليها كل المقاتلين من حركة الأنيانيا في حالات الانسحاب التكتيكي أو حتى في حالات الراحة من لهيب المعارك العسكرية.
يقول سفير السودان السابق لدى يوغندا الأستاذ محجوب عثمان في شهادته التاريخية عن ما حدث في تلك الفترة نشرتها جريدة الأيام في يونيو 2004، "إن شتاينر تسلل إلى شمال يوغندا، او قل دخلها وهو مطمئن للمكان ومن فيه، لكنه أخطأ التقدير ذلك أن القوات المسلحة اليوغندية قبضت عليه واعتقلته واقتادته أسيراً من شمال يوغندا إلى كمبالا."
وصل خبر اعتقال شتاينر بواسطة اليوغنديين السفارة السودانية، التي أبلغت بدورها الخرطوم. "جاء رد الخرطوم، والحديث للمرحوم الاستاذ محجوب عثمان، أن أبذل كل جهد ممكن وكل طاقة في يدي وكل وسيلة حتى أتمكن من إقناع حكومة يوغندا بأن تسلم شتاينر لحكومة السودان". ويواصل الاستاذ محجوب "كانت تلك عملية دبلوماسية لها أبعادها، لكنها كللت بالنجاح، ووافق الرئيس ملتون أبوتي شخصياً تسليمنا الهر شتاينر"
قام الاستاذ محجوب بعملية التسليم والتسلم حيث كان الشخص الذي استلم شتاينر هو المرحوم اللواء محمد الباقر أحمد. ونقل شتاينر فور وصوله إلى مقر الاستخبارات العسكرية في منطقة "بتري"، حيث تم استجوابه والتحقييق معه ومن ثم قدم غلى المحاكمة الشهيرة في الخرطوم. حضر إلى الخرطوم السيد ديالو تللي السكرتير العام لمنظمة الوحدة الأفريقية من أديس أبابا، وشارك السودان فرحته بالقبض على واعتقال أول مرتزق أوربي عرف بانه من أخطر عناصر المرتزقة الجانب وله صولات وجولات في أفريقيا.
حكم على شتاينر بالاعدام، ثم خفف الحكم إلى 20 سنة، ثم أطلِق سراحه بعد 3 سنوات لأسباب قيل أنها طبية، ولكن الواقع أن ألمانيا مارست ضغوطاً شديدة على حكومة السودان من أجل إطلاق سراحه وهددت بوقف الدعم المقدم منها للسودان. عاد شتاينر إلى ألمانيا حيث قيل أنه تقاعد، ونشر مذكراته، بعنوان "آخر مغامرة". ثم ذهب للقتال في الحرب الأهلية اللبنانية بجانب ميليشيات حزب الكتائب اللبناني، بعيداً عن ادغال أفريقيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق