أمير بابكر عبدالله
التاريخ الموغل في القدم، حسبما اشتغل عليه علماء الآثار والمهتمون بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وحتى المؤرخين، لا يتيح لنا قراءة حقيقية لتاريخ الشعوب في جوانبه الاجتماعية والثقافية والعقائدية. لكننا نقرأه عبر بوابة المدافن الملوكية التي فك طلاسم رموزها أولئك العلماء عبر مجهودات كبيرة وتجريبات دافعة للمجهود العلمي، وهي قراءة لا تتجاوز (إلا قليلاً) سيرة تاريخ الملوك والأسر المالكة لما خلفته من آثار ننظر إليها بعظمة وفخر كمنجز انساني تاريخي. لكن في إطار تلك الكشوفات الكبرى تنطمس سيرة الشعوب وتاريخها، وهي من قام على أكتافها كل ذلك الإنجاز. هي قراءة الموتى الملوك دون شك تلك التي تغيِّب وتطمس ذلك، وإن دون قصد. ذلك ما هو متاح، استنطاق الحفريات ومحاولات ربطها بعصور متقدمة.
إذاً ظل الطابع الملوكي والتقاليد الدينية والحرب لازماً مميزاً منذ ذلك الأمد، ذلك الطابع وتلك التقاليد والحروب التي تسللت إلينا عبر ردهات المدافن، فنحن من تلك السلالة، خرجنا من بين صلبها وترائبها. وخلال مسيرة تمتد طويلاً في التاريخ يتشكل ويتكون العقل القاهِر (الذي يلغي الآخر)، متأثراً بتصاعد وهبوط وتيرة الحراك الاجتماعي الذي بدوره تأثر بعوامل كثيرة عبر تلك المسيرة. لكن القاسم المشترك بين كل ذلك يظل الخيط الغليظ الذي تنتظم حوله القيم المفاهيم والاتجاهات السلوكية، أو هو يعيد انتاجها بحيث لا تخرج عن طوعه. وهذا الخيط الغليظ (تفتله) تلك المنظومة الثلاثية:
أولها الطابع الملوكي الذي يتجلى في أشكال ومسميات مختلفة عبر التاريخ، فهو مملكة مرة أو سلطنة في أحوال أخرى أو جمهورية اشتراكية ديمقراطية ليبرالية، هو السلطة. والسلطة عند العقل القاهر لا تخدم الدولة، وإنما تطوع كل مقدرات الدولة لخدمتها، لذلك دائماً ما تزول الدولة (المملكة أو السلطنة أو حتى الجمهورية) بزوال السلطة. ولكن تظل القيم والمفاهيم والاتجاهات السلوكية التي أنتجتها مرتبطة بالقادم الجديد. فالتاريخ يروي لنا كيف تنشأ الدولة ببسط السلطة نفوذها على رقعة جغرافية بمحتوياتها المادية والبشرية، ثم تؤسس منظومات إدارتها بناءاً على ذلك، ومنظومات إدارتها ليست مجرد مؤسسات بل حزمة محددات عقائدية وفكرية تخدم مصالحها. وهي لطالما بدأت بالمظهر العشائري، ثم تتمدد بفعل عوامل متعددة أو تنهار نتيجة مؤثرات داخلية أو خارجية.
ثانيها الدين؛ الجزء الثاني من المركب الثلاثي وهو اخطرها على الإطلاق. مكمن خطورته نابع من قدسيته التي كثيراً ما استخدمت لإضفاء الشرعية، بل القدسية على الحكام ومناهج حكمهم. ومن خلاله يمكن إعادة صياغة القيم والمفاهيم بحيث يحافظ المجتمع على تناغمه وضبط إيقاعه مع كل مرحلة يحافظ فيها الكهنة على معابدهم، بل ربما يتجاوزون أحياناً دور الكهانة ليمارسوا سيطرتهم على الحكم بسيطرتهم على الحكام. تاريخ التطور الاجتماعي الإنساني يستصحب الدين كنسيج لا يمكن الفكاك من غزله، وكثيراً ما مثل عاملاً استنهاضياً هادفاً للتغيير الإيجابي في حياة الشعوب، لكنه يبقى في أروقة العقل القاهر أداة تعضد أركان السلطة والتسلط وإخضاع المجتمع لمصالحه.
السلطة في عرف العقل القاهر لا تستطيع انتاج وتوطيد سيطرتها بالقمع والعنف لوحدهما، لذلك لا بد من استعانتها بالدين غلافاً لقيمها وتلوين الأجهزة المختلفة المكونة لبنية الدولة بذلك، لإضفاء الشرعية المقدسة على العنف. ومن جانب آخر ، وحين فشله في عقلنة ما يواجهه من مشكلات أو إيجاد حلول لمشكلاته المادية، سرعان ما يلجأ العقل القاهر لتوفيق أوضاعها غيبياً في إطار تفسيراته (المصلحية) للدين.
وثالث جزيئات المنظومة المركبة هو العسكرية والحرب؛ وهي لا فكاك منها في قراءتنا للتاريخ المصاحب لنشوء وإرتقاء الممالك وفي أسباب زوالها. عادة ما يكون رأس الحكم ملكاً أو سلطاناً هو المتصدر لمجلس حربه المكون من قادته العسكريين وكثيراً ما يقود أشرس المعارك بنفسه.
للحروب دور مهم في المسيرة التي شهدتها مجتمعاتنا منذ ما قبل التاريخ، وهي مسيرة في أكثر منعطفاتها سالب، إذ لم تشهد تطوراً على مستوى القيم والمعتقدات والمفاهيم وحتى الاتجاهات السلوكية في بنية العقل القاهر. على العكس تماماً فالحروب ساهمت في تعضيد أركان تلك البنية عبر إفرازاتها وتداعياتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فالحرب على مستوياتها المختلفة، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، دائماً ما تعيد انتاج الأزمة بدلاً من إحداث التغيير المنتصر فيها هو العقل القاهر.
هذه المنظومة المركبة المنتجة لقيمها ومفاهيمها ساهمت بشكل أساسي في تشكل العقل القاهر، الغير قادر على مواجهة الواقع والاعتراف بفشله في إيجاد حلول للمشكلات المادية بمنهج تحليلي واستسلامه لوهم قدرته في المحافظة على بقائه بمزيد من القهر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق