أمير بابكر عبد الله
جاء هذا العنوان في صيغة تساؤل، أو فرضية بلغة البحوث، ضمن جملة أسئلة كنت قد طرحتها قبل أشهر مضت عن علاقة الجيش بالثورة، في محاولة (لتوطين) علم الاجتماع العسكري تطبيقاً على الحالة السودانية.
أثار رغبتي في تناول هذه الفرضية، دون الأسئلة الأخرى وربما يرد بعضها عرضاً، حديث طويل لي مع أستاذي صديق محيسي حول المشهد الراهن ومآلاته، كانت خلاصته عن آليات إسقاط إنقلاب 25 أكتوبر. ضمنه تناولنا موضوع انحياز الجيش للثورة، مستعرضين تجارب أكتوبر 64 وأبريل 84 وأبريل 2019 وأكتوبر 2021.
بقراءة للعينات الأربع الماثلة في مسيرة الحكم الوطني بعد الاستقلال، نجد أنها جاءت بعد حكم عسكري شمولي استولى على السلطة عبر انقلاب على النظام الدستوري باسم المؤسسة العسكرية، وانتفضت في وجهه ثورة جماهيرية بعد ست سنوات في الحالة الأولى وستة عشر سنة الثانية بينما تطاولت الحالة الثالثة لتصل إلى ثلاثة عقود، اما الأخيرة "ongoing".
الملاحظة المهمة هنا هي تدخل المؤسسة العسكرية في الحالات الثلاث لتحسم قضية تغيير السلطة، مقروءة مع ملاحظة أخرى لا تقل اهمية وهي أنها تدخلت ضد أنظمة "عسكرية" يحكم رؤساؤها باسم المؤسسة العسكرية لصالح الحراك الجماهيري الرافض لحكم العسكر. وتأتي ملاحظة ثالثة وهي أن كل الأنظمة العسكرية جرت أثناءها محاولات إنقلاب عليها من داخل المؤسسة العسكرية نفسها.
في الحالة الأولى استجاب الفريق إبراهيم عبود للضغوط وأعلن تنحيه بعد ضغوط من داخل المؤسسة نفسها استجابت للضغط الجماهيري، ومن ثم عاد الجيش إلى ثكناته لتستلم السلطة حكومة انتقالية مدنية. في الحالة الثانية أعلن وزير دفاع النظام المايوي عبد الرحمن سوار الدهب انحياز المؤسسة العسكرية للانتفاضة الشعبية وعزل المشير جعفر نميري، مستجيباً لضغوط من داخل المؤسسة نفسها رأت أهمية وقوفها إلى جانب المطالب الجماهيرية. مع ملاحظة أن الفترة الانتقالية هذه المرة ترأس مجلس سيادتها قادة القوات المسلحة بينما تولى التجمع النقابي السلطة التنفيذية. أما الحالة الثالثة وهي ما حدث في 11 أبريل 2019 عندما أعلنت اللجنة الأمنية لنظام المشير عمر البشير عزله واستلام السلطة باسم المجلس العسكري. ولكن لم تكن المؤسسة العسكرية وحدها هذه المرة، وإنما جاءت ممثلة لكل القوات النظامية والأمنية أو قياداتها التي كانت تمثل لجنة البشير الأمنية قبل سقوطه.
الجيش والثورة
قبل الاسترسال في حقيقة انحياز المؤسسة العسكرية للثورات الثلاث التي أطاحت بأنظمة سياسية تولى رئاستها جنرالات الجيش، لا بد من الإجابة على تساؤل جوهري، وهو هل تثور الجيوش؟ وهل قوانينها المنظمة تسمح لها بالثورة؟ تناول الكثير من علماء ومنظري علم الاجتماع والعلوم السياسية علاقة المؤسسة العسكرية بالثورة والسياسة عموماً باعتبار أن المؤسسة العسكرية تمثل ركن أساسي من بنية الدولة ومؤسساتها المناط بها إدارة دولاب العمل الخدمي لصالح الوطن والمواطن. ولكنها مثلت علاقة إشكالية ارتبطت بالسلطة والمصالح بعد تدخلها في الشأن السياسي الذي ظهر جلياً، خاصة في الدول النامية، من بينها السودان، عقب حقبة ما بعد الاستعمار.
إذا قلنا بتعريف بسيط أن الثورة هي حراك جماهيري يسعى لتقويض النظام السياسي القائم وينشد التغيير وبناء نظام مغاير، فإن المؤسسة العسكرية بطبيعة هيكلها وفكرتها وقوانينها ولوائحها غير قابلة للثورة. فهي كمؤسسة مسلحة محكومة بضوابط وتراتبية وقواعد ونظم لا بد منها للتحكم في كيفية استخدام هذا السلاح، فحتى إذا كانت تتطلع إلى التغيير داخلها فهناك قواعد لا يمكن خرقها للحفاظ آلية التحكم تلك.
بل تسمي قوانين القوات المسلحة ما نعتبره ثورة في العرف المدني بالتمرد، وربما جاء مصطلح "متمردين" الذي يطلق على حملة السلاح إبان حكم تلك الأنظمة العسكرية من مفردات قاموس القانون العسكري. ويمكن ملاحظة ذلك بكل سهولة في قانون القوات المسلحة لسنة 2007، وهو القانون الذي يطبق على منتسبي تلك القوات في حاله خرق أي من مواده. ويحدد القانون في المادة 162 (1) التمرد على النظام الدستورى "يعد مرتكباً جريمة التمرد على النظام الدستوري ويعاقب بالإعدام أو بالسجن مدة لا تجاوز عشرين سنة مع جواز الحرمان من كل أو جزء من المعاش أو الامتيازات ، كل من يقوم أو يتفق أو يخطط مع آخرين للمساس بالنظام الدستوري أو الأمني أو وحدة البلاد باستخدام القوة المسلحة، أو يثير الحرب ضدها أو يقوم بالإعداد المادي أو المعنوي لذلك أو يرتكب أي أفعال أو يقوم بأي إتصالات أو تجهيزات من شأنها أن تتسبب في ذلك .
وفيما يخص منسوبي المؤسسة العسكرية وتحت مسمى التمرد على النظام العسكرى، تقول المادة 165، يعد مرتكباً جريمة التمرد ويعاقـب بالإعدام أو بالسجن مدة لا تجاوز عشرين سنة كل من :
(أ) يقوم أو يخطط أو يتفق مع أكثر من شخص علي العصيان أو تقويض النظام القانوني العسكـري أو إحداث إخـلال كبير بالضبط والربط أو إحداث فوضـى أو شغب داخل القوات المسلحة أو الوحدة التي يخدم فيها وذلك باستخدام القوة، أو التهديد باستخدامها،
(ب) يكون حاضراً وقت التمرد ولا يبذل أقصى جهده لقمعه،
(ج) يكون عالماً أو لديه سبب يدعو للإعتقاد بان هنالك تمرداً قائماً أو نية للقيام بالتمرد ويتأخر أو لا يبلغ ذلك للجهة المختصة أو لقائده .
يفرق القانون بين "تمردين"، الأول التمرد على النظام الدستوري وهذا يشمل منتسبي المؤسسة العسكرية وغيرهم، وهو مفهوم في إطار مسؤلية المؤسسة العسكرية التي يحددها بطبيعة الحال الدستور. والثاني هو التمرد على النظام العسكري الداخلي للمؤسسة. فبنص القانون ما يمكن ان يعتبره المدنيون والسياسيون ثورة، هو في قوانين الجيوش "تمرد"، ما يشير بكل وضوح واتساق مع طبيعة ومهام وواجبات هذه المؤسسة إلى أن النظام القانوني العسكري والثورة يمثلان خطان متوازيان لا يلتقيان، بالرغم من ادعاءات قادة الانقلابات العسكرية تسميتها بـ"الثورة". مع ملاحظة أن المؤسسة العسكرية السودانية، لم تؤسس على أساس ثوري أو جاءت بعد حرب تحرير ضد المستعمر، فيه قد تأسست منذ حقبة الاستعمار، وتغيرت عقيدتها القتالية من خدمة المستعمر إلى خدمة الدولة الوطنية محافظة على إرثها دون أن تضع الدولة تصورها لكيفية الخدمة الموكلة إليها سوى ما تعارفت عليه الدساتير من واجبات حماية الدستور والحدود.
وفيما نمتلك الجرأة الكاملة للحديث عن تثوير الخدمة المدنية، فإننا نكون حذرين جداً في استخدام مصطلح ثورة و"تثوير" فيما يخص المؤسسة العسكرية، ونذهب إلى مصطلح إصلاحها ما يعني ضمناً أن الثورة والعسكرية لا يلتقيان.
انحياز المؤسسة العسكرية ومفهوم "مخالف سعادتك"
لطبيعة مهامها المقدسة " حماية الدستور وحدود البلاد"، حصلت المؤسسة العسكرية على امتيازات تراكمت خلال اكثر من ستين عاماً في ظل دولة ما بعد الاستعمار جعلتها تتجاوز صلاحياتها وحدود مهامها، بل ويتجاوز بعض من أفرادها بنيتها الهيكلية وقواعد أخلاقيات مهنتها التي من بينها الطاعة والانضباط وتقديم الجماعة على الأفراد ورفع مصالح الدولة فوق مصالح الجماعات واحترام التراتبية.
في علاقتها مع السياسة وجدت المؤسسة العسكرية نفسها تتعامل مع موقفين متناقضين وفقاً للتطورات السياسية في السودان. الموقف الأول يتمثل في تدخلها المباشر، أو بالأحرى تبنيها مواقف أطراف سياسية للسيطرة على الحكم في البلاد تحت زرائع مختلفة أو لنقل مختلقة، وهذا حدث في الانقلابات العسكرية الأربعة التي حكمت بإسمها. الموقف الثاني هو ما تسميه انحيازها لخيار الجماهير كما حدث في كل الحالات باستثناء الحالة الأخيرة التي لا تزال في مرحلة المخاض.
من خلال النتائج المترتبة على قراءة كل الحالات فيمكن القول أن المؤسسة العسكرية دائما في خاتمة المطاف ما تنحاز لامتيازاتها، والتي لن تستمر في التراكم إلا تحت ظل الدولة الموروثة بإرثها السياسي وهياكلها عن الاستعمار. ويمكنها في ذلك أن تتجاوز مهامها الدستورية وقواعد أخلاقيات مهنتها، فإذا كان الفريق عبود قائد الجيش السوداني استلم السلطة باسم المؤسسة لكنه سلمها بعد ضغط من الرتب الأدني، التي رأت ضرورة تنحيه أمام الهبة الجماهيرية الكبرى.
تبدو الصورة اكثر وضوحاً في الحالات التالية من الانقلابات في مخالفة المؤسسة لقواعد أخلاقيات مهنتها وبنيتها الهيكلية، فما أسماه العقيد جعفر نميري "ثورة"، وكذلك العميد عمر البشير فيما بعد، في ذلك الوقت كانت تمرداً على المؤسسة العسكرية التي يجلس على قمتها من هم اعلى رتبة منه في أول خرق للتراتبية التي تحافظ على كيان الجيش. لم تستطع المؤسسة العسكرية تفعيل قوانينها في مواجهة هذا الخرق لأنها فقدت امتياز التحكم والسيطرة على السلاح القائم استخدامه وإصدار الأوامر باستخدامه على التراتبية وخضعت لابتزاز الانقلابيين، ومن ثم مضت المؤسسة في المحافظة على امتيازاتها في ظل الوضع الجديد.
في الحالة المقابلة استجاب المشير سوار الذهب، وكان وقتها وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للجيش، لضغوط صغار الضباط في الإطاحة برئيسه جعفر نميري بعد تصاعد انتفاضة أبريل 1985، ولكنه حافظ على إرث الدولة وهياكلها بكامله دون محاولة المساس حتى بقوانين سبتمبر التي كانت إحدى أسباب الانتفاضة، بل ومهد الطريق لانقلاب يونيو 1989 إن كان برغبة منه أو لا. فقد فتحت المؤسسة العسكرية منذ حكومة الفترة الانتقالية مروراً بالديمقراطية الثالثة أبوابها للحركة الإسلامية التي توجت هذا النشاط المكسوف بانقلابها في 89.
في الحالة التالية، لم يمهل العسكريون (اللجنة الأمنية لنظام الانقاذ) الفرصة للقوى الثورية الجماهيرية للمضي قدماً بحراكها إلى حين إسقاط كل بنية الدولة القديمة. فهذه المرة لم تعلن القوات المسلحة "انحيازها" للثورة بل جاء ذلك على لسان المنظومة الأمنية التي تشمل الجيش والدعم السريع وجهاز المخابرات الوطني والشرطة، وإن جاء الإعلان على لسان الرتبة الأعلى قي القوات المسلحة الفريق اول ابن عوف ومن ثم، وخلال أربع وعشرين ساعة، على لسان الفريق البرهان. مع العلم أن الجماهير استهدفت بحراكها الأخير في أبريل 2019 القيادة العامة للقوات المسلحة وليس غيرها، وكان في ذلك إشارة واضحة لتخطو المؤسسة العسكرية الخطوة الصحيحة متجاوزة أثناء مرورها إلى هناك مباني جاهز الأمن والمخابرات الوطني الذي يقبع بجوار القيادة العامة للجيش، بل وكانت إحدى مطالبها وشعاراتها حل الجهاز، وكذلك كان رأيها واضح في الدعم السريع وكانت ترى في جهاز الشرطة إحدى الأدوات التي يستخدمها النظام لقمعها وإذلالها. وأيضاً استسلمت المؤسسة العسكرية لذلك الواقع الذي وضعها مع الدعم السريع في سرج واحد وصار قائد الأخير نائباً لممثل القوات المسلحة في المجلس العسكري.
"مخالف سعادتك"
ما مثله الضابط بالقوات المسلحة والذي عرف عند الجماهير بـ"حامد الجامد" هو الصورة التي وضعتها الجماهير في مخيلتها وهي تمضي رغم القمع والقتل، دون وجل إلى غايتها لبلوغ ساحة القيادة العامة للقوات المسلحة. وتصرف حامد ورفاقه الذين وقفوا إلى جانب الشعب الثائر مخالفين بكل وضوح وصراحة قواعد مؤسستهم ومهنتهم لصالح الجماهير. وهذا ما تعتبره الجماهير انحيازاً للثورة حقيقة ولكنه بطبيعة الحال في عرف وقوانين القوات المسلحة هو "تمرد على النظام العسكري". وهو انحياز تجاوز امتيازات المؤسسة ومثل ضربة قوية للقواعد المحافظة القائمة عليها، فهم بدلاً من أن يوجهوا فوهات بنادقهم لصدور المعتصمين صوبوها في وجه من يريد المحافظة على امتيازات المؤسسة.
على الرغم من كونها حالة فردية، إلا أن "مخالف سعادتك" لم يصلها حامد ورفاقه جزافاً بل استجابة حقيقية للثورة الجماهيرية وهذا أكثر ما تخشاه المؤسسة العسكرية. فالفعل الذي يقوض نظامها الداخلي أكثر خطورة بالنسبة لها من مواجهة حرب مع الآخر خارج منظومتها.
"مخالف سعادتك" هو الموقف الذي يجب أن تتبناه المؤسسة العسكرية كمؤسسة دولة، وليس سلطة، وما تمثله من رمزية لمواطني هذه الدولة. وأن تواجه به نفسها في ظل القتل المتواصل الذي تمارسه آلة عنف الدولة ضد الشعب الذي جاء منسوبيها وأفرادها من صلبه، وأن تقف بحزم في مواجهته. عليها أن تقول "مخالف سعادتك" لنفسها، في تلك اللحظة فقط وعندما تصل هذه المرحلة سنقول إنها عادت إلى ثكناتها، وبدأت أول خطوات التعافي في علاقتها مع الشعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق