هل راودتك مدينة ما عن نفسها، ولم تفعل كما فعل يوسف عليه السلام، بل قد قميصك من قُبلٍ؟ هكذا تفعل بعض المدن بالبشر، تراود الجميع بلا استثناء عن نفسها، لا تستحي. ستستجيب لها، من أول نظرة، لن يردعك وازع ولا تخشى أن تقطع نسوة المدينة أياديهن. هكذا هي كسلا المدينة.
كسلا؛
مدينة دَخَلْتُها من كل الاتجاهات، من شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، من فوقها ومن
تحتها.. فدخلتني من القلب، وتوسدت على ارائكه بلا استئذان ولا انتظار. كان القلب بعد
يافعاً، لم تلوثه السنون، فما انتظرتْ قيامته ولا حراس بواباته.. اقتحمتني مثلما يفعل
بها القاش كل عام على حين غفلة. هي غفلتها أبدية، لكنها استغلت مواطن الدهشة المكتنزة
فيَّ، وتلك البراءة لتنصب مؤامرتها الكبرى بفعل فاعل وأنا مفعول به مسكون بداء العشق
المفتوح على فضاءاتها.
ليست
كما المدن الطارئة، تحكرت كسلا في خلايا التاريخ معلنة غموض نشأتها، كأنها تريد أن
تقول خلقتُ عندما خُلِقتِ الأرض، ليستعصي إثبات نسبها وأصل أسمها على الباحثين. منهم
من يرد أصله إلى جذور اللسانيات واللغة، متعلقين بمفردات ربما تصادف أن تشابهت عليهم
فتمسكوا بأهداب البلاغة وصكوا وجه الشبه، وآخرون ذهبوا بأصله إلى اسم أمير حبشي، كان
قد طارد بعض سكانها الحاليين إلى ذلك المنعرج.. وأسمه يحمل ذات الحروف. لكنها استعصت
عليهم وأبت أن تفك طلاسمها منتشية بسحرها.
كسلا ام تقاق نسمع بيك
مدينة
كلها معالم.. بل قائمة على المعالم (الجبال، القاش، السواقي، ضريح سيدي الحسن، نبع
توتيل وناس كسلا)، ارتبطت بها وقيدت وثاقها على أوتاد تلك الجبال منها. توتيل
"انثى الجبال" بنهوده النافرة كأنما اودع داخله سر التعبد في محراب الجمال
الأبدي، وتميمة العشق التي جعلت شاعراً مشهوراً يشهق شعراً:
الكل فى رجاك حارس الرزاز الراشة
كان الدنيا تسمح لى افوت العيال الزوجة والحواشة
فيكى أنا ماداير أكل ولا حتى دينار كاشة
عاجبنى الصيد النزل العصير يتماشى
مدينة
كأنها اندلقت هكذا، لترتسم معالمها تلك، محمية من التجريف والتصحر، على الأرض الفضاء.
والجبل غير جماله ونبعه وحمايته لظهر المدينة استحق أن يبسط سطوته عليها، فتلك مدينة
يحكمها الجبل منذ الأزل، ويمارس سلطته عليها.. ليجيء الضريح (ضريح سيدي الحسن) معززاً
لتلك السلطة. وكأنما اختار أن يرقد جثمانه هناك في مكان بين أسفل الجبل وأوسطه ليطل
من قبره على كل المدينة، يكشف سرها ويفرد جناح بركاته عليها.
لا
زال الضريح يحكم المدينة، مستمداً قوته من الجبل. كاذب من يقول غير ذلك، فكم من حكومة
جاءت بليل أو نهار ولم تأخذ بركاتها من الضريح. هكذا يفرض سطوته في هدوء على المدينة
وما حولها. أخذتني أمي وأنا طفل صغير بعد إلى الضريح، هي على عكس أبي الذي تعلق قلب
آبائه بالأنصار والمهدية، من ذرية عشقت "سيدي الحسن"، ولم تخالفهم وإن أخذتها
الدنيا مآخذ شتى أثناء مسيرتها إلى أن اختارها الله إلى جواره. نثرت على جسدي تلك الرمال
التي يأخذ الزائرون عادة حفنة منها، ولا زال سؤال معلق في خاطري "ألا تنتهي تلك
الرمال على كثرة الزائرين"، أم هي مثل نبع توتيل، وهو معلم آخر.
أول
مرة أقرأ فيها رواية "أولاد حارتنا" للكاتب والروائي الفذ نجيب محفوظ، وكانت
وقتذاك محظور نشرها في بلاد "المسلمين" وبامر "المسلمين"، أول
مرة قرأت فيها تلك الرواية ودخلت عالم الجبلاوي نظرت إلى جبل توتيل، فربما خرج أبطالها
من بين جنباته. أو هي حال الجبال منذ أن جعلها الله أوتادا. تلك الرواية التي أثارت
ضجة كبرى ورفض تداولها في مصر لتطبع في بيروت، وقارنها أحد المتشددين بآيات سلمان رشدي
الشيطانية وقال قولته المشهورة "لو قتلنا نجيب محفوظ الذي كتب أولاد حارتنا لما
ظهر لنا سلمان رشدي"، وأظنه عمر عبدالرحمن.
لكل
مدينة خصوصيتها وخواصها، ولكن كسلا المدينة الأكثر تفرداً، فهي مدينة حية لها قلب ينبض
وشرايين يتدفق خلالها الدم ورئتان تتنفس بهما ويتنفس فيهما سكانها وعشاقها، ثم إنها
تضم "ناس كسلا". أحياؤها العريقة تمثل جزءاً أصيلاً من طبيعتها وتضفي عليها
مزيداً من السحر والدفء. لم يكتف صاحب الضريح بسطوته الروحية على المدينة، فنصب جذوره
وأوتاده وذريته وأحفاده، مثل جبلاوي نجيب محفوظ، في أركان المدينة، حتى أسماء بعضها
جاء ليؤكد تلك السطوة.
الختمية
حي يتمدد على أطراف الجبل، والميرغنية يحتضنه القاش. القاش في ذاكرة الميرغنية (الحي)
مرتبط بالاستباحة والهيجان، فما أن يحل موسم الفيضان حتى ترتجف أوصاله السوريبة، الحلنقة،
الترعة، الشعبية، المربعات، الكارة.. كلها أحياء تتوسد شرق القاش. وفي تناغم متوازن
يحتضن غرب القاش الحي الذي يحمل إسمه، وهناك حراك آخر بنكهة خاص، ثم بانت وحي العرب
وحي العمال. حي العمال هو نتيجة مخاض السكة حديد، كثيرون من سكانه جاءوا المدينة بالقطار..
ارتبطت أشغالهم ومصالحهم به. ماتت السكة حديد هناك بفعل فاعل في زمن الموت المجاني،
لكن ظلت الحياة وظل حي العمال شاهداً على ذلك العصر. وتأبى الجغرافيا إلا أن تكمل رسم
خارطتها فتضع بعد الغرب والشرق، الذين يفصلهما ذلك الشريان، موضع الصدر من المدينة
السواقي الشمالية والسواقي الجنوبية، ليكتمل حراكها الاجتماعي وتتنفس الصداء.
الخريف
دائماً ما يزف المدينة في عرسها السنوي لتتباهى بين المدن بطقسها وعبقها. في أثناء
هذا الموسم لا تضاهيها مدينة أخرى، يجعلها تدخلك من ناحية القلب مباشرة. لا أدري كيف
سمح شيطان الشعر للشاعر محمد الواثق أن يهجوها مع غيرها من المدن:
أوشيك أشعث مغبر له ودك لو فاض بالقرب منة القاش ما اغتسلا
إذا هممت لمجد كان همهم البن والتمر والتمباك والعسلا
إني اقول لقوم من بسالتهم يغدو صغيرهم يوم الوغي بطلا
تاماي تعرفهم و هندوب تذكرهم ما فر فارسهم يوما وما اتخذلا
شعث شعورهم سفر وجوههم بيض سيفوهم سل عنهم كسلا
إذا رأيت سماء الشرق صافية ايقن أن هميل المزن قد نزلا
يا بنةَ «القاشِ» إن سرى الطيفُ وَهْناً
واعتلى هائماً، فكيف لحاقي؟
والمنى بين خَصرها ويديها
والسنى في ابتسامها البرّاق
كَسَلا أشرقتْ بها كأسُ وَجْدي
فجعلت
شاعراً آخر يتيم بها ويأتيها منشداً "كسلا ام تقاق نسمع بيك قدماً قدماً لامن
وصلنا عليك".
أهل
كسلا.. غمرتهم المدينة بروحها فأصبحت لهم نكهتم الخاصة التي تميزهم. تلك الروح مثل
معمل كيميائي، ما أن تضع قدميك على حافة مدخله حتى يصهر خلاياك وجزيئاتك وذراتك لكيما
يحقق بك ولك المعادلة التي لا بد أن يتساوى طرفاها، وهي هنا المدينة بروحها وإنسانها
بكل خباياه. ما أن ترى الشخص في أي مكان آخر، وإن فشلت في التعرف عليه من النظرة الأولى
دعه يتحدث إليك، ستعرف إنه من كسلا، أو عاش وترعرع فيها ردحاً من الزمن.
هناك
عالم تراه مثل كل المدن للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما يكتشف المرء خصوصيته كلما اقترب
منه أكثر. خيط رفيع جداً لا يكاد يبين يجعلك تتنقل بين القبائل هناك، لا تكاد تفرق
بينهم (كان هذا في وقت عشته فيها، أما الآن بعد أن جاء التتار لست أدري). الحلنقة،
الهدندوة، البني عامر وقبائل الشمال والغرب والوسط وأولاد راشد وغيرهم، توزعوا بين
أحياء المدينة. تراهم في غرب القاش بأحيائه المعروفة.. غرب القاش، بانت، حي العرب،
حي العمال والسواقي شمالها وجنوبها، وربما استجد جديد، وشرق القاش بأحيائه المشهورة
يحاصرها الجبلان من ناحية الشرق والقاش من الجنوب والغرب وتنفتح شمالاً على أفق ممتد.
يقول
بعض الأرتريين إن مدينة أغوردات الأرترية الواقعة على حافة الهضبة والمنخفضات هي مدينة
سودانية بامتياز، فهي تأخذ ملامحها في كثير من العادات والتقاليد واللغة من نبع سوداني،
وفي هذا الحديث حقائق كثيرة بل حقائق مطلقة إن شئت، لذلك لا يرى الأرتريون إنهم غرباء
في كسلا بل يعدونها مدينة أرترية بامتياز. تلك نكهة أخرى تشتمها مع أنفاس المدينة.
حبل
سري يربط بين كسلا المدينة وأرتريا.. لم تستطع حتى قابلة هذا الزمان أن تقطعه، لأنه
خلق هكذا غير قابل لـ(القطع)، لانه ليس حبلاً مادياً وإلا تحكم فيه مزاج الناس ليقطعوه
ويرتقوه حسب مقتضى الحال، هو شيء مثل مجرى البحر لا سبيل لتغييره. مثل كل الأشياء التي
تعكس التمدن (كان) هناك خط للسكة حديد يربط بين كسلا ومدينة تسني الارترية الحدودية،
وهي على مرمى حجر بالطريق البري.
تلك
المدينة لم تغب عن خارطة النضال السوداني من أجل الحرية، فقطار كسلا الشهير في اكتوبر
64 يقف شاهداً على عشق أهلها للحرية ومقتهم للدكتاتورية، وكثيرة هي مواقف أهلها المستمرة
ختى الآن. لذلك لم يكن غريباً أن كانت كسلا الحضن الدافئ للثورة الأرترية ضد الاستعمار
الاثيوبي إلى أن تحررت إرتريا، مثلما كانت تحتضن إلى جانبها المقاومة الإثيوبية لنظام
هيلا سلاسي ومن بعده نظام منقستو، ليجتمع الاثنان وينطلقا بعد عقود نحو العاصمة الاثيوبية
اديس لدك حصون النظام الديكتاتوري هناك، وتنال أرتريا استقلالها. ويستمر العسل بينهما
أشهراً معدودات ثم تعود جرثومة الحرب لتنهش جسد العلاقة بينهما. الأكثر دهشة هو إنتقال
الحرب الأرترية الأرترية (بين فصائلها) أثناء الثورة إلى داخل مدينة كسلا، ولا يزال
عالق بذهني ذلك الحادث في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وانا بعد طفل، عندما خططت مجموعة
لاغتيال قيادي في فصيل آخر كان يسكن الشعبية. ظلت المجموعة تراقب خطواته وحركته، لكنها
لم تنتبه لتلك المرأة السودانية التي كانت تراقبهم أثناء ذلك. وما أن وجدوا الفرصة
المناسبة أثناء مرور عربة القيادي المعني حتى فجروا قنبلة عن بعد لتصيب سيارة خلفه،
ويفاجاوا خلال ثواني بأن إمرأة سودانية تلقي القبض على أحدهم وتتمسك بتلابيبه، وتساعد
بصياحها في القبض على البقية. ولم تكتف المدينة بذلك بل تحتضن قبور عدد من الرموز الارترية
أمثال ابراهيم سلطان وأرقاي هبتو وسعيد صالح ومحمود حسب وآخرهم عبد الله إدريس محمد
الذي توفى في لندن وتوسد ثرى كسلا. كل ذلك وتبقى كسلا الحضن الدافئ لكل من ضاقت به
بلاده، رغم ضيق كثير من أبنائها بها الآن وهروبهم إلى المهاجر والمنافي والمركز.
أرض الحبايب يا رمز المحنة
في و اديك ولدنا ضقنا حنان أهلنا
سكانك اطايب عامرين بالأماني
ألحانك تملك نشوة و أغاني
يسعد في حبور راح ريدم حواني
لو ما فيك و لدتا كان الهم طواني
في كسلا.. كسلا ..كسلا روحي
برضك لي حبيبة
خيراتك و فيرة دوام ارضك خصيبة
القاش مناظر و جبالك عجيبة
لو مافيها روحي كيفن اقدر اسيبا
ترقد في الجبال التاكا الابية
توتيل و الحلنقة ديم الميرغنية
السوريبة روض رضوان هدية
أو
ذلك الشاعر الذي وقع في حب كسلا وترك دياره (عشانا)، أم اسحق الحلنقي صاحب القلب (الرهيف)
تجاهها الذي يناشد محبوبته البقاء (فايت مروح وين ما لسه الزمن بدري) فيصدح بها التاج
مكي ليعرف الناس كل الناس طيب شباب كسلا، أم الفنان زيدان الذي بالرغم من عنف القاش
وارتجاف اوصال المدينة حين سماع هدير امواجه يغني (باكر يعود القاش ترجع عيونو حنان).
كل
ذلك كوم والصفحة الرياضية كوم آخر، تلك الحياة التي تردت في زمن المتردية والنطيحة.
من إشراقات كسلا الموجبة تلك الحرية والرغبة في الانطلاق، فالمدينة كما ذكرت لها روحها،
فمن الطرائف أن كان والدي يوماً رئيساً لنادي المريخ في كسلا، وكان النادي يقع ضمن
اندية منطقة غرب القاش، بينما كنت أشجع (فريق) الميرغني في منطقة شرق القاش وأنا أرى
لاعبي المريخ يجولون بيننا ولا يزعجني شيء في المدرجات إلا الصياح باسم الثنائي المريخي
(عيد وسعيد)، ويناكفني جارنا مدافع المريخ مراد جمال. كان استاد كسلا عالماً قائماً
بذاته ذلك الوقت، أباطرته (مصطفاتو وحاج بدي وعيد وسعيد وغيرهم).
تظل كسلا من المدن التي تستبيح الوجدان، تحن وتشتاق إلى زيارتها مهما طال الزمن، وتظل معلقة بجدران الذاكرة بمعالمها التي لا تنطمس وأهلها الذين يتوسدون مكانهم في القلب. وكثيرة هي المدن التي تستبيح الوجدان والتي تستحق الكتابة عنها وسيكون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق