الوقت تجاوز منتصف النهار … والشمس نصف غائبة في سماء نصف غائمة. بلوغ رتل المركبات نقطة الارتكاز الأولي لم يكن في موعده تماماً … كان عليهم بلوغها قبل طلوع الفجر، لكنهم وصلوا بشق الأنفس. حطوا الرحال أخيراً وزفرة ارتياح أطلقتها الماكينات قبل صدورهم … وعورة الطريق ولزوجة الطين الوحِل جعلا الظهور خدِرة من شدة التعب.
المطر
لم يتوقف منذ بداية الرحلة إلاّ قبل ساعات. كل ذلك لم يحد من عزيمة القوة في
مواصلة السير وهزيمة العوائق والحواجز، رغم ذلك كان أقصى ما تجاوزته عند الفجر هو
منطقة خور القنا. تملكت مجذوب لحظات يأس وكاد أن يعلن الاستسلام وهو يرى تيار
الماء المندفع بقوة في مجرى الخور … تماسك في لحظة أخيرة وهو يتابع ما ستسفر عنه
تصرفات مرافقيه الذين لهم دراية وخبرة بالطريق.
بدا
التيار صريعاً ومجذوب ينتظر مع أول العابرين بقية القوة التي لا تزال تحاول العبور
من الضفة الأخرى مخترقة صلف وجبروت الماء المندفع. داخلته لحظتها قوة رفعت بصدره
عالياً ليمتلئ هواءاً ثقيل مزدحم برطوبة لزجة حد الاختناق.
منطقة
عالية نسبياً تلك التي وقع عليها الاختيار لتكون ملجأً للقوة لتأخذ قسطها من
الراحة … المياه لا تسكنها كما بقية البقع وان كانت
لا تخلو من وحل، وتحفها الأشجار الضخمة. لا مجال لمزاولة الرؤية بغير استغفال تلك
الأغصان الضخمة ليطل السماء … سماء كئيبة تبعث إلى الملل.
تقدم
مجذوب إلى الطريق مرة أخرى مراوغاً الوحل، يرافقه بعض أفراد القوة بحثاً عن ملامح
تبعث إلى الارتياح. الطريق إلى الخلف تبدو عليه آثار رتل المركبات الجاثمة على
الطريق مثيرة بين أطرافه فوضى … راسمة في عمقه جروحاً عميقة امتلأت أكثرها
بماءٍ عكر. وعلى امتداد الطريق إلى الأمام لا يبدو شيء … الملامح ذائبة بين تشابك الحشائش وأغصان
الأشجار الضخمة المتدلية على جنبات الطريق. لا أفق يمكن التطلع إليه.
عاد
مجذوب ومرافقوه إلى حيث البقية التي اتخذت مواقعها، في حين تقدم ناحيته أحدهم
محاذراً الانزلاق … همس في أذنه:-
-
أنني اشتمّ رائحة غير مطمئنة أيها القائد.
لم
يكترث كثيراً لتلك المخاوف … إنها أول عملية تحت قيادته المباشرة ولابد
من إظهار رباطة جأش وسط أفراد قوته. وسرعان ما انتحى جانباً معداً لنفسه مكانا
ليريح جسده بعد إزاحة حزمة من العشب المبتل. الاكتراث مع ما يحمله جسده من ذرات
تعب يشوش ذبذبات التفكير والتصرف. وهو متوسد فراشه البلاستيكي اخترقت نسمات مبللات
بالندى فتحتي انفه … لا تزال بقايا رائحة من جسد ايفا عالقة
بأطراف انفه.
دوي
انفجارٍ ثان جعله يجلس القرفصاء لتلتقي عيناه بعينين تحملان تقريعاً ولوماً وسخرية
… تقول له صراحة "لقد حذرتك قبل قليل
بأني اشتمّ رائحة … ألم اقل لك … ألم اقل … " أشاح ببصره بعيدا مستدعياً كل شجاعته
وقدراته، تتنازعه حالة خوف والصدمة الأولى وضرورة التماسك. انهمرت زخات رصاص هذه
المرة ليحتمي الجميع بالأرض بينما استلقى هو على اقرب ساتر يقيه منها. ثم انفجار
آخر في الناحية الغربية لتخترق شظية ساق أحد الجنود ومع صوت صرخته انهمر الرصاص
متواصلاً دون انقطاع … رغم كثافة الأشجار وجذوعها الضخمة لكنها تمر
فوق رؤوسهم ليفقدوا السيطرة وامتلاك زمام الأمر.
عند
انطلاق الشرارة الأولى كان الرمل بكراً، يستجيب بسهولة للخطوط المرتسمة على ظهره،
والولي ما كان ليحتاج لأكثر من رسم خطوط تتخللها نجمات وبضعة أحرف مبهمات. ليفتتح
خط سير القوافل في الاتجاه المعاكس للتيار بعد قراءة الحظ.
سارت
جحافل الركب الأول سالكة مجرى النهر بعد إعداد مركبها الضخم وأخشابه تحنّ إلى
موطنها. ومع سبعين حارساً مزودين ببنادق وذخائرها يقبع التاجر واثنان من مساعديه
بين حمولات من الخرز الملون والأبيض وخواتم نحاسية وكثير من الحبوب وبضائع أخرى.
ومن
بين ما حملت المركب روح ليست كأرواح تلك المجاهل … انطلقت متقدمة الركب، مخترقة تيار المياه
الذي لا يبدي مقاومة تذكر، تقود الدفة إلى منتهاها وكأنما مارد فك أسره. والنهر مذعن
لاختراقه ولحبل الأجمة المزداد ضيقاً حول مجراه كلما ازداد حنين الشمس إلى معانقة
الاستواء.
بوصول
المركب لمرساها، انطلقت الروح من عقالها إلى حيث الفضاء الرحب مستكشفة ما خلف
الضفاف. وبنـزولهم إلى اليابسة يكتشف التاجر ومرافقيه انهم وسط عالم مليء
بالتناقضات، ليفاجئهم عظم قادم من بين ثنايا الأشجار. فأل سيئ أنتفض له بعض أفراد
الحرس المصاحب من ذوي الجذور المغروسة ما بين الغابة ومجرى النهر العرضي. آباؤهم
هربوا زمن البيع المجاني بسبب العظم وسطوة الرماح الحادة … كانوا ضعفاء، أضعف من مجابهة ذلك الجبروت.
وفي الليالي المقمرة كانت حكايات تروى بعيداً عن مسامع الآخرين .. كانوا يسرّون
لأبنائهم بما واجهوه هم وأجدادهم في زمن غابر. ليعود الأبناء بصحبة التاجر في هذا
المركب الضخم مسيطرة عليهم نشوة العودة، حاملين على أكتافهم بنادق لا قبل لسلاطين
أجدادهم بها، ولا العظم بقادر على النفاذ وابطال مفعول رصاصها.
يومها
التقت روحان في فضاء بعيد … واستل التاجر مسبحة متخذاً له موقعاً في
البسيطة وعلى رمل الضفاف بدأت الخطوط تبحث ما خلف الأكمة لتلمع شرارة حيث ملتقى
الروحين. ومن لحي الأشجار خرج سيل سهام واهتزت أوراق الموز الضخمة التي تخفي بين
ثناياها سلطان الأرض وقومه. لتبدأ الآلة عملها حين انطلاق الرصاص والتاجر محتمٍ
بالماء بينما افترش حراسه الرمل. انهمر سيل من الدماء لتصنع مجرى في اتجاه النهر
وتمتزج بمائه، واكتست السماء بلون احمر قانٍ.
انقطع
صوت الرصاص وتوقف انفجار القذائف بعد استعادة القوة لتوازنها واتخاذها لمواقع
استطاعت من خلالها الرد بقوة على الهجوم المباغت، مستخدمة العربة المدرعة ومدفعها
في إسكات اكثر المواقع الكثيفة النيران. وبرز مجذوب كقائد يدير معركة هذه المرة،
الشيء الذي جعل دواخله مغتبطة.
-
لن يعودوا ثانية.
قالها
الرقيب الماحي ، اكبر أفراد القوة سناً، وهو ينفض عن وجهه بعض عوالق أعشاب متساقطة
من أعلى.
-
وما أدراك انهم لن يعودوا يا عم الماحي؟
-
يا حضرة الضابط أنا أعيش داخل هذه الأحراش منذ تعييني، وعشت الحرب أيام كانت حرب
وحتى توقفها منذ سنوات.
قال
له مجذوب متسائلاً:-
-
ولكن لماذا تعتقد أنها لن تستمر؟
-
ليس الآن على الأقل … إن الحرب الحقيقية لم يحن موعدها بعد.
التململ
الذي تنتفض له أرجاء المنطقة منذ زمن لا يراه سوى الذي يدرك أزقتها وحواريها
ويتنفس من رئتها. خاصة وأن إعلان الهدنة لم يكن مقنعاً للبعض رغم استمراره لسنوات
حتى الآن. العيون يطل منها التوجس والحذر وتحين الفرصة للإنقضاض …
ليبدأ موت بطيء لبنود الهدنة وتصدر قرارات مثيرة للريبة زارعة بذرة يقين هذه
المرة. ماجت الأرض بحركة تنقل كبيرة وجاءت الجيوش هذه المرة بسنابك خيلها في هدوء
متسللة وسط غفلة الكثيرين. إنها الحرب المؤجلة .
-
إن علينا الاستعداد منذ الآن للمرحلة القادمة … فهؤلاء قوم لا يجدي معهم سوى الضرب وبعنف.
هكذا
بادر الرقيب الماحي قائده مجذوب بعد عودة المجموعة التي ذهبت لاستطلاع الموقف
وتمشيط المنطقة بعد توقف القتال.
وسأله
مجذوب :-
-
وكيف كانت الحرب الأولى؟
-
لقد عشتها منذ تعييني بالجيش … قاتلت هؤلاء الأوباش إلى أن رضخوا .
-
ولكنهم ليسوا هم الذين رضخوا وانما الدولة أرادت الاستقرار بعد علمها بأن الحرب
ليست هي الحل.
نظر
الماحي اليه في استغراب:-
-
يا جناب الضابط لقد بدءوا هم وأكملنا نحن.
-
الحقيقة تقول أنهم كانوا يدافعون عن حقوقهم.
-
ليست لهم أي حقوق، هذا ما كان يقال لنا … ثم إنهم كانوا يذبحون الناس في الشوارع
وداخل بيوتهم.
-
ولكنكم لم ترحموهم أيضا.
-
يا جناب الضابط، كانت تأتينا أوامر وما علينا سوى التنفيذ … وخلاف ذلك من أين كانت تأتي الطائرات؟ لقد
كان الأمر الأعلى هو حرقهم وحرق الغابات التي كانوا يحتمون بها.
فجأة
سأل مجذوب الرقيب الماحي:-
-
هل التقيت مرة بشخص يدعى زروق الحمراوي؟
-
زروق الحمراوي !! … ومن منّا لا يعرفه، ولكنه مختفٍ منذ زمن
طويل … يقال إنه في منطقة ما بعيدة، يقيم وسط حشد
من الخدم والحشم ويعيش كملك.
في
غمرة هذه المذابح كان زروق يروح ويجيء ولا تزال عالقة بذاكرة مجذوب كلماته حول
الحرب. منذ انفصاله بعد رحلته الأولى عن أخيه رأى الطريق أمامه واضحاً بلا تعرجات
مستفيداً من كل أخطاء أخيه التي إكتشفها أثناء الرحلة الأولى، خاصة بعد هروب جاد
الرب حين بلوغهم منطقة قريبة من مسقط رأسه. واكتشافه لبشاعة تلك الحملات التي كانت
تصاحب الحصول على العاج. كان قريباً من جاد الرب الذي يقاربه سناً وزادت الرحلة
علاقتهما قوة. وعندما حكى له قصته مع أخيه وقع عليه الأمر صاعقاً، فبعد خروج
القافلة من قرية (لقيتو) أخبره جاد الرب بأن أخيه اشتراه من الشيخ عطرون صديقه ومن
يومها وهو ملتحق بفريق خدمته. إحساس الصدق الذي قابله به مجذوب دفعه إلى إبلاغه
بقرار هروبه بعد اجتياز القافلة النهر.
قال
الأب سريليو في حالة من حالات صفائه لمجذوب وبينهما ايفا:-
-
دائماً ما كان زروق يردد بأنه ما حاربنا ولا راودته رغبة في ذلك، ويصر على أنّ
الثوار يحاربون نظاماً لا يعبر عنه. كنّا ندرك ذلك فيه لذلك لاقى احترام الجميع
هنا وحمايتهم.
انفرجت
أسارير ايفا ليكتسب صوتها نبرة غير محايدة:-
-
كان يحبني بشكل غريب … لم أكن وحدي تلك التي يحبها. غريب كان رأيه
في ذلك، حين يجمع أطفال المنطقة في أيام الآحاد. لم يكن يجمع سوى أمثالنا في مثل
هذا اليوم نحن الذين امتزجت دماؤنا ويقول لنا "بكم ستقف شلالات الدم
هذه". ويحدثنا عن تلك الإبل التي تقطع الصحارى بحثاً عن ملاذ وانتماء …
أعلمنا بأنهم هناك يتطلعون إلى أفق لا يملكون قرار في وسطه. كان يهز رأسه أسفاً
والحسرة تتقاطر من عينيه وهو يتمني لو أن إبلهم هذه سبحت عكس التيار وبحثت عن
جوهرها لوجدت ما هو ضائع ولما كان كل هذا التيه. كما يحدثنا عن الغابة الدائرة حول
طرق لا تؤدي إلاّ إلى ذاتها. لم نكن نفهم كثيراً مما يقوله لكن عيناه تشعان ببريق
يجذبنا جميعاً … يمتلكنا ولا يترك لنا مجالاً للفكاك منه.
ظلت
ايفا لا تعترف بأن الدم فقط هو الذي أنقذ عنقها في تلك الليلة المقمرة من الذبح،
بعد تجاوزها عتبات الوعي الأولى واستشراف ذاكرتها لأفق اكثر بعداً من الضغينة
والحقد. فهي لا تدري أين تغرس مشاعر حقدها ولا ضغينتها … لتتسرب داخل خلاياها أحاسيس محايدة. إمتلكها
زروق وصارت تردد بأنه طالما أن تيار هذا النهر مختلطة داخله دماء أهل أبيها ودماء
أهل أمها فهو دمها الحقيقي.
-
كان زروق ملاذي الوحيد في ذلك الوقت، بعد موت ابي … لكنه اختفى فجأة.
قالت
لمجذوب ذلك بعد اتساع إطارهما وبداية تلاشي زغب الدهشة .. ليعاتبها جدها في مودة
متسائلة:-
-
هل قصرنا في حقك يا ايفا … أم تسيطر عليك دفق الدم القليل الجاري في
شرايينك؟!
تناثرت
أحلام مجذوب باختراق حجاب السحر والغموض بعد اجتياز القوة التي يقودها للغابة
الكثيفة في طريقهم إلى المحطة النهائية. السهل الذي بدا خلف الغابة، بعد قهر
طرقاتها بصعوبة في ظل الوحل القائم، إمتد فراغاً داخل روحه المتوثبة إلى مساحات أكثر
تعرجاً وضيقاً، لتزداد مساحات الحذر والتوجس وهم يتحركون في أرض شبه مكشوفة. وحين
تراءت ملامح باهتة لأكواخ توحي بالحياة والحركة على عدسات منظاره توقف رتل
المركبات.
قال
الرقيب الماحي لمجذوب همساً وبصوت مليء بضرورة إثبات جدوى الخبرة:-
-
علينا إتخاذ الحيطة فهذه القرى غالباً ما تكون مأوى للأوباش الذين هاجمونا.
حاول
مجذوب استفزازه:-
-
علينا اتخاذ الحيطة حتى بلوغ محطتنا النهائية أيها الرقيب.
إبتلعها
الماحي في سخرية وهو يقول:-
-
إذاً علينا قذفها أولاً قبل اجتيازها.
نظر
إليه مجذوب متسائلاً …
-
هذا ما نفعله عادة فهم لا أمان لهم، لا نستطيع التفريق بين الأهالي وبينهم، فقد
يندسون وسطهم.
قال
له مجذوب في صرامة:-
-
التزم الصمت حتى تصدر إليك الأوامر.
تحرك
وسط دهشة أفراد قوته في اتجاه القرية بصحبة عشرة منهم. اتخذت المجموعة طريقاً
ملتوياً لدخول القرية من جهتها الغربية زيادة في الحيطة والحذر، مستخدمة الأشجار
التي تناثرت في الفضاء بينهم وبينها، والأعشاب المتطاولة، ومجاري المياه، غطاءاً
لحركتها.
عند
بلوغ طرفها الغربي إلتفت إليه أحد الجنود قائلاً:-
-
إنها مسقط رأسي أيها القائد، سأذهب لأستطلع الأمر.
- إذا لم تعد خلال ساعة سأتصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق