ستة أعوام انقضت منذ مغادرة مجذوب أعالي النهر بطائرة عسكرية بعد قضاء أكثر من أربع سنوات .. غادر إلى حيث تدار خيوط اللعبة. لا تزال رائحة ذاك اليوم عالقة في ذهنه … رائحته المختلطة برائحة ايفا ". هي شخص يرغمك على المضي معه إلى آخر المشوار " رددها لنفسه ولآخرين. ولكنه جبان، متردد مما يفارقه وعمه زروق … لا يستطيع تجاوز الخطوط الحمراء ولا تسيطر عليه جرأة زروق.
-
لن تغيب طويلاً …
قالتها
له ايفا بلسان متنازع بين الشك واليقين. بدت حينها محفوفة بغلالة حزن وغيمة تزيد
من ضبابية موقف مجذوب. وكانت تلحظ ذاك التردد الذي اعترى مجذوب في سنته الأخيرة
قبل مغادرته إلى أهله. ولكنها لا تدع هواجسها تراوح مكانها فسرعان ما تقذف بها
خارج محيط علاقتهما، ويكتسي عينيها الذهبيتين موج متدفق من الإصرار.
انقطاع
أخبار ايفا عنه في السنتين الأخيرتين أثار بعض القلق داخله، وكان دخان الحرب قد
ملأ سماء أعالي النهر وصار صوت المدافع قريباً جداً. كانت أخبارها تصله دون انقطاع
رغم أنها، وبعد يأسها من عودته، ما عادت تكتب إليه. في آخر رسائلها قالت إنها حامل،
كانت تلك الرسالة بعد ثلاثة أشهر من مغادرته. اكتشافها لهذا الأمر أصابها وجدها
الأب سريليو بالذهول. في يوم غائم شعرت ايفا بدوار فظيع وكادت أمعاؤها تخرج من
فمها .. نظرت ميري إلى أبيها وضحكت في مرارة وهستيريا، ومن بين مرارتها والهستريا
قالت للأب سريليو:
-
ايفا حامل.
وقع
النبأ على مجذوب كالصاعقة، ودواخله المرتجفة أثناء قراءته الرسالة دفعته إلى اتخاذ
قرار بالسفر فوراً، ولكن تساؤل كبير ملأ مساحات الفراغ ... لكي يفعل ماذا؟! عوالم
متداخلة بارزة على السطح الآن وهو المقيد وسط خطوطه الحمراء، وبدأت قوافل في
المسير مجتاحة كل الخديعة. مولود آخر يزيد من طقس الفجيعة بدلاً من إخماد نيرانها
كما يشتهي زروق. وما عاد العظم وحده في مجابهة الرمل بل اختلط بالنبيذ .. ذاك
النبيذ الساري منذ مولود الأسلاك الشائكة يأتي مفعولاً أقوى الآن. وما عادت
القوافل هي القوافل، ولا لصهيل الخيل ذات الصدى المرعب بعد أن صار الرعب اقرب
للتوازن منذ اندلاع الحرب الأولى، وبعد أن أطلقت ايفا على مولودها اسم فريد.
تتبع
مجذوب أنباء ايفا في السنوات الأولى بعد انقطاع رسائلها عبر بعض زملائه …
وفريد يكبر في مخيلته. لم تكن طائرة تحط
رحالها إلاّ وتحمل له أنباء عن إبنه فريد وايفا إلى أن فجع بنبأ وفاة الأب سريليو
قبل سنتين وانقطاع ما يتعلق بإبنه وايفا.
ست
سنوات مرت وها هو مجذوب منفتح على أعالي النهر وأبواب الطائرة مشرعة بعد هبوطها
إيذاناً بمغادرة الجميع. المدينة مكتسية خضرة، ولكنها هذه المرة خضرة باهتة رغم
كثافتها بعد امتلاء ساحات المدينة بالزي العسكري. الحرب قد دقت طبولها من جديد
وبضراوة ولكن الموت غيّب الأب سريليو ولم يحالفه الحظ لتأكيد صدق نبوءة الشيب الذي
خط رأسه. واختفت ايفا تاركة أمها تعاني أكثر من فقد وصريعة للتصحر في ما تبقى من
عمر لها.
عينا
مجذوب القلقتان تبحثان وسط كل شيء وأنفه يحاول استنشاق الهواء، ربما لا تزال رائحة
ايفا عالقة فيه وقد تدله إلى طريقها. لكن لا شيء سوى الزي العسكري الذي يملأ ساحة
المطار. هنا تبدو الحرب واضحة للعيان وليس كما يتصورها الجالس على كرسيه أسفل
النهر، هناك لا يسمع صوتها سوى شذرات تأتي عبر الراديو ولا يسمع لها دويّ سوى في
بعض المآتم المنتشرة هنا وهناك. أما هنا فهي حقيقة تسير على قدميها قاصفة بكل شيء
مخلفة ضغينة أبعد عمقاً. وجذر الضوء، الراسخ في الأرض والممنوع من شق القشرة بفعل
غباء الحارث والمحراث، يتململ داخل سجنه ولكنه مملوء بحياة لا تعرف الفناء.
ولكن
أين ايفا؟! ولا حتى رائحتها العالقة بالذهن طوال الست سنوات راضية بالحضور الآن،
ضائعة بين تردده ودخان الحرب المتصاعد الذي يملأ سماء الأشياء. وايفا ضائعة لكن عيناها
تطلان عليه من كل الزوايا. لم تمت، فهي الحياة، فقط تلاشى التصاقها وذابت في
عوالمها التي تكره التردد وتلك الخطوط الحمراء ليفقد مجذوب عوامل الاستشعار.
قادته
قدماه إلى شاطئ النهر حيث الشجرة الشاهدة على بداية تشكل الإطار الذي جمعهما.
وجدها وقد مالت قليلاً وأوراقها اليانعة بادية في الانحسار عن الأغصان، ليست بفعل
تبدل الفصول وقوانينها … هي الشيخوخة أو ربما التصحر الذي يضرب أسفل
النهر امتدت أياديه إليها. وتلك النسمات ما عادت ذات ندىً يخترق الجفاف، وطقس
النهر مليء بدماء ودخان جاف. طقس باعث للضجر والقلق والخوف، لا يراه سوى من عانى
مرحلة الترقب والحذر. " ليتك لا تزال بيننا أيها الأب الحكيم "، نطقها
مجذوب بأسىً محايد منطلقاً إلى دار الأب سريليو أملاً في أثر لإيفا.
المدينة
ساكنة يكتنفها غموض برغم اتساع عينيها المليئتين بالحقد، شوارعها شبه مقفرة يغطيها
الزي الأخضر الباهت … تلك الخضرة لا تنبعث منها حياة وتغطي على
تلك الأشجار الضخمة الممتدة على طول الطرقات بعد أن قتلت فيها الروح والندى. السوق
يقاوم الحقيقة وينفذ التجار إلى الحرب من زاوية التجارة ... وهذه المرة لا يستسلمون أبداً، ففى ظل الحرب تركبهم روح
القوافل الأولى يحميهم الزي العسكري حين قرر بعض ضباط الجيش استغلاله. "لن
نخسر مرتين … نحن هنا معرضون للموت وأبناؤنا سيموتون ولا
يجدون من يهتم بهم، لماذا لا نستفيد من الفرصة نحن أيضاً". انتفض مجذوب لهذه
العبارات الجديدة التي تطرق أذنه. إنه زمن الاختلال الحقيقي خاصة وأن الحرب صارت
تنحو في اتجاهات أخرى وأصبح الدمار مهنة للكسب. "ترى كيف يفكر زروق فيما يحدث
الآن؟!" ابتسم في جفاف وهو يذكره بعد زمن.
-
سيدة ميري.
رفعت
عينيها ببطء وتعب. جسدها آخذ في التآكل لكنها تقاوم بشراسة بينما تهزمها وحدتها في
كثير من الأحيان.
-
ماذا تريد؟
-
سيدة ميري …
-
ماذا تريد؟
-
دليني على أي أثر.
ضحكت
ميري … ضحكة خارجة من عمق آخر ، ارتج لها جسدها
المتآكل . ضحكت دون أن ترفع بصرها عنه ، منذ وفاة الأب سريليو وعينيها يبدو عليهما
التوتر والانحسار وانتحر داخلهما التحدي .
-
لقد قتلته … قتلت كل أحلامه.
-
وماذا عن ايفا؟
-
بعد مغادرتك، رأيت في أبي حسرة لم أشهدها منذ اختفاء زروق. لم تكن ايفا هي السبب، بل
ذاك الأمل العالق في نفسه وظل يداعبهما هو وزروق وجئت أنت لتحييه مرة أخرى. قتله
اليأس وأنت السبب.
قال
لها الأب سريليو وهو على فراش المرض إنّ مجذوب أضعف من أن يأتي." إنها رؤية
الموت، وهي صافية صادقة ولا تخطئ أبداً". كان الأب سريليو مدركاً لحقيقة
الأزمة ويرى بوضوح مخارجها بعد التقائه بزروق، مستغلاً كل قدراته من أجل بلوغها.
الكنيسة التي يرعاها وضعت تحت خدمة ما يصلان إليه من رؤى، إلى درجة أزعجت كل
الأطراف. لكنهما زرعا بعض من بذور داخل أراض جافة ليختفي بعدها زروق. لكن الأب
سريليو واثق من أنّ اختفاء زروق غير ضار، بل سيزرع أراض أخرى بالآمال، وإنما حسرته
عليه جاءت من عمق الرابط وقوته.
-
لكنك جبان يا مجذوب ولا تحمل داخلك قدرة على تحقيق كل تلك الأحلام. إن تعلق والدي
بك تعلق اليائس لا أكثر، سرعان ما اكتشفه ولكنه تسبب في موته.
كتبت
له ايفا في آخر خطاب لها أنها حامل طالبة منه الحضور. خطاب يشع بالحياة والأمل
ويحمل بين طياته توجساً وقلق … قررت ألاّ تكتب له مرة أخرى في انتظار حضوره.
الجنين ينمو ويكبر وتتضاءل الآمال في مجذوب ويبدأ تلاشي الحلم، وبموت الأب سريليو
استلقت آمال ايفا على فراش الاحتضار. لكنها تشبثت بلقاء زروق …
إنه الأمل المتبقي في فضاءاتها التي تشبعت يأساً. قال الأب سريليو لايفا وكأنما هو
مدرك لاقتراب موته:-
-
لا يساورني الشك في وجوده، لكني لا اعلم أين طريقه ولكنك حتماً ستجدينه. ابحثي عنه
ولا تدعي اليأس يسيطر عليك. إنه إنسان مليء بالخير.
بعد
عامين من وفاته وفي يومٍ غائم حملت ايفا إبنها ومتاع لا يثقل عليها …
قلبها يحدثها بأنها ستلتقي زروق في مكان ما مثلما قال لها جدها. لن تستسلم هكذا
يقول لها دائماً … ستعثر عليه. إن تعاليمه الراسخة في أعماقها
ترفض الهزيمة، زادها اليأس عزيمة على تجاوز مصير مبهم يلوح في الأفق.
انطلق
مجذوب لا يلوي على شيء … القيء يكاد يسد حلقه وضيق يملأ كل المساحات.
شعور بالانفجار تملكه ورغبة في تحطيم كل ما يراه. كاد مقود العربة أن ينزلق من بين
يديه لولا لحظة انتباه فاجأته. كل حواسه مركزة الآن حول رؤية إبنه فريد وايفا …
ساوره شك كبير في ذوبانهما مثلما ذاب عمه زروق. تزايد يأسه عند وصوله مبنى قيادة
المنطقة وهو يستدرك الموقف وسط أجواء الحرب الطاغية على كل شيء …
لا بد من السيطرة على النفس، إن رتبته لا تسمح له بالظهور ضعيفاً أمام مرءوسيه،
ولا أمام قائده المباشر.
الحرب
ماضية بلا هوادة، ويصطلي بجحيمها الجميع دون أن تلوح في الأفق بارقة أمل في
توقفها. وعند دوي المدافع تصمت بقية الأشياء ولا تجد من يسمعها، حتى فريد وايفا
تلاشيا خلف ذاكرة مجذوب بعد عامين من نقله إلى منطقة مرة أخرى أعالي النهر.
واختلّت الموازين بعد نجاح الثوار في فرض واقع جديد بانتصاراتهم العديدة التي
حققوها، وتراجع القوات الحكومية إلى مشارف المدن .
بين المدِّ والجذر وانتصارات هنا وهزائم هناك،
كان الخاسر هو الإنسان. ومن جوف تلك المأساة تنطلق آمال لدى البعض، ربما هذه
الدماء تروي شجرة الاستقرار يوماً ما. التوق إلى الأمان هاجس يمتلك الجميع، وسط
تساؤلات بجدوى ما يجري. لكنهم لا يريدونها أن تتوقف … دواخلهم مسيطرة عليها تلك الأرواح مالكة
اللعنة الأبدية. تداهمهم كلما ركنوا للسكينة أو داعبتهم أمانيهم بتحقيق أحلامهم.
تتصاعد لحظتها تلك الأرواح باسطة ظلها، متمردة على قمقمها ليبدأ الرمل والعظم
فعلهما خلف ظهورهم .
قال
مجذوب لقائده:-
-
لا مبرر لما يحدث سيادة القائد.
ابتسم
في وجهه وعيناه تلمعان ببريق خاطف ثم مال إليه قائلاً:-
-
رغم بلوغك هذه الرتبة لكنك متردد دائماً …
ابتلعها
مجذوب:-
-
سأنفذ الأوامر سيادة القائد لكن هذه مجرد وجهة نظر.
-
دع وجهات النظر للسياسيين فهم أدرى بهذا اللغط، ما علينا سوى التنفيذ.
-
ولكنهم يرموننا في جحيم لا مبرر له، ودائماً ما يسعوا إلى توريطنا في ذلك.
-
سيادة المقدم … لقد استدعيتك لتبليغك بأمر إنذاري. بعد
تنفيذ المهمة سنجد متسعاً من الوقت للحديث.
-
وما هي الأوامر؟
-
ستصاحب القوة المتجهة إلى الجبل بقيادة الملازم عثمان، سيكون تحت إمرتك. وعليك
الوقوف على التحضيرات اللازمة لزيارة هيئة الأركان إلى المنطقة. لا بد من التأمين
اللازم للوفد في تلك المنطقة وأنت مطلع على كل ما يدور هناك.
ما
أن استلقى مجذوب بعد يومٍ مضنٍ من متابعة التحضير للمهمة المكلف بها، حتى جالت في
ذاكرته تلك الليلة التي سبقت انطلاقه في أول مهمة عسكرية له. تلك الليلة انتهكها
المطر وايفا التي بين أحضانه تتلوى كأفعى محمومة باحثة عن مزيد من الدفء. تنفس
بعمق وزفرة حارقة منطلقة ابتلعتها رطوبة الغرفة. ولكن إحساس غريب أطل برأسه وهو
مستسلم لنصف إغفاءة عندما أطلت جدته، تحملها عيناها الغائرتان، ترمقه بنظرتها
المخيفة حينما كان يداعبها في قسوة.
لا
مجال للتردد الآن سينفذ المهمة كما هو مخطط لها وسيكون في استقبال الوفد في منطقة
الجبل. وهو تائه بين كل هذه الهواجس استغرق في نوم عميق دون أن يخلع عنه زيه
العسكري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق