أمير بابكر عبدالله
مذكرة مؤتمر الخريجين 1942
"إن مؤتمر الخريجين بدعواه تمثيل جميع السودانيين وبمحاولته تحويل صفته إلى هيئة سياسية وطنية ليس فقط يستحيل عليه أن يحتفظ بالتعاون الحكومي بل أن يكون له أمل في استمرار اعتراف الحكومة به". جاءت هذه الفقرة في رد السكرتير الإداري سير دوقلاس نيوبولد على مذكرة مؤتمر الخريجين العام التي قدمها لحاكم عام السودان بتوقيع السيد إبراهيم أحمد رئيس المؤتمر في الثالث من أبريل 1942. وكانت هذه الفقرة ضمن رده، المقتضب والغاضب، جاءت على سبيل التذكير من جانبه، فقد سبق له أن أوردها ضمن مذكرة بهذا الشأن أصدرها في العام 1940 توضح علاقة الحكومة الاستعمارية بمؤتمر الخريجين.
لم تكن تلك الفقرة ببعيدة عن العقلية الإستعمارية التي أرادت أن تضع الخريجين والمثقفين، بعد أحداث ثورة 1924، في قالب يبعدها عن التأثير على المواطنين. فبعد الضربة الموجعة التي وجهها الحكم الإستعماري للنهوض الوطني والوطنية السودانية التي بدأت في التنامي بفعل النشاط السياسي الرافض للإستعمار والراغب في حق تقرير المصير للسودان، الذي قادته جمعية اللواء الأبيض وتوج بتحرك الضباط والجنود السودانيين في نوفمبر 1924، أصابت حاملي لواء الثورة من الخريجين والمثقفين حالة من التوهان والإحباط، لكنها قطعاً لم تخمد جذوة الرفض والثورة داخلهم. هذا ما جعلهم يعيدون تنظيم أنفسهم مرة أخرى بأشكال مختلفة وسط تغيرات وأحداث خارجية وداخلية شهدتها تلك الفترة، وهو ما ذهب إليه البروفسير محمد عمر بشير في كتابه تاريخ الحركة الوطنية السودانية بأن الحركة الوطنية السودانية "دخلت مرحلة جديدة بتأييد وتشجيع من الحكومة. كان معظم نشاط الانتليجينسيا للفترة بعد ثورة 1924 منصرفاً إلى الأدب أكثر منه إلى غمار السياسة. وكان نادي الخريجين بأم درمان ونادي الخريجين بواد مدني مركزي النشاط الأدبي. ولكن لم يلبث أن تطرق البحث لكي يشتمل على مسائل ذات طابع قومي" وأكده د. حسن عابدين السفير السابق والأستاذ في معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بأن "العداء الذي أظهره النظام الاستعماري، وتصميمه على كبت أي عمل سياسي جماهيري –كما ظهر في حوادث 1924- أجبر الطبقة المتعلمة على الإحتماء بالنشاط الأدبي والاجتماعي كمخرج بديل وطريق لتجميع الصفوف، وقد ترك حل جمعية اللواء الأبيض ونفي قادتها فراغاً وطنياً عريضاً لم يملأ إلا بقيام مؤتمر الخريجين عام 1938".
ما كان لأمر الوطن ان يستمر هكذا –حسب رغبة المستعمر- فالنهوض الوطني الرافض له يستمر في التزايد، وساهم في ذلك عدة عوامل خارجية من بينها عودة المصريين مرة أخرى إلى السودان بموجب معاهدة 1936 بين إنجلترا ومصر التي قضت بإستمرار الطرفين في إدارة السودان حسبما جاء في إتفاقية الحكم الثنائي 1899، بعد أن أجليت القوات المصرية في وقت سابق نتيجة خلافات بين الطرفين. وكذلك أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية التي فرضت واقعاً مختلفاً إستدعى بعض التغيرات في منهج الإدارة الاستعمارية للبلاد. لعب رجل المخابرات البريطانية في صياغة المنهج الجديد الذي يقوم على السيطرة على والتحكم في مختلف قوى السودان السياسية في فترة ما قبل الحرب، خاصة بعد عودة المصريين ومشاركتهم في الحكم، واصدر سايمز مذكرة سرية حملت الخطوط الرئيسية لمخططه لتشجيع الحركة الوطنية وإغراء الخريجين بالتعاون مع الإدارة البريطانية على أساس سياسة السودان للسودانيين وقطع الطريق أمام أي تحالف محتمل بين السودانيين والمصريين.
هذا الوضع شجع الخريجين على إعادة تنظيم صفوفهم ويجتمعوا ليعلنوا قيام مؤتمر الخريجين العام ويتجاوزوا نكسة ثورة 1924، ولعبت عدة عوامل في ذلك، فقد جاء مؤتمر الخريجين نتيجة لانتكاسات وتراجعات وضغط استعماري شديد، وعوامل خارجية كمؤتمر الهند والحركة الوطنية المصرية وحتى إندونيسيا. القوى الثورية في العالم في ذلك الوقت لعبت دوراً في التضامن مع بعضها بما فيها السودان جاءوا من الصين وروسيا وانجلترا لتقديم المساعدة للسودانيين، كل ذلك مسجل في تقارير أقلام المخابرات البريطانية. مثلما قدم السودان لآخرين مساعدات كما حدث في كينيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا، السودانيون كانوا منفتحين على العمل في العالم المحيط بهم على عكس كثير من الدول الأفريقية.
بالرغم من المحاولات المستمرة التي قام بها المستعمر لفصل الخريجين والمثقفين عن القضايا الوطنية وعزلهم عن المحيط السياسي، وحصر نشاطها في المجال الاجتماعي والأدبي والثقافي، ومحاولات الزعماء الطائفيين والدينيين إحتواءه ورفضهم له، إلا أن مؤتمر الخريجين انتقل إلى مرحلة النضج والمصادمة في دورته الخامسة عام 1942، وتوج ذلك بمذكرته الشهيرة التي رفعها للحاكم العام في أبريل من نفس العام.
جاءت تلك المذكرة حاملة بين طياتها التطور البارز في التفكير السياسي ونضجه لدى الحركة الوطنية السودانية، واشتملت على العديد من المحاور الأساسية التي تبرز الرفض لإستمرار الإدارة الاستعمارية في الهيمنة على الشأن السوداني، والرغبة القوية في الحصول على تقرير المصير وتمكين السودانيين من إدارة شئونهم. كان ذلك واضحاً في البند الأول من المذكرة الذي طالب الحاكم العام ب"إصدار تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب مباشرة وإحاطة ذلك الحق بضمانات تكفل حرية التعبير عن ذلك الحق حرية تامة، كما تكفل للسودانيين الحق في تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني".
محاور المذكرة
توزعت محاور المذكرة بين السيادي والتشريعي والإداري والاقتصادي والتعليمي في اثني عشرة بند، فبعد حق تقرير المصير طالب المؤتمر بتأسيس هيئة تمثيلية من السودانيين لإقرار الميزانية والقوانين وفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. ومن أكثر الموضوعات أهمية التي وردت في المذكرة هو مطالبة سلطات المستعمر بإلغاء قوانين المناطق المقفولة ورفع قيود للاتجار والانتقال عن السودانيين داخل السودان، وطرق هذا الموضوع إلى جانب المطالبة بتوحيد برامج التعليم في الشمال والجنوب في صلب المذكرة هو وعي مبكر من رواد الحركة الوطنية من المثقفين بما يهدف إليه المستعمر من تلك السياسات الرامية إلى التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وآثارها المستقبلية. وهو الأمر الذي فشلت فيه الأحزاب السياسية التي ورثت مؤتمر الخريجين في المستقبل، بعد أن أعاقت تطوره وأفرغت موحتواه، بالتعاطي الموضوعي لوضع حد لتلك السياسات وتلافي آثارها إبان فترة الحكم الوطني. ونتيجة ذلك الفشل ماثلة الآن للعيان في الأزمة الحادة التي تعيشها وحدة السودان وإحتمالات تمزقه.
إلى جانب مطالبها بوضع تشريعات بتحديد الجنسية السودانية ووقف الهجرات إلى السودان فيما عدا ما قررته المعاهدة الانجليزية المصرية، تناولت المذكرة إعطاء السودانيين فرصة الإشتراك الفعلي في الحكم بتعيين سودانيين في وظائف ذات مسئولية سياسية في جميع فروع الحكومة الرئيسية التي كانت مقتصرة على الانجليز والمصريين، إلى جانب قصر كل الوظائف الأخرى على السودانيين، وفي حالة المناصب التي تستدعي شغلها بغير السودانيين تكون بعقود محدودة الأجل يتدرب في أثنائها سودانيون لملئها في نهاية المدة.
لم تهمل المذكرة الجانب الاقتصادي، بل شددت على عدم تجديد عقد الشراكة الزراعية بمشروع الجزيرة، إلى جانب تمكين السودانيين من استثمار الموارد التجارية والزراعية والصناعية. كما طالبت بوضع قانون واضح بإلزام الشركات والبيوتات التجارية بتحديد نسبة معقولة من وظائفها للسودانيين.
رأت الإدارة البريطانية أن المؤتمر بتقديمه للمذكرة نقض عهد التعاون معها وشروط الاعتراف به، لأن المذكرة طرحت قضايا متعلقة بالوضع السياسي في السودان وهي مسألة تخص دولتي الحكم الثنائي، وانه قد خالف دستوره بمحاولة جعل نفسه هيئة سياسية وإدعاء تمثيله السودانيين، كما أن زيادة مساهمة السودانيين المستنيرين في الإدارة هو مسئولية الحكومة وحدها ولا يخص أي هيئة أو منظمة سواها.
مثلت مذكرة مؤتمر الخريجين 1942 قمة الوفاق السياسي بين أعضاء المؤتمر رغم ما كان يعتمل في داخله من خلافات لم تكن وليدة اللحظة بل تطورت منذ ما قبل نشأة المؤتمر، إذ كانت اللجنة التي قدمت المذكرة برئاسة إبراهيم أحمد وفاقية لتفادي الخلافات التي برزت ما قبل عقد أول دور للمؤتمر في الجمعيات ونوادي الخريجين، وانتقلت إلى أروقة المؤتمر.
رفض الإدارة البريطانية للمذكرة أثار السخط وسط المعتدلين والمتطرفين من أعضاء المؤتمر، مما جعل حرباً للمذكرات المتبادلة تستعر بينهما، لكنه أفرز معسكرين سياسيين أحدهما معتدل يرى ضرورة الاستمرار في العلاقة بين المؤتمر والإدارة البريطانية وآخر يرى أن لا جدوى من الحوار مع الحكومة بل مواجهتها سياسياً.
نتيجة لآثار المذكرة السياسية شرعت الإدارة البريطانية في تنفيذ أول مخطط لها لإشراك السودانيين في الحكومة المركزية. وجاءت التطورات الدستورية بفكرة تكوين مجلس إستشاري لشمال السودان وهي استجابة جزئية للمطالب التي جاءت في المذكرة أدت إلى خلاف بين أعضاء المؤتمر حيث رأى فيه البعض أنه يخص الشمال فقط ويقصي الجنوب وأن ذلك ينطوي على تهديد وحدة الوطن، وكان لك بداية الإنشقاق في المؤتمر الشيء الذي أدى إلى قيام الأحزاب السياسية . ذلك ما أكده البروفسير محمد عمر بشير في كتابه تاريخ الحركة الوطنية السودانية "بأن المجلس وجهت إليه سهام النقد اعتباراً إلى أنه أقصى الجنوب عن المجلس كما انطوى المجلس الاستشاري على كثير من المساوئ والعيوب". وكان مبرر الناطق الرسمي للإدارة البريطانية في ذلك الوقت بأن السودانيين الجنوبيين "لم يصلوا بعد درجة من الاستنارة والانسجام تمكنهم من إرسال مندوبين أكفاء لمجلس من هذا النوع".
بدأت ملامح المشهد السياسي السوداني في التغير مع بداية إنهيار مؤتمر الخريجين بعد تقديم مذكرته الشهيرة في 1942، وتكونت الأحزاب السياسية على أنقاض ذلك المؤتمر، وورثت إرثه النضالي. ولعبت الطائفية وزعيميها الرئيسيين (السيد عبد الرحمن والسيد علي) دوراً كبيراً في انتهاء المؤتمر إلى ذلك المصير. وجاء ذلك ضد رغبة العديد من أعضائه الذين كانوا يريدون له أن يلعب دوراً مهماً ويتحول إلى مؤسسة سياسية على غرار حزب المؤتمر الهندي، لكنه فشل في أن يكون موحداً بسبب التناقضات التي حملها داخله وتدخل السيدين من خلف الستار في إدارة شئون مؤتمر الخريجين.
الغرس الذي بذرته التطورات السياسية التي أفضت إلى ثورة 1924، حول المطالبة بحق تقرير المصير للسودان وتابعته التطورات السياسية بعد تكوين مؤتمر الخريجين وتضمينه في مقدمة مطالبتها للحاكم العام في مذكرته التي قدمها في العام 1942، كان بالضرورة أن يفضي إلى تطورات مهمة في المجال الدستوري في مقبل الأيام، خاصة بعد تكون الأحزاب السياسية على إثر تداعي مؤتمر الخريجين كمؤسسة سياسية. ولعبت التطورات السياسية في الخارج خاصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء والتطور الذي شهدته العلاقات البريطانية المصرية. كل لك أفضى في النهاية إلى تكوين المجلس التنفيذي وأول جمعية تشريعية بالرغم من الاعتراضات التي واجهت السلطات المنقوصة التي منحتها لها الإدارة البريطانية.
التحول السياسي الذي حدث في مصر في أعقاب ثورة يوليو 1952، كان له أثره المباشر على الصعيد السياسي السوداني، إذ فصلت على إثرها مسألة السودان عن قضايا مصر مما أدى في النهاية إلى توقيع اتفاقية في القاهرة بين الحكومتين المصرية والبريطانية بشأن الحكم الذاتي وتقرير مصير السودان في فبراير 1953. قضت الاتفاقية بفترة انتقالية يتم خلالها تصفية الإدارة الثنائية وتشكيل لجنة للحاكم العام (من بريطاني وباكستاني ومصري واثنين من السودانيين) لمساعدته في مهامه، كما قضى الاتفاق على تشكيل لجنة انتخابات للإعداد والإشراف على الانتخابات العامة للبرلمان، وتشكيل لجنة للسودنة.
تكونت بموجب تلك الانتخابات أول وزارة سودانية برئاسة اسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي الذي حصل على اغلبية مقاعد البرلمان في يناير 1954، وبدأ الصراع السوداني السوداني من ذلك الحين على أشده، إلى أن توج ذلك بأول مظاهر العنف في العلاقة بين الشمال والجنوب في أعقاب إندلاع أول نشاط مسلح ضد الحكومة في اغسطس 1955. استمر الوضع على ما هو عليه إلى أن عقد مجلس النواب جلسته التاريخية يوم الاثنين 19 ديسمبر 1955، ليقف أحد الأعضاء مقترحاً "نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان ترى أن مطالب الجنوبيين لحكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث ستعطي الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية" ويثنيه محمد أحمد محجوب. وأجيز الاقتراح لدى وضع الدستور المقبل بالاجماع "وبهذا ضمن الشمال أصوات الجنوب في سبيل الاستقلال الكامل" كما ذكر محمد ابو القاسم حاج حمد.
تختتم تلك المرحلة من تاريخ السودان والتي لعب فيها مؤتمر الخريجين وقبله ثوار 1924 دوراً مهماً بوقوف عضو البرلمان عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة مقترحاً "نحن اعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نعلن باسم شعب السودان أن السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف بهذا الإعلان فوراً".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق