نذر عاصفة تلوح في الأفق – على غير العادة – وفصل العواصف قد انتهى موسمه بحسابات الطقس والفصول مما جعل الموازين تختل في هذا اليوم وجرعة أخرى تضاف إلى قلق مجذوب المتصاعد. كلما تلاشت دقيقة ينتابه إحساس بالبكاء منبسطاً على غشاء الرئتين في دفء متصاعد بين مدهما وجزرهما .بصق بعنف على ظهر الزمن محاولاً إختلاس إغفاءة من بين زخم التوتر واختلال التماسك.
اقتربت
تباشير الفجر وهو والنوم لا يزالان في حالة لا ود .. عقله مشغول بمشقة الرحلة التي
تنتظره بعد ساعات قلائل. لم يكن أمامه سوى مداعبة حلمة أذن ايفا المستغرقة في
نومها. تأملها وهي تتململ في ضيق من لا يرغب في الاستيقاظ. طاف بأنامله على أطراف
جسدها الذي هو بلون البن قبل احتراقه .. اقترب بأنفه منها ربما اشتمّ رائحة البن
المقلي – تلك الرائحة الضائعة في زحمة العمل..
افتقدها طوال شهور منذ أن حزم أمتعته ورأى حبيبات الدموع محتقنة في عيني أبيه.
كانت
ايفا تسخر منه لكنها دائماً ما تلتصق بأنفه ليملأ رئتيه بعبق رائحتها. "أنت
مجنون" هكذا تصرخ في وجهه وهو مستغرق فيها .. حينها كان إطارهما قد تجاوز
الدهشة وانهزم داخله التردد.
قررت
أن تقضي الليلة معه .. ربما لا تراه لمدة قد تطول. أتت والأفق تلوح فيه نذر
العاصفة وانهال المطر سيلاً تتلاعب به الريح وهي تطرق الباب. نضرة كأنها مملوءة
بهواجس الفترينات وعيناها مكسوتان بنصف حزن ونصف شبق لتكتسبا لوناً ذهبياً. أول
مرة انتبه إلى كون عيناها ذهبيتين. فجأة ارتد به خياله إلى الخلف "ربما هي
مصابة بداء الصفراء .. " شقيقته ماتت بذات الداء قبل سنوات. لكنها فقاعة
سرعان ما تلاشت.
سألها
إن كانت غابة تعشق المطر ويحييها الحريق .. ألجمته كعادتها بأنها نار لا يطفئها
المطر "أتعرف نار الصواعق التي لا تطفئها مياه الأرض ولا السماء ! تلك هي أنا
.. لن أتتركك إلاّ وأنت محترق" هكذا قالت له وهي في غمرة نشوتها وصوت ضجيج
العاصفة يتلاشى إلى البعيد بين مدهما وجزرهما.
استيقظت
وعيناها نصف مغمضتين لا تقوي على فتحهما متسائلة إن كانت الساعة قد أزفت، ثم عدلت
من جلستها وهي تسوّي ثوبها مغطّية بعض من جسدها.
قالت
له بصوت مِلأه النعاس:-
-
لقد رأيت في المنام أنك غارق في ماء المطر.
قبّلها
بين نهديها قائلاً:-
-
أنا غارق ها هنا.
-
إنني صادقة فيما أقول .. إن رؤيتي لا تخطئ، لكني لن أتركك … قالت المقطع الأخير في شيء من الغموض.
وفي
غمرة أخذهما وردهما ترامى صوت العربة المقاوِمة للوحل من بعيد ... تمييزها ليس من
الصعوبة حتى من هذه المسافة فصوت ماكينتها لا تخطئه أذنه. لملم أطرافه المبعثرة
بينما ايفا متشبثة بآخر جزء منه … لكنه انزلق. لا بد من إنجاز العملية في
مواعيدها . لم يسبق لمجذوب إختراق تلك المناطق وهو الحالم باختراقها منذ قدومه
وصورة عمه عالقة في ذهنه.
قالت
له ايفا مرّةً وهما بعد على عتبات التقاء الأنامل وانزلاق أطراف التحسس مصادفة،
قالت له وعيناها تلمعان :-
-
ملامحك تقاطع بعض ملامح أبي.
-
أما زلت تذكرين ملامحه … لقد سمعت من جدك أنه مات منذ سنوات وأنت بعد
طفلة.
تكاثفت
خطوط حزن واكتسبت عيناها لمعاناً بلون خطوط الحزن لتقول في صوت مذبوح:-
-
ذبحوه .. ذبحوه كما تذبح الشاة.
أجفلت
دواخله في الوقت الذي واصلت ايفا حديثها:-
-
هل تصدق!! وقتها لم أبلغ التاسعة بعد .. أو ربما بلغتها لكني استوعب تماماً ما كان
يحدث. قالوا لي وقد غرقت قدماي في بحيرة دمه … قالوا لي لولا إن دمك ممزوج ببعض دمائنا
لذبحناك مثله وخرجوا لا يلوون على شيء.
واصلت
حديثها الذي يقطعه نحيب:-
-
أتدرى عندما تغرس سكين حادة في عنقك وتذبحك من الوريد إلى الوريد كما يقولون!! هذا
ما رأيته بأم عيني. كنت جامدة متماسكة عكس أمي تماماً … إنهارت لمشهد الدم المتفجر لكنهم ركلوها …
لم يفعلوا بها أكثر من ذلك. ركلوها وهم يشتمونها ويصفونها بأنها مجرد جيفة
استهلكها هذا القذر. كانت عيونهم بلون الدم وهم يشيرون إلى أبي …
لم تكن الروح قد فارقته بعد. ما زال جسده ينتفض والرأس معلق بقطعة صغيرة برقبته.
ما
أفظعها من ليلة. أدركت ايفا فظاعتها بعد عدة أيام. قبلها كان التماسك …
تماسك الدهشة والذهول … تدرك الآن انه تماسك زائف. تقيأت المشهد بعد
عدة أيام ولا تزال بقايا من دمه عالقة بأطراف قدميها الصغيرتين …
لم تغسلها.
ليلتها
كانوا هي وامها وأباها يتشرّبون القمر الرامي بجدائل ضوئه الفضي على الكون …
قمر مكتمل أسكن فيهم اطمئناناً ورضاء … رغم علمهم بإكفهرار الوضع وسماعهم بحالات
القتل التي تجري بين الطرفين. الثوار لا يتورعون في قتل من لا يسكنه دمهم …
يعتبرونهم سبب المأساة. وكانت قوات الحكومة ترد بغباء كما سمعت من أبيها.
دار
جدل طويل بين الزوجين … وجالت بينهما فكرة العودة معه إلى ديار أهله
حيث يصدرون الموت، تجادلا طويلاً وهي تنظر إليهما في قلق إلى أن رأت القبول في
عينيي أمها. وتحول الحديث إلى تحديد موعد السفر. كانت الأمّ تصرّ على أن تضع طفلها
هنا ومن ثم يغادروا على خلاف ما يرى أبوها. ما دروا إنهم يختبئون تحت السور وقتها.
مع
انطلاق زخات رصاص من مناطق متفرقة رأتهم ايفا يتخطون الحائط القصير قفزاً، وقبل
استيعابها لما يحدث كان أبوها ملقي على الأرض وسكين طويلة حادة تمر على رقبته لتحز
عنقه … بقي الرأس معلقاً. وكان القمر مضيئاً ..
منيراً .. بدراً، ولكنها رأته بلون الدم.
بقدر
ما أحبت ايفا أباها كرهت في تلك اللحظة أنها إبنته. أمها أجهضت بعد سقوطها إثر
الركلة القوية التي تلقتها … قبل ثوان كانت تقول إنها لن تضع طفلها إلاّ
في بيتها هنا. وضعته رغماً عن كل شيء وعنها. كان شاهداً على ذبح أبيه قبل ولادته …
كتلة من اللحم محاطة بكيس مخاطي اندلقت في اتجاه الذبيح وجسده ما سكن بعد، لا يزال
منتفضاً وصوت شهيق مرعب يخرج من حنجرته المقطوعة. خرجت عينا أمها عن محاجرهما …
لم تكن تنظر في اتجاه زوجها لكن صوت شهيقه مرعب لم تحتمله … سرعان ما تقيأت وفقدت وعيها.
كانت
عينا ايفا تلمعان عند بداية حديثها عن موت أبيها .. وفي تلك اللحظة صارتا تبثان
إشعاعاً غريباً وفجأة ارتمت على حجر مجذوب وطفقت تسبح في بكاء ساكن.
"أنت
تحمل ملامحه" أول بادرة أمل لاحت لمجذوب لمعرفة مصير عمه. " ولكن هل
سأكرهه … كفعل ايفا مع أبيها … وينتهي حلم إكتشاف الغموض والسحر ؟"
ذابت ملامح زروق بين جدران الذاكرة فجأة، ومجذوب متنازع بين سؤالها وهي مسجونة
داخل حالتها تلك وإرجاءه إلى حين آخر ولكنه استجاب لرغبة في عدم مدّ أوجاعها.
ما
زالت بقايا مطر تغسل أوراق الأشجار السامقة وهو منتصب القامة ببزته العسكرية أمام
العربة التي ستقله إلى حيث القوة المتحركة تحت قيادته، في حين انسلت ايفا خفية.
رتل
من الناقلات والعربات المدرعة مصطفة أمام مبنى القيادة أدى أمامها التحية لقائد
المنطقة مستمعاً إلى آخر الأوامر منه. أول قوة بهذا الحجم تحت قيادته المباشرة
متحرك بها إلى منطقة لا يعرف عنها شيئاً في الواقع سوى تنوير عسكري وطريق لم يسلكه
من قبل. لكنه مطمئن إلى صحبة بعض الخبراء والمرشدين رغم احتمالات حدوث معركة ونذر الحرب التي بدأت تلوح في الأفق بعد تمرد
قوة من الجيش واتخاذها موقعاً حصيناً كقاعدة لانطلاق هجماتها. وهو ما أضفى على
مشهد القوة بآلياتها وكأنها مقبلة على معركة شرسة.
دخل
الأب سريليو على مجذوب عقب تسرب نبأ التمرد، وقد ازدادت خطوط الشيب على رأسه وهو
مملوء بنشوة ورهط من الاحزان، مؤكداً له ما ذهب إليه يوماً بأن بوادر الحرب تلوح
في الأفق. كانا قد صارا صديقين برغم العمر الذي يتقاطع بينهما عقب رسو العبارة إلى
الميناء النهري الكبير. أصرّ وقتها وفي أريحية لا تخطئها أروقة الكرم والسخاء على
استضافته في داره قبل تبليغه لقيادته.
هو
أول يوم يلتقي فيه مجذوب ايفا حفيدة الاب سريليو. لحظتها فهم كل لغته المملوءة
غمزاً ولمزاً حين التقيا هي وهو وجهاً لوجه. كانت فرحة .. لا .. ليست بلقائه
ولكنها هكذا دائمة الفرح … تبعثر جدائل فرحها هذا دون منِّ لتغطي بها
عناصر هزيمة وانكسار طافحة على ملامح وجهها الغض … أو هكذا بدا له الأمر لحظتها.
تجاهل
حينها سؤال ايفا عن عمه حتى لا يثير أشجانها مترقباً سانحة ينفذ من خلالها إليها.
وسرعان ما تكاثرت ازرع معرفته بأهل المدينة وخاصةً القادمين من عكس اتجاه النهر.
كانت سوق المدينة تعج بهم حيث يديرون تجارتها منذ زمن ليس بالقصير…
لا أحد من أبناء المدينة الأصليين يعمل بالتجارة. اخترق مجذوب ببزته العسكرية عالم
التجار مقرراً عدم طرح نفسه كإبن أخ لزروق، متجنباً بذلك تداعيات التعارف
والتزاماته، تاركاً لنفسه مساحة التوغل في اكتشاف السحر والغموض بتأنِ …
مستعرضاً قدراته في فك الطلاسم دون إفساح المجال لمفاجآت تقطع عليه الحلم.
الطقس
لزج يكاد هواؤه يلتصق بالجسد… إنها رطوبة أواخر أبريل التي تنذر بقرب موسم
الأمطار. الرطوبة العالية - تلك التي يصعب معها التنفس في سهولة - تبشّر الأهالي
بخريف ناجح وتزيد مياه النهر سكوناً في انتظار أشهر الفيضان. يومها إستقل مجذوب
عربة الجيب الخاصة بالقوة في جولة معتادة على السوق متنقلاً بين أزقته إلى أن وجد
مكاناً رحباً مجاوراً لمتجر عبد الرسول. لم ينتظر ترحيب عبد الرسول المعتاد لكي
يترجل من العربة، وإنما بادر بالخروج من مأزق الحرارة المرتفعة مؤملاً في التقاط
بعض أنفاس على الطريق المزدحم بالبشر والأبقار وبعض غبار.
مظلة
المتجر مليئة بالرواد فكثيرون إعتادوا تعاطي القهوة في هذا الوقت معاً، لذلك إنتصبوا
وقوفاً، حين اخترق مجذوب الظل محتمياً به، مفسحين له المجال للجلوس على أحد
الكراسي القليلة بينما يفضل أكثرهم الجلوس أرضاً. لمح مجذوب بينهم شخصاً غريباً لم
يره من قبل أشيب الرأس وندبة كبيرة تغطي على ملامح وجهه. وما أن إعتدل في جلسته
على الكرسي في طرف من المظلة وأخذت أنفاسه تستجمع أطرافها حتى بادره الغريب:-
-
تكاد تشبه لي أحدهم … ثم التفت إلى عبد الرسول مواصلاً … إنه
يشبه زروق، بل هو نفسه أليس كذلك يا عبد الرسول؟!
تصبب
مجذوب عرقاً وهو يسمع اسم عمه يتردد لأول مرة أمامه ورغم انتظاره الطويل لسماع
أنباء عن عمه إلاّ أنّ المفاجأة أخذته وكأنما لم يحسب للموقف حسابه. لم ينقذه سوى
عبدالرسول الذي ابتدر الغريب متسائلاً:-
-
زروق ؟! زمن طويل منذ غيابه … لا أستطيع حتى استرجاع ملامحه.
قال
مجذوب متشبثاً بآخر الجملة:-
-
ربما يخلق من الشبه أربعين.
قالها
وابتسامة عريضة تستر ارتباكه.
-
هذا عمك حاج الطاهر … استدرك عبد الرسول ثم واصل متسائلاً …
ولكن كيف لم نتذكره طوال تلك السنين ؟ ربما ركب التيار وعاد إلى ديار أهله، أو
ربما ذبحوه دون أن ندري.
قال
حاج الطاهر:-
-
لا لم يعد إلى ديار أهله.
تساءل
منصور:-
-
ولماذا لا يعود، فأنت قد عدت إلى ديار اهلك هرباً من الذبح ولم ترجع إلاّ بعد هدوء
الأحوال.
-
لا … لا اعتقد، مازلت أذكر رحلته إلى الأعماق في
قمة زمن المذابح … ثم إنهم يثقون فيه أكثر من أنفسهم.
الآن
الريح مواتية لتبحر سفن الاستكشاف في بحر الشفرة والطلاسم … متصاعد حجم الثقة هازماً الارتباك والعرق
الذي تصبب. وتذكر مجذوب ايفا ليتساءل:-
-
وهل فيه بعض من دمهم؟
-
إن دماؤنا ممزوجة في هذا النيل … هذا ما كان يردده، لكنه كان صديقاً للأب
سريليو … لا يكاد يبرح داره أو العكس.
ردد
عبد الرسول مؤكداً:-
-
كان شاباً لم يتجاوز العشرين عندما قدِم لأول مرة بصحبة أخيه …
والتفت إلى حاج الطاهر متسائلاً … هل تذكر اسمه؟
-
نعم … سلمان.
واصل
عبد الرسول:-
-
كان زروق في قامة سريليو … لا يميزهما سوى اختلاف المناخات والانتماء
للشمس والمطر وشارب زروق الكث الذي يزيده وسامة.
كان
زروق غريب الأطوار منذ قدومه وتخلفه في المدينة بعد عدة رحلات مع سلمان …
بعيد عالمه عن عالم أهل التجارة وهذا سر ثقة الأهالي الزائدة فيه. لم يكن القادمون
يحملون له حقداً، فهو كثيراً ما كان حائط صدٍ بينهم والسكاكين المشرعة في قمة زمن
المذابح. أيامها كانت رغبات الهروب إلى الديار تتنازعهم في مقابل ثروات جمعوها
بشتى الطرق، قبل أن يفطن الجميع إلى حقيقة الأمر.
لا
تزال مسيطرة على ذاكرتهم تلك اللحظات التي شتم فيه زروق صديقه سريليو وسط السوق
وفي ذروة الأحداث الدامية. إكتشفوا بعدها أنه حائط صد لهم أثناء إحدى رحلاته في
اتجاه مجرى النهر. كانوا قبلها يملأهم الرعب وكانوا يستغربون كثرة أسفاره وقدرته
على اختراق الحواجز وشلالات الدماء، وتتملكهم الشفقة عليه لعلمهم أنه في عمق منطقة
ساخنة لا يجرءون هم على اختراقها مهما كانت مصالحهم.
رعشة
إعترت جسد مجذوب ورتل المركبات متحرك … لم تكن بفعل برودة الطقس المفاجئة، هو يدرك
جيداً أنها ليست لذلك السبب، فالرؤية أمامه واضحة وأعماقه كلها شوق لملاقاة عمه.
دواليب عقله مغطاة الآن حتى نسي المهمة الموكلة إليه ونسي معها رهبة المهمة الأولى
التي تحدد مصيره كضابط في الجيش. الآن يرى عمه ذو العشرين ربيعاً في قمة نشوته
ممتطياً أحلامه متمرداً على أمه وعلى أخيه، يحمله إصرار غريب على السفر.
لا أحد يعلم بالتحديد مكان عمه ولا هو تجرأ على السؤال عن ذلك مفضلاً السير في طريق الغموض والسحر دون دليل. ولكن ماذا يفعل للمطر الذي ربما يغرق في مياهه … ابتسم لذلك الخاطر وامتدت إليه ايفا بفرحها المدسوس على حزنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق