ملحوظة: هذا المقال كتب في العام 2006، ونشر قبلاً في موقع سودانيز أونلاين وها أنا أنتهز هذه الفرصة لنشره ليأتي مقروءاً مع ما يجري من أحداث آنية.
حكومة مشروع وطني
هل هذه حكومة وحدة وطنية؟؟ كثيرون يقولون (لا) وأنا منهم، ولكن إسمها حكومة وحدة وطنية حسب اتفاق السلام. بعض الأصوات تعالت منادية بحكومة وحدة وطنية حقيقية تضم كافة القوى السياسية، و(الإنقاذ) تتخوف من هذا الاتجاه لذلك تقطع الطريق أمامه ملوحة بالاتفاق، والحركة الشعبية لن تجازف بالتخلي عن شبر من أراضي السلطة التي (حررتها) بالتوقيع على الاتفاق.
استغرق الحديث حول هذا الموضوع وقتاً طويلاً، مثلما استغرق أصلاً للوصول إلى تلك الصيغة التي تدار بها شئون الدولة السودانية. لذلك لابد من تناول آخر، تناول فيه من الخلق والإبداع –كما أسلفت- ما يتجاوز بنا الحالة الراهنة. إن من واجبنا ألاَّ نقطف الثمار بعد أن نقطع الشجرة وهو أسهل الحلول، بل أن نقطف الثمار ونراعي الشجرة حتى تثمر مرة أخرى. إنها نقطة إنطلاقي للوثبة الإخيرة وفي ذهني ما كتبه مونتسكيو ، حسبما ورد في كتاب تاريخ الفكر السياسي، لجان جاك شوفالييه "لتشكيل حكومة معتدلة يجب ترتيب القوى وتنظيمها وتعديلها وجعلها تفعل. ويجب، إذا صح القول، إعطاء ثقل لبعضها لجعلها قادرة على مقاومة الأخرى. إنها تحفة تشريعية، نادراً ما تصنعها الصدفة، ونادراً ما نترك للحكمة أن تصنعها. أما الحكم الاستبدادي فهو، بالعكس، ظاهر للعيان، إذا صح القول. إن له شكلاً واحداً في كل مكان. وبما أنه لا لزوم لإقامته إلاَّ للشهوات، فإن كل الناس يصلحون لذلك."
أهم المطلوبات لتشكيل حكومة مشروع وطني تبدأ من "غيّروا الجوَّة". ويبدأ التغيير من خطوات تنظيم داخلية للأحزاب والحركات السياسية،. وثاني المطلوبات هو منهج تفكير سياسي مغاير لمقابلة المرحلة المقبلة، التي يجب التحضير لها منذ وقت مبكر. وثالث المطلوبات هو برنامج قصير إلى متوسط المدى لإعادة بناء الدولة السودانية المعبرة عن الجميع. ومن ثم يمكن الحديث عن تحالف انتخابي عريض بهدف حصار دولة (الإنقاذ)، وذلك بإضعاف حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، لإنجاز برنامج حكومة المشروع الوطني.
تبدأ الخطوة الأولى من العمل الجاد للأحزاب في تنظيم نفسها داخلياً، بالشروع في الإعداد لمؤتمراتها (خاصة تلك التي لم تعقدها لأربع سنوات على الأقل للوراء) لإعادة انتخاب قياداتها ومؤسساتها وإجازة وثائقها الداخلية الحاكمة. وما هو أهم إجازة برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهي نقطة جوهرية تكشف قدرات كل حزب، ومدى التزامه ببرنامجه مما يسهل على الرأي العام دعمه أو حجب الثقة عنه. وهي خطوة ضرورية للأحزاب الراغبة في خوض الانتخابات المقبلة، وفي اعتقادي أن العاجز عن القيام بها غير مؤهل للحديث باسم الجماهير وبالتالي خوض الانتخابات أو الدخول في تحالفات من أجل خوضها.
وهي أولى الخطوات نحو التأسيس لمشروع الدولة السودانية ونظام حكمها الديمقراطي من ناحية، وتفعيل دور عضوية الأحزاب ومشاركتها في صنع القرار الداخلي للاحزاب ولملمة أطرافها. يقول مونتغمري "إن إهم خطوات كسب الحرب هو توحيد الجبهة الداخلية"، ومن ثم إشراك الجماهير واستفتاءها حول برامج الحزب وحشدها للوقوف خلفه من جانب آخر. إن الململة الداخلية وظاهرة الانقسامات داخل الأحزاب واحدة من أهم أسبابها هو غياب الديمقراطية الداخلية، وعدم مشاركة العضوية في صنع القرار داخلها. كما وأن الجماهير ملَّت الشعارات السياسية الجوفاء التي تُطوى بطي اللافتات عقب انتهاء الحملات الانتخابية. وهي التي فقدت أصلاً الثقة في النظام الديمقراطي الهش، وضاعت بين قمع الدولة الاستبدادية ومتاهة المعارضة.
إن التعاطي مع الجماهير سوى من قبل السلطة الحاكمة او المعارضة ظل سلبياً، حيث ينتظر الإثنان دعمها ومساندتها، دون أن تحقق السلطة تطلعاتها ولا أن ترتقي المعارضة إلى ممارسة تحقق تطلعاتها. وها هي الجماهير تعلن رفضها للعب دور حصان طروادة، وتقف في مدرجات المتفرجين تشاهد وتشهد وتتشهد. وما فشل الأحزاب المعارضة في حشد الجماهير ضد سلطة (الإنقاذ)، وكذلك حشد (الإنقاذ) القسري للجماهير حول برامجها السياسية سوى مشهد من سيناريو علاقة الأحزاب بالجماهير.
رغم ذلك يمكن القول أنه بتلك الخطوة (الجادة) يقطع منهج التفكير المغاير شوطاً بعيداً، مخترقاً بذلك سياسة (رزق اليوم باليوم) التي انتهجتها الأحزاب طويلاً (ولا زالت)، في التعاطي مع القضايا السياسية دون استناد إلى برنامج قائم على التحليل السليم. فقضايا سياسية كثيرة تتخذ فيها قرارات دون دراسة كافة جوانبها، والعديد من الأحزاب تطرح رؤاها دون دراسة كافية ومن أجل إثبات وجود في دفتر الحضور اليومي فقط. أستثني من هذا الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، المدرك تماماً لبرنامجه ووسائل تحقيق اهدافه التي يجب مواصلة النضال ضدها.
لكي تتسق هذه الخطوة (الجادة) مع منهج التفكير المغاير لابد من الحديث عن ضرورة تغيير الأحزاب وقياداتها لمنهج التعاطي السياسي (فعلاً ورد فعل). وأول التعاطي هو طي صفحة تلك الممارسات السياسية القائمة على التعالي الأجوف، وأساليب الكيد والضرب تحت الحزام لتدمير أو إقصاء أو إضعاف حزب ما، والتي لا تعبر سوى عن الضيق بالآخر.
وبعيداً عن أنا كبيركم (الذي علمكم السحر)، فإن الحزب طالما امتلك رؤية واضحة وبرنامجاً سياسياً قابلاً للتنفيذ، فإن الجماهير هي حجر الزاوية في الحكم عليه. وهي التي تبقيه أو ترمي به إلى مزبلة التاريخ. وهو ثاني التعاطي القاضي بحتمية مشاركتها الفعلية، لا إعتبارها مجرد صهوة يمتطيها من يشاء متى شاء، فالعنصر الحاسم في المرحلة المقبلة هو الجماهير، مما يستوجب ابتداع الطرق والوسائل لإشراكها في عملية التحول والتغيير لا استنهاضها لتعود لسباتها بعد أداء المهمة. فإنتظارها لتقوم بأداء دورها المفترض في مخيلة القيادات السياسية والأحزاب يعد ضرباً من الكسل السياسي إذا لم يرق لمرتبة الانتهازية السياسية.
إن التعالي والنرجسية السياسية ملتصقة بالضيق بالآخر، أضاعت على قوى المعارضة وقبلها الوطن فرصاً كثيرة، فهي بدلاً من اتجاهها لتحقيق أهدافها المشتركة، انشغلت دوماً بمشكلاتها وحروبها الداخلية وحربها ضد بعضها. وعندما أسمع الحديث عن وحدة المعارضة وأن حزب واحد لن يحل مشكلات الوطن "أصدقك"، ولما "أشوف عمايلك استغرب". هذا بالضبط ما يحدث، ودوني الكثير الذي قيل وكتب حول هذا الأمر، بل وتجربتي في هذا الخصوص. وبقراءة واعية للمشهد السياسي والاجتماعي، وما أفرزته الحروب في كل الجبهات من تغيرات عليه، تأتي ضرورة إعادة النظر في المنهج وطريقة التفكير تلك.
إذا كانت المصائب (يجمعن المصابينا)، فالضرورة الوطنية تقتضي تفكير تصحبه ممارسة إيجابية قادرة على تفعيل الطاقات لا إهدارها. والرؤية السليمة تقول بأن على الأحزاب المعارضة بعد إنجازها مرحلة البناء الإيجابى وترتيباتها الداخلية، وحتى تلك التي جاءت بها معطيات الواقع السياسي الراهن إلى الحكم، التواضع على برنامج حد أعلى (وليس أدنى)، قصير ومتوسط المدى بملامح وخطة تنفيذ واضحة للعبور بالوطن إلى دولة المشروع الوطني.
المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، والتي ستنتهي بإقامة الانتخابات، تنبئ بأهمية المرحلة المقبلة ودورها المفصلي في تاريخ مسيرة الدولة السودانية، تستوجب التحضير لها جيداً. وهي في تقديري مرحلة ذات جزئين، أولها التحضير للدخول للانتخابات ثم خوضها، وثانيها ما ستفرزه تلك الانتخابات أو بالأحرى ما يجب أن تفرزه، إذا ما أردنا بناء دولة المشروع الوطني.
أهمية المرحلة القادمة تأتي من كونها المؤسِسة لسودان ما بعد الفترة الانتقالية، وهي فترة مرتبطة بوقت محدد له ست سنوات. وإذا كان الواقع يقول بأن الطرفين المتنفذين فرضا رؤاهما على المشهد السياسي السوداني (بوضع اليد) في المرحلة الأولى، فإن ذلك المشهد يمكن أن يتغير إلى آخر معبراً عن الجميع في المرحلة القادمة ويرسم ملامح ما بعد الفترة الانتقالية.
إذاً المرحلة القادمة قائمة على التراضي والتوافق، أكثر منها معركة تشحذ فيها النواصل. ولكن هل من السهولة بلوغ هذه الغاية؟ بالتأكيد لا، خاصة وأن حمى الانتخابات معروف هزيانها حين تسري، كما وأن شريكي نيفاشا المتنفذين يمتلكان قدرات دولة لخوضها، مما يعني صعوبة اختراق رغبتيهما في الحفاظ على ما تحت يديهما من سلطة وثروة. إضافة للأحزاب (التقليدية) ذات الرصيد الجماهيري (حسب آخر انتخابات في ظل نظام تعددي)، والمفروض فيها استيعاب درس التغيرات في هذا الرصيد والتي حققت انتصاراً للجبهة الإسلامية (الأب الشرعي للإنقاذ) في تلك الانتخابات، كما عليها استيعاب درس التغيرات التي حدثت على الصعيدين السياسي والاجتماعي التي أفرزتها الحرب (التي لم تضع أوزارها بعد)، وهي خصماً على ما تبقى لها من رصيد.
مراجع:
- إدارة الأزمة في السودان، مداولات ندوة برجن فبراير 1989م. أعدها للنشر عبدالغفار محمد أحمد، قونار سوربو ، مركز دراسات التنمية – جامعة برجن أبريل 1989م.
- الإسلام والديمقراطية، فهمي هويدي، الطبعة الأولى 1993م، الناشر مركز الإهرام للترجمة والنشر.
- السودان سقوط الاقنعة، فتحي الضو، 2006م، القاهرة، دار آفاق جديدة، مركز الدراسات السودانية.
- النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إيان كريب، ترجمة د. محمد حسين غلوم، 1999م، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
- نظرية الدولة، نيكولاس بولانتزاس، الطبعة الأولى 1978، دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان.
- الأحزاب السياسية، موريس ديفرجيه، ترجمة علي مقلد وعبدالحسن سعد، دار النهار للنشر، بيروت 1983.
- الجيش السوداني والسياسة، عصام الدين ميرغني، القاهرة 2002م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق